الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنّها البعثة المحمدية التي أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة- عقيدة التوحيد- التي كانت مجهولة مغمورة، مظلومة مغبونة، أكثر من أيّ عقيدة في العالم، ثمّ ردّد صداها العالم كلّه، وتأثرت بها الفلسفات العالمية والدعوات العالميّة كلّها في قليل أو كثير.
إنّ بعض الديانات الكبيرة التي نشأت على الشّرك وتعدّد الآلهة وامتزجت به لحما ودما، اضطرّت في الأخير إلى أن تعترف- ولو بصوت خافت، وهمسة في الآذان- أنّ الله واحد لا شريك له، وأرغمت على تأويل معتقداتها المشركة تأويلا فلسفيا يبرّئها من تهمة الشرك والبدعة، وتجعلها متشابهة بعقيدة التوحيد في الإسلام بقدر ما، وبدأ رجالها وسدنتها يستحون من الاعتراف بالشّرك، ويخجلون من ذكره، وأصيبت هذه الأنظمة المشركة كلّها بمركّب النقص، والشعور بالصّغار والهوان) Inferiority Complex (فكانت هذه التحفة أغلى التّحف التي سعدت بها الإنسانيّة بفضل بعثته صلى الله عليه وسلم.
2- مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية:
ومأثرته الثانية العظيمة، ومنّته الباقية السائرة في العالم، هو تصوّر الوحدة الإنسانيّة والمساواة البشرية، كان الإنسان موزّعا بين قبائل وأمم وطبقات بعضها دون بعض، وقوميّات ضيقة، وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتا هائلا كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان، وبين الحرّ والعبد، وبين العابد والمعبود، لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقا، فأعلن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قرون طويلة من الصّمت المطبق، والظلام السائد ذلك الإعلان الثائر، المدهش للعقول، القالب للأوضاع: «أيّها الناس إن ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله
أتقاكم، وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلّا بالتقوى» «1» .
وهذا الإعلان يتضمّن إعلانين، هما الدّعامتان اللّتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام السلام في كلّ زمان ومكان، وهما: وحدة الربوبية والوحدة البشريّة، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين، مرة «وهي الأساس» لأنّ الربّ واحد، ومرة ثانية لأنّ الأب واحد يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] .
إنّها كلمات خالدة جرت على لسان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، وحينما قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الإعلان التاريخيّ العظيم، لم يكن العالم في وضع طبيعيّ هادىء يسيغ فيه هذه الكلمات الجريئة الصريحة، ويطيقها.
إنّ هذا الإعلان لم يكن أقلّ من زلزال هائل عنيف، إنّ هناك أشياء قد تتحمّلها بصورة تدريجيّة، أو من وراء ستار، مثل التيار الكهربائيّ، فقد نلمسه إذا كان مغطى، أو داخلا في باطن الأسلاك،.. ولكنّنا إذا لمسناه عاريا أصابتنا صدمة عنيفة، أو قضي علينا بتاتا.
إنّ هذه الأشواط البعيدة، والمسافات الشاسعة من العلم والفهم، والفكر الإنسانيّ التي قطعتها الإنسانيّة اليوم بفضل الدعوة الإسلاميّة، وظهور المجتمع الإسلاميّ، وبجهود الدعاة، والمصلحين والمربّين، جعلت هذا الإعلان الهائل، الثائر الفائر، المزلزل لأوكار الجاهلية، ومعاقل الشرك
(1) كنز العمال (3/ 93) برقم (5652) .
والوثنيّة والعنصريّة في العالم، منها ميثاق حقوق الإنسان Human Rights Charter الذي حملت لواءه الأمم المتّحدة، وتصريحات تقوم بها كلّ جمهورية وكلّ مؤسّسة عن الحقوق الإنسانية، والمساواة الإنسانيّة، فلا يستغربها أحد.
ولكن أتى على الإنسان حين من الدهر، سادت فيه عقيدة أشرفيّة بعض الأمم والأسر وكونها فوق مستوى البشر، وكانت بعض الأسر والسّلالات تعزو نسبها إلى الشمس والقمر، وإلى الله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء: 43] ، إنّ القرآن حكى لنا قول اليهود والنصارى، فقال: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وكان فراعنة مصر يزعمون أنّهم تجسيد لإله الشمس «ر ع) Ray ( «ومظهر له.
أمّا في الهند فقد عرفت فيها أسرتان سمّيتا «سورج بنسي» يعني: أبناء الشمس، و «جندربنسي» أبناء القمر.
أمّا في إيران فقد كانت أكاسرتها يزعمون أنّه يجري في عروقهم الدم الإلهيّ، وكان أهل البلاد ينظرون إليهم نظرة تقديس وتأليه، وكان من ألقاب كسرى أبرويز (590- 628 م) ووصفه:«في الآلهة إنسان غير فان، وفي البشر إله ليس له ثان، علت كلمته، وارتفع مجده، يطلع مع الشمس بضوئه وينير الليالي المظلمة بنوره» «1» .
وكذلك كانت القياصرة آلهة، فكان كلّ من تملّك زمام البلاد كان إلها، وكان لقبهم) August (يعني «المهيب الجليل» «2» .
(1) إيران في عهد الساسانيين: ص 604.
(2)
راجع العالم الروماني) The Roman World (تأليف،) Victor Chopart ص 418.