الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنت عنده لغسلت عن قدميه «1» .. وأذن لعظماء الروم في القصر وأمر أبوابه فغلّقت، ثمّ اطّلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد أن يثبت ملككم وتبايعوا هذا النبيّ؟ ففرّوا وبادروا إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت، فلمّا رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردّوهم عليّ، وقال: إنّي قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه «2» .
وهكذا آثر هرقل الملك على الهداية، ووقعت بينه وبين المسلمين في خلافة أبي بكر وعمر حروب ومعارك، وكان فيها ذهاب ملكه وسلطانه «3» .
من هم الأريسيون
؟
وردت كلمة «الأريسيين» أو «اليريسيين» - على اختلاف الروايات- في الكتاب الذي وجّه إلى «هرقل» وحده، ولم ترد في كتاب من الكتب التي أرسلت إلى غيره.
واختلف علماء الحديث واللغة في مدلول هذه الكلمة، فالقول المشهور أنّ «الأريسيين» جمع «أريسي» وهم الخول والخدم والأكّارون «4» .
(1) أخرجه البخاري [في كتاب بدء الوحي] ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، [برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام، برقم (1773) ، والترمذي في الاستئذان، باب ما جاء في ختم الكتاب، برقم (2718) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب كيف يكتب إلى الذمي، برقم (5136) ، وأحمد في المسند (1/ 263) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] .
(2)
[قد سبق تخريجه في التعليق آنفا] .
(3)
[قد سبق تخريجه في التعليق سابقا] .
(4)
راجع شرح النووي لصحيح مسلم، و «مجمع بحار الأنوار» للعلامة محمد طاهر الفتني.
وجاء في «لسان العرب» لابن منظور: «الأرس» : الأصل و «الأريس» : الأكار، نقله عن ثعلب.
وذكر عن ابن الأعرابيّ: أنه قال أرس يأرس أرسا إذا صار أريسا، وأرّس يؤرّس تأريسا: إذا صار أكارا.
ونقل عن أبي عبيدة أنّه قال: الأجود عندي أن يقال أنّ «الأريس» كبيرهم الذي يمتثل أمره، ويطيعونه إذا طلب منهم الطاعة «1» .
وهنا يتساءل القارىء الفطن إذا كان المراد من «الأريسيين» الفلّاحين، كان «كسرى أبرويز» إمبراطور إيران أحقّ بأن يحذر من وقوع إثمهم ومسؤوليتهم عليه، وبأن ترد هذه الكلمة في الكتاب الذي كتب إليه، فإنّ طبقة الفلاحين كانت أعظم وأوسع وأكثر تميزا في المملكة السّاسانية الإيرانية منها في المملكة البيزنطيّة الرومانية، وكان أكثر اعتماد إيران في دخلها ومواردها على الفلاحة، وإلى ذلك نبّه الأزهريّ، كما نقل عنه ابن منظور بقوله:«وكان أهل السواد من هو على دين كسرى أهل فلاحة وإثارة للأرض، وكان أهل الروم أهل أثاث وصنعة، فكانوا يقولون للمجوس «أريسيين» نسبوهم إلى «الأريس» وهو الأكار، وكانت العرب تسمّيهم «الفلّاحين» «2» .
ولذلك نرجّح أنّ المراد بالأريسيين هم أتباع «أريوس» المصريّ) Arius 082 -633 (وهو مؤسس فرقة مسيحية كان لها دور كبير في تاريخ العقائد المسيحيّة والإصلاح الدينيّ، وقد شغلت الدولة البيزنطية والكنيسة المسيحية زمنا طويلا.
(1) راجع «لسان العرب» مادة «أرس» .
(2)
المصدر السابق.
و «أريوس» هو الذي نادى بالتوحيد، والتمييز بين الخالق والمخلوق والأب والابن- على حدّ تعبير المسيحيين- فأثار نقاشا حول الموضوع، وكان الشغل الشاغل في المجتمع المسيحيّ لعدّة قرون، وآراؤه تتلخص في أنّه ليس من شأن الإله الواحد أن يظهر على الأرض، لذلك هو ملأ السيد المسيح بالقوة والكلام الإلهيّ، وأنّ من صفات الله الأساسية الوحدانية والأبدية وأنّه لم يخلق أحدا من ذاته رأسا، وأن الابن ليس هو الإله، بل هو مظهر لحكمة أمر الربّ، وأنّ ألوهيته إضافية لا مطلقة «1» .
ويقول جيمس ماكنون) James Mackinon (في كتابه «من المسيح إلى قسطنطين» :
«كان «أريوس» يلحّ على أنّ الله وحده القديم، كان الأزليّ الأبديّ، وليس له شريك، وهو الذي خلق الابن من العدم، لذلك ليس الابن هو الأزليّ، ولم يكن الله أبا من الأبد، فقد كان حين من الدهر لم يكن فيه وجود للابن، وأنّ الابن يحمل حقيقة خاصة لا يشاركه فيها الله وهو خاضع للتطورات، وليس هو الله بالمعنى الصحيح، إلا أنّه يصلح لأن يكون كاملا، ولكنّه على كلّ حال مخلوق كامل» «2» .
بينما كانت كنيسة إسكندرية في أوائل القرن الرابع المسيحيّ تدين بألوهية المسيح إطلاقا من غير تفريق بين الخالق والمخلوق والأب والابن.
وقد أقصاه رئيس الكنيسة المصريّة البطريق ألكساندر) Alexander (في سنة 321 م من كنيسة الإسكندرية، وغادر «أريوس» المدينة، ولكن لم ينته النزاع بخروجه، وحاول الإمبراطور قسطنطين حسم هذا الخلاف ولكنّه أخفق.
(1) راجع للتفصيل «دائرة معارف الديانات والأخلاق» ج 1، مقال.
) From Christ to Constantine () London ،6391 ((2)
وفي سنة 325 م عقد مجمعا في نيقية اجتمع فيه 2030 أسقفا، وكان الإمبراطور يميل إلى ألوهية المسيح فحكم ضدّ «أريوس» رغم أن أغلبية الحاضرين كانت تؤيد «أريوس» ، ولم يوافقه إلا 318 أسقفا، فنفاه إلى إليريا) Illyria (وأحرقت كتاباته، وكان من وجدت عنده يعاقب.
ولكنّ هذه المحاولات لم تقلّل من أهميّة «أريوس» وإقبال الناس عليه، وكان آخر أمره أنّ «قسطنطين» لان في موقفه ورفع الحظر على عقيدته، وبعد موت منافسه الأكبر ألكساندر ونفي خليفته) Athanasius (عاد «أريوس» إلى الإسكندرية، وكاد «قسطنطين» يولّيه رئاسة الكنيسة المصرية، ويدين بعقيدته، ولكن باغتته المنية قبل ذلك «1» .
وقد جاء في كتاب «الصّراع بين الدين والعلم» ل «درابر» أنّ ثلاثة عشر مجمعا مسيحيا حكمت ضدّ «أريوس» في القرن الرابع المسيحيّ، وخمسة عشر مجمعا حكمت في تأييده، وسبعة عشر مجمعا أدلت برأي قريب من رأي «أريوس» ، وهكذا عقدت خمسة وأربعون مجمعا للتقرير في هذه القضية.
والحقّ أنّ العالم المسيحيّ لم يكن له عهد بعقيدة التثليث السائدة الآن قبل القرن الرابع، وقد جاء في دائرة المعارف الكاثوليكيّة الجديدة:«أنّه لم يرفع الستار عن تطوّر عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلاديّ.. وكلّ من يتحدّث عن عقيدة التثليث المطلقة، إنّما ينتقل من فجر التاريخ المسيحيّ إلى ربع القرن الرابع الأخير، فإنّ القول بأنّ الإله الواحد له ثلاثة مظاهر لم يتغلغل في أحشاء العالم المسيحيّ في حياته وفكره إلّا في هذه الفترة الزمنيّة» «2» .
(1) دائرة معارف الديانات والأخلاق: مقال.) Arianism (
The new catholic Encyclopedia (2) مقال «التثليث المقدس» ، ج 14، ص 295.
ودامت عقيدة «أريوس» ودعوته تصارعان الدعوة المكشوفة إلى تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصّمد وكانت الحرب سجالا، وقد دان بهذه العقيدة عدد كبير من النصارى في الولايات الشرقيّة من المملكة البيزنطيّة إلى أن عقد تيوسودس الكبير) Theosodus The Great (مجمعا مسيحيا في القسطنطينيّة، قضى بألوهية المسيح وابنيّته، وقضى هذا الإعلان على العقيدة التي دعا إليها «أريوس» واختفت. ولكنّها عاشت بعد ذلك، ودانت بها طائفة من النصارى، اشتهرت ب «الفرقة الأريسية» أو «الأريسيين» .
إذا من المرجّح المعقول أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إنّما عنى هذه الفرقة بقوله: «فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين» فإنّها هي القائمة بالتوحيد النسبيّ في العالم المسيحيّ الذي تتزعمه الدولة البيزنطيّة العظمى، التي كان على رأسها القيصر «هرقل» «1» .
ومن الغريب أنّ بعض كبار علماء الإسلام في العصر الأول قد ذهبوا إلى هذا، فجاء في «مشكل الآثار» للإمام أبي جعفر الطّحاويّ مؤلّف «شرح معاني الآثار» المشهور (ت 321 هـ) ما نصّه:
«وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أنّ في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريسية توحّد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل، ولا تقول شيئا ممّا يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوّته، فإنّها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك،
(1) اطلعت بعد صدور الطبعة الثالثة للكتاب على بحث قيم لصديقنا الفاضل الدكتور محمد معروف الدّواليبي في الأريسيين يؤيد ما قلناه أن النّبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى بقوله: «فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين» أتباع أريوس) Arius (الفرقة المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته، وقد جاء هذا البحث القيم في رسالته «نظرات إسلامية» بعنوان:«أريسيون من جديد» ص 68- 83.