الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: والله لقد أصابك بعدي شرّ «1» .
حيرة أبي سفيان وإخفاقه:
وأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه فلم يردّ عليه شيئا، ثمّ ذهب إلى أبي بكر فكلّمه أن يكلّم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، وراود عمر وعليّا وفاطمة على ذلك، فلم يجبه أحد إلى ذلك، وقالوا: إنّ الأمر أجلّ منه، حتّى احتار في أمره، وقال لفاطمة: يا بنت محمد! هل لك أن تأمري بنيّك هذا- وأشار إلى الحسن بن عليّ، وهو غلام يدبّ- أن يجير بين الناس، فيكون سيّد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما بلغ بنيّي هذا أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمّا رأى عليّ حيرته، وما فيه من ضيق وكرب، قال له: ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنّك سيّد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: والله ما أظنّه، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس! إنّي قد أجرت بين الناس، ثمّ ركب بعيره، فانطلق «2» .
ولمّا سمعت قريش القصّة، قالوا: جئتنا بما لا يغني عنّا، ولا يغني عنك شيئا.
التأهب لمكّة وكتاب حاطب بن أبي بلتعة:
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، واستعان على أمره بالكتمان، ثمّ أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة وأمرهم بالجدّ والتجهّز، وقال: «اللهم! خذ
(1) زاد المعاد: ج 1، ص 420، وابن هشام: ج 2، ص 395- 396.
(2)
سيرة ابن هشام: ج 2، ص 396- 397.
العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «1» .
ولمّا كان المجتمع الإسلاميّ المدنيّ مجتمعا بشريا يعيش في واقع الحياة، وبين المشاعر الإنسانيّة، وخواطر النفس ورغباتها، كان الأفراد فيه يصيبون ويخطئون، وقد يكونون متأوّلين في تصرّفاتهم وأحكامهم، وقد يجانبهم الصواب في هذا التأويل، وذلك من خصائص المجتمعات البشريّة التي تتمتّع بالحريّة والثقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا يقرّهم على هذا الخطأ، يلتمس لهم العذر، ويتسامح معهم، وكان من أوسع الناس صدرا مع هؤلاء المخطئين، وأكثرهم معرفة بفضلهم وحسن بلائهم في الجهاد، وسوابقهم في الإسلام، وقد حفظ لنا الحديث وكتب السيرة النبويّة وتاريخ الإسلام مثل هذه الحوادث النادرة في الوقوع، وهو ممّا يدلّ على أمانتها وشهادتها بالحقّ.
ومن هذه الحوادث ما وقع لحاطب بن أبي بلتعة، وهو ممّن هاجر من مكّة وشهد بدرا، فقد جاء في الروايات أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة، وأسرّ الأمر، فتجهّز الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثمّ أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلّغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها «2» ، ثمّ خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السّماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزّبير، فقال:
انطلقا حتّى تأتيا روضة خاخ «3» ، فإنّ فيها ظعينة معها كتاب إلى قريش.
(1) زاد المعاد: ج 1، ص 421، وابن هشام: ج 2، ص 397.
(2)
[قرون رأسها: أي ضفائرها] .
(3)
موضع بين المدينة ومكة، قال الفتني: بمعجمتين موضع باثني عشر ميلا من المدينة، وقيل بمهملة وجيم، وهو تصحيف، (مجمع بحار الأنوار، ج 2، ص 120، طبع حيدر آباد، الهند) .
فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتّى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب! ففتّشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها عليّ- رضي الله عنه: أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجنّ الكتاب، أو لنجرّدنك، فلمّا رأت الجدّ منه، قالت:
أعرض، فأعرض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال:«يا حاطب ما هذا» فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت، ولا بدّلت، ولكنّي كنت امرأ ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنّه قد خان الله ورسوله، وقد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّه شهد بدرا، وما يدريك يا عمر! لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» ! فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم «1» .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان من المدينة ومعه عشرة
(1) زاد المعاد: ج 1، ص 421- وقد وردت القصة في الصحاح [انظر هذه القصة فيما أوردها البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، برقم (4274) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة
…
، برقم (2494) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما، برقم (2650) و (2651) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، في سورة الممتحنة، برقم (3305) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه] .