الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام، ضغن «1» ، ورأى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلمّا رأى قومه قد أبوا إلّا الإسلام دخل فيه كارها، مصرّا على نفاق وضغن» «2» .
وعادى الإسلام كلّ من كان في قلبه مرض، وفي السيادة طمع، وضاق ذرعا بهذا الدّين الزاحف، الذي هدم كلّ ما بناه، ونقض كلّ ما أبرمه، وجعل للمدينة شأنا غير الشأن، ومن المهاجرين والأنصار أمة جديدة، ألّف بين قلوبها، وبذلت نفوسها دون الرسول، وقدّمت محبّته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، فامتلأت قلوب هؤلاء المنافقين غيظا وحسدا، فصاروا يكيدون له، ويتربّصون به الدوائر، ويقلّبون له الأمور، وتكونت في المدينة جبهة معادية، متسرّبة في المجتمع الإسلاميّ، وكان على المسلمين أن يكونوا منها على حذر دائما، فقد تكون أشدّ خطرا على الإسلام والمسلمين من الأعداء المجاهرين، ومن هنا زخر القرآن بذكرهم وإزاحة السّتار عنهم، وكان لهم مع الإسلام وللإسلام معهم شأن، ويتردّد ذكرهم في كتب السيرة، وفي هذا الكتاب.
طلائع عداء اليهود:
وبدت طلائع عداء اليهود للإسلام بعد ما كان موقفهم موقف الحياد من المسلمين والمشركين من أهل مكة والمدينة، وربّما كانوا أميل إلى الإسلام
(1) الضّغن: الحقد والعداوة والبغضاء، وكذلك الضّغينة.
(2)
سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 584- 585 [وأخرجه البخاريّ في كتاب التفسير، باب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
…
، برقم (4566) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وصبره على أذى المنافقين، برقم (1798) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما] .
والمسلمين، لأنّهم جميعا يلتقون على الإيمان بالنبوات والإيمان بالبعث، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، وهم أقرب الأمم إلى المسلمين في توحيد ذات الله وصفاته- على ما اعترى هذه العقيدة عند اليهود من الوهن بحكم التأثر بالأمم الجاهليّة التي جاوروها، والبلاد الوثنيّة التي قضوا فيها أيام الجلاء والنفي الطويلة، وما دخل فيها من الغلوّ والتقديس لبعض أنبيائهم، كما شرحناه في كلامنا على الوضع الدينيّ لليهودية في القرن السادس المسيحيّ «1» .
فكانت كلّ القرائن تدلّ على أنّهم يلتزمون هذا الحياد، إن لم يشايعوا الإسلام الذي جاء مصدّقا لكتابهم، والنبيّ الذي دعا إلى الإيمان بأنبياء بني إسرائيل، وأعلن القرآن على لسان المؤمنين فقال: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] ، ولو كان ذلك لكان للتاريخ البشريّ- فضلا عن التاريخ الإسلاميّ- اتجاه آخر، ولكفيت الدعوة الإسلاميّة الشيء الكثير من المشاكل والقضايا التي أثارها الصراع بين الإسلام واليهودية، والنضال بين المسلمين الذين كانوا في دور النشوء والتكوين وبين اليهود الأقوياء الأغنياء المثقّفين.
ولكنّ ذلك لم يكن لسببين رئيسيين:
أوّلهما: ما طبع عليه اليهود من حسد، وضيق صدر، وجمود.
وثانيهما: ما بدأ القرآن به من نقد لما كان عليه اليهود من عقائد باطلة، وأخلاق منحطة، وعادات سيئة، وذكر لتاريخهم الماضي المليء بالأحداث من محاربة الأنبياء ودعواتهم، والاجتراء على قتلهم، وعنادهم، وصدّ عن
(1) راجع فصل «العصر الجاهلي» في الفصل الأول.
سبيل الله، وافتراء على الله، وشره للمال، وأخذهم الرّبا وقد نهوا عنه، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكلهم السّحت، وتحريفهم للتوراة، وحبّهم الزائد للحياة، وغير ذلك مما زخر به القرآن.
وإذا كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم سياسيّ لحسب للوضع المعقّد- الذي كانت تعيشه المدينة- حسابه، وابتعد عن إثارة سخط اليهود وعدائهم، إن لم يتملّقهم ويتودّد إليهم، ولكنّه الرسول المأمور بتبليغ الرسالة، والصدع بما أمر به، وتمحيص الحقّ والباطل، وعدم مسايرة الفساد والضّلال، والمكلّف بدعوة الطوائف والأمم جميعا إلى الإسلام، وفيهم اليهود والنصارى أهل الكتاب، مهما كلّفه ذلك من ثمن ومشكلات طريفة، فإنّه هو النهج النبويّ الذي سار عليه الأنبياء قبله، وهو النهج القويم، والفارق بين السياسة والنبوّة، والزعماء القوميّين والأنبياء المرسلين.
هذا التعرّض لليهود في عقائدهم وحياتهم وأخلاقهم هو الذي أثار اليهود على الإسلام والمسلمين، فغيّروا موقفهم منهم، وناصبوا الإسلام العداء الخفيّ والسافر، وبرزوا في الميدان، وكان الكاتب اليهودي الفاضل «إسرائيل ولفنسون» دقيقا ومنصفا «1» في تحليل أسباب هذا النزاع، فقال:
«لو وقفت تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم عند حدّ محاربته للدّيانة الوثنيّة فحسب، ولم يكلّف اليهود أن يعترفوا برسالته، لما وقع نزاع بين اليهود والمسلمين، ولكان اليهود قد نظروا بعين ملؤها التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأيّدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم، حتى يحطّم الأصنام، ويقضي على العقائد الوثنيّة، لكن بشرط ألا يتعرّض لهم ولا لدينهم، وبشرط ألا يكلّفهم الاعتراف بالرسالة الجديدة، لأنّ العقلية اليهودية لا تلين أمام شيء يزحزحها
(1)[لم يعرف عن اليهود فضل ولا إنصاف ولا أمانة علمية] .
عن دينها، وتأبى أن تعترف بأن يوجد نبيّ من غير بني إسرائيل» «1» .
هذا، وقد زاد اليهود غيظا وحقدا على الإسلام أنّه أسلم بعض أحبار اليهود وعلمائهم، كعبد الله بن سلام «2» ، وكان ذا مكانة عالية عندهم، ولم يكونوا يتوقّعون أن يدخل مثله في الإسلام، فأثار ذلك الحقد الدفين فيهم «3» .
ولم يقتصر اليهود على مخالفة الإسلام، والابتعاد عنه، بل تعدّوا ذلك إلى تفضيل عبادة أوثان المشركين على المسلمين؛ الذين يلتقون معهم على عبادة الإله الواحد، ونبذ الأوثان والأصنام، وكان من المعقول المنتظر أنّهم إذا طلبت منهم المفاضلة بين دين قريش، والدين الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، على ما كان من خلاف بينهم وبين المسلمين- أن يشهدوا بفضل الإسلام على الوثنيّة، ولكنّ عداء الإسلام لم يسمح لهم بذلك، فقد روي أنّ قريشا قالت لعلماء اليهود الذين زاروهم في مكة:«يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه، نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟!، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ» «4» .
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب: (ولفنسون- ص 123) .
(2)
[انظر قصة إسلام عبد الله بن سلام في «الجامع الصحيح» أخرجها البخاري، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في كتاب التفسير، باب مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ برقم (4480) ] .
(3)
ويبلغ عدد من أسلم من اليهود وكان له شرف الصحبة 39 رجلا، جاءت أسماؤهم وتراجمهم في كتب طبقات الصحابة؛ كتاب «الإصابة» و «الاستيعاب» و «أسد الغابة» وغيرها، منهم بعض كبار العلماء وأجلة الصحابة، اعتمدنا في عدد المسلمين من أهل الكتاب على إحصاء مؤلف كتاب «الصحابة والتابعون من أهل الكتاب» للأستاذ مجيب الله الندوي، طبع دار المصنفين، أعظم كره (الهند) .
(4)
سيرة ابن هشام: ج 2، ص 214.