الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمقربة من قارّة إفريقية، ثم قارّة أوربة، وكلّ منها مركز الحضارات، والثقافات، والدّيانات، والحكومات القويّة الواسعة، وتمرّ بها القوافل التجارية، التي تصل بين بلاد مختلفة، وقد تصل بين قارّات تحمل من بلد ما يستطرف وينتج فيه إلى بلد يفتقر إليه.
وتقع هذه الجزيرة بين قوّتين متنافستين: قوة المسيحيّة وقوّة المجوسية، وقوّة الغرب وقوّة الشرق، وقد ظلّت رغم ذلك كلّه محتفظة بحريّتها وشخصيّتها، ولم تخضع لإحدى الدّولتين إلا في بعض أطرافها، وفي قليل من قبائلها، وكانت في خير موقف لتكون مركزا لدعوة إنسانيّة عالمية، تقوم على الصعيد العالميّ وتتحدّث من مستوى عال، بعيدة عن كلّ نفوذ سياسيّ، وتأثير أجنبيّ.
لذلك كلّه اختار الله الجزيرة العربية، ومكة المكرّمة، لتكون مبعث الرسول ومهبط الوحي، ونقطة انطلاق للإسلام في العالم.
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124]
فترة حالكة مؤيسة:
وبالرّغم من هذه المواهب التي أكرم الله بها العرب، والمزايا التي امتازت
- في حديث صحفي نشر في القاهرة؛ أنه توصل إلى ما يشبه النظرية الجغرافية التي تؤكد أن مكة المكرمة هي مركز اليابسة في الكرة الأرضية، أي مركز الأرض، وقد بدأ بحثه برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض عن مدينة مكة المكرمة- وذلك لتصميم جهاز عملي رخيص يساعد على تحديد القبلة- وفجأة اكتشف على الخريطة أن مكة المكرمة تقع في وسط العالم. ومن خلال بحثه هذا توصّل إلى معرفة الحكمة الإلهية في اختيار مكة المكرمة لتكون مقرا لبيت الله الحرام، ومنطلقا للرسالة السماوية. ( «الأهرام» 15/ 1/ 1397 هـ الموافق 5/ 1/ 1977 م العدد 32898 السنة 103) .
بها الجزيرة العربيّة، التي تجلّت بها حكمة الله في اختيارها مهدا للبعثة المحمديّة وظهور الإسلام لم تكن في الجزيرة العربية أمارات يقظة، أو آثار قلق ظاهر، وما كان «الحنفاء» «1» والباحثون عن الحقّ، الذين لا يجاوز عددهم رؤوس الأصابع، إلّا كعدد ضئيل من اليراع، يطير في ليلة شاتية، مطيرة، شديدة الظلام، فلا يهدي تائها، ولا يدفىء مقرورا.
وكانت هذه الفترة- التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم من أشدّ الفترات التي مرّت بها الجزيرة العربية ظلما وانحطاطا، وأبعد من كلّ أمل في الإصلاح، وأصعب مرحلة واجهها نبيّ من الأنبياء، وأدقّها.
وقد أحسن أحد الكتّاب الإنجليز في السيرة النبويّة وليم ميور -) Sir William Muir (وهو معروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام تصوير هذه الفترة، والإنكار على ما قاله بعض الكتاب الأوربيّين، أنّ البركان كان متهيّئا للانفجار، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم في أوانه ومكانه، فناوله شرارة من النّار، فانفجر، يقول:
«لم تكن الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربيّة صالحة لقبول أيّ تغير، أو نهضة عندما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم شابا، ولعلّ اليأس عن إصلاح القوم لم يصل ذروته مثل ما وصل في عصره، ولكن حينما تضعف الثقة بسبب واحد لنتيجة خاصة، تفتعل له أسباب أخرى، وتعتبر أسبابا لحدوث هذه النتيجة.
من ذلك ما يقوله النّاس: إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم حين نهض، نهض معه العرب كلهّم لإيمان جديد، ووقفت الجزيرة العربية وقفة رجل واحد، ثم يستنتجون
(1) الذين نبذوا الوثنية، وتمسكوا بعقيدة التوحيد التي دعا إليها سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
من ذلك أنّ الجزيرة العربية كلّها كانت متهيّئة متحمّسة إذ ذاك لتحوّل مفاجىء عظيم.
ولكنّ التاريخ عندما يكذّب هذه النتيجة، إذا تأمّلنا في تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام بقلب هادىء، فلم تنجح جهود المسيحيّين المتواصلة، ودعوتهم وموعظتهم المستمرة خلال خمسة قرون إلا في كسب عدد قليل جدّا من بعض القبائل، فتمرّ موجة صغيرة على سطح بحر الحياة العربية الهادىء، نتيجة لتلك الجهود الحقيرة الضعيفة، التي قام بها دعاة المسيحية، تتخلّلها حينا بعد حين موجات أكثر قوة وعمقا، يتجلّى فيها تأثير الدعوة اليهودية، ولكنّ موجات الوثنية العربية والأوهام الإسماعيليّة كانت أعنف وأطغى، كان هذا التيّار الجاهليّ الوثنيّ يضرب جدران الكعبة» .
وقال في مكان آخر من هذا الكتاب:
وبهذه الحقيقة التاريخيّة التي تشبه لغزا علميّا يشيد العالم الغربيّ الشهير) Bosworth Smith (بوسروت إسمث في إيجاز ولكن في قوّة ووضوح:
«إنّ مؤرّخا يمتاز من بين زملائه بالاتجاه الفلسفيّ يقرر بأنّه لم تكن من بين الثورات التي تركت ارتسامات خالدة على تاريخ البشرية العمرانيّ؛ ثورة
(1)«حياة محمد» لسير وليم ميور.
Sir William Muir:Life Of Mohammad Vol.I،.) London، 5881 (p.CCXXXV- VI.