الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولادة عالم جديد وإنسان جديد
لقد تغيّرت الدّنيا بعد بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفضل تلك التعاليم السامية، كما يتغيّر الطقس، وانتقلت الإنسانية من فصل كلّه جدب وخريف، وسموم وحميم، إلى فصل كلّه ربيع وأزهار، وجنات تجري من تحتها الأنهار، تغيّرت طباع الناس، وأشرقت القلوب بنور ربّها، وعمّ الإقبال على الله، واطّلع الإنسان على طعم جديد لم يألفه، وذوق لم يجرّبه، وهيام لم يعرفه من قبل.
انتعشت القلوب الخاوية الضّامرة الباردة الهامدة؛ بحرارة الإيمان وقوة الحنان، استضاءت العقول بنور جديد، وسكرت النفوس بنشوة جديدة، وخرجت الإنسانيّة أفواجا تطلب الطريق الصحيح ومحلّها الرفيع، وتحنّ إلى مكانتها السامقة العالية، فلا ترى أمة من الأمم، وبلدا من البلاد، إلا وهو يريد السباق في هذا المضمار، ويتنافس فيه، فما ترى العرب والعجم، ومصر والشام، وتركستان وإيران، والعراق وخراسان، وشمالي إفريقية، والأندلس وبلاد الهند، وجزائر شرق الهند، إلّا سكارى هذا الحبّ العلويّ، والفيض السماويّ، وعشّاق هذا الهدف السامي، وفقراء على هذا الباب العالي.
كان يبدو أنّ الإنسانية أفاقت واستيقظت، وفتحت عيونها بعد سبات عميق طويل، دام قرونا طويلة، فأرادت أن تتدارك ما فاتها حتّى عمر كلّ جزء
من أجزائها، وكلّ ركن من أركانها بدعاة ربانيّين مخلصين، مجاهدين مصلحين، مربّين، عارفين بالله، متحرّقين لخلق الله، باذلين أنفسهم ونفيسهم لخير الإنسانيّة، وإنقاذها من الخطر المحدق بها من كلّ جانب، رجال تحسدهم الملائكة، فأشعلوا مجامر القلوب الباردة، وأزكوا شعلة الحبّ الإلهيّ، وفجّروا أنهار العلوم والآداب، والحكم والمعارف، وفتحوا ينبوعا فياضا، متدفّقا من العلم والعرفان، والإيمان والحنان، وأنشؤوا في نفوس البشر مقتا شديدا للظلم والجور، والعدوان والبغضاء، ولقّنوا الشعوب المضطهدة، المهانة الذليلة، دروس المساواة، وضمّوا المنبوذين والمهجورين، والمساكين الذين لفظهم المجتمع، وطردهم أهلهم وعشيرتهم؛ إلى صدورهم العامرة بالحب والحنان، إنّك تجد آثارهم، وتلمس آياتهم على كلّ جزء من أجزاء البسيطة كمواقع القطر، لا يخلو منها بيت وبر، ولا مدر.
وانظر في جوهر أعمالهم وكيفيّتها) Quality (فضلا عن كميّتها) Quantity (وشاهد سموّ أفكارهم، وتحليقها في أجواء وآفاق رفيعة، وانظر شعورهم المرهف، وروحهم اللطيفة الوادعة الرقيقة، وذكاءهم الوقّاد، وطبعهم السليم، وكيف كانوا يتوجّعون للإنسانية ويذوبون لها كالشمعة، وكيف كانت نفوسهم وأرواحهم تتلوى وتذوب في نار الأسى والإشفاق، والعطف على الخلق، والحرص على ما فيه نفعه وصلاحه، كيف كانوا يقعون في المهالك، ويرحّبون بالخسائر لإنقاذ الناس، ودفع البلاء عنهم، كيف كان حكامهم وولاة أمورهم، يصرّفون الأمور، ويشعرون بالمسؤوليّة، يعسّون بالليل ويرابطون على الثغر، وكيف كان الشعب منسجما معهم، مطيعا لأوامرهم.
واقرأ- أيضا- أخبار عبادتهم، وزهدهم، وحالتهم في الدعاء، ومكارم أخلاقهم، وشهادتهم على نفوسهم، واحتسابهم لها، وحبّهم للصغار، والضعفاء، ولين قلوبهم مع الإخوان والأصدقاء، وكرمهم وسماحهم، وعفوهم وصفحهم عن الأعداء، وسوف ترى أنّ أحلام الشعراء والأدباء، وخيالهم الخصيب، وقريحتهم الفياضة، لا تصل إلى تلك القمّة العالية التي وصل إليها هؤلاء في عالم الحقيقة والواقع، ولولا تواتر ما جاء في هذا الباب واستفاضته، ولولا شهادات التاريخ الموثوق بها، بدت هذه الأخبار كقصص وأساطير نسجها الخيال.
إنّ هذا الانقلاب العظيم، والدور الزاهر الجديد معجزة من معجزات محمّد صلى الله عليه وسلم ومأثرة من ماثر بعثته، ونفحة من نفحات الرحمة الإلهية التي عمّت الأمكنة كلّها، والأزمنة كلّها، وصدق الله العظيم:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] .
جداول الغزوات والسّرايا والأحداث المتعلّقة بالسّيرة النبوية «1»
(1) هذه إضافة المحقّق إلى الكتاب من «رحمة للعالمين» للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري.