الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك حفظ للصلة الدقيقة الحساسة التي تربط الأمّة بنبيّها صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] .
قال ابن كثير في تفسير الآية:
وقفة قصيرة عند تعدّد الزوجات:
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شطرا من عمره في العزوبة، مدّة خمسة وعشرين عاما، وهي فترة الشباب التي استوفت أفضل شروطه وصفاته، وكان مثلا للفتوّة الإنسانيّة العربيّة السليمة، والصحّة التي كان فيها نصيب للنشأة في البادية، والبعد عن أدواء المدنية، والتحلّي بأفضل صفات الفروسيّة والرّجولة، ولم يجد أشدّ أعدائه له مغمزا في هذه الفترة الحاسمة الدقيقة في حياته قبل النبوّة وبعد النبوّة إلى هذا اليوم، فكان مثالا للطّهر والعفاف والنزاهة والبراءة والعزوف عن كلّ ما لا يليق به.
فلمّا بلغ خمسا وعشرين سنة تزوّج خديجة بنت خويلد، وهي أيّم، قد بلغت من عمرها أربعين سنة، وقد تزوّجت قبله برجلين، ولها أولاد، وبينه وبينها من التفاوت في السنّ 15 سنة على القول المشهور، ثمّ تزوّج بعدها وقد جاوز الخمسين- سودة بنت زمعة، وقد توفي زوجها في الحبشة مسلما مهاجرا.
(1) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 493، طبع دار الأندلس.
ولم يتزوّج صلى الله عليه وسلم بكرا إلا عائشة بنت أبي بكر.
وما تزوّج زواجا إلا ولهذا الزواج مصلحة راجحة من مصالح الدعوة الإسلاميّة، أو المروءة ومكارم الأخلاق، أو جلب منفعة عامّة، ودرء خطر اجتماعيّ كبير، فقد كان للأرحام والمصاهرة تأثير كبير في حياة العرب القبليّة، والاجتماعيّة، وقيمة ليست في أمّة أخرى، فكان لهذه المصاهرة أثرها البعيد في تاريخ الدعوة الإسلاميّة، والمجتمع الإسلاميّ المثاليّ، وحقن الدماء والتوقي من معرّة القبائل العربيّة.
ولم تكن حياته معهنّ حياة ترف ورفاهية، وتوسّع في المطاعم والمشارب وخفض العيش- وتلك غاية الزوجات في نظر كثير من الناس- بل كانت حياة زهد وتقشّف، وإيثار وقناعة، لا يطيقها أعاظم الرجال وكبار الزهاد في القديم والحديث، وحسب القارىء المنصف أن يقرأ قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 28- 29] .
وكان من أثر هذه الغاية المتوخّاة، والنفسيّة السامية، والتربية العميقة المؤثرة، أن اخترن كلّهنّ- رضي الله عنهن وأرضاهنّ من غير استثناء وتلكّؤ- الله ورسوله والدار الآخرة، ويكفي مثالا، ما أجابت به عائشة- رضي الله عنها فلمّا تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال لها:«لا عليك ألا تستعجلي حتّى تستأمري أبويك» .
قالت له: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة «1» ،
(1) وسيمرّ شيء منها بالقارىء في الفصل السادس «الأخلاق والشمائل» من هذا الكتاب.
قالت: ثمّ فعلت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت «1» .
ولم يشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعدّد الزوجات، وما يستلزم ذلك نفسيا واقتصاديا واجتماعيا، عن النهوض بأعباء الدعوة، والجهاد والتقشّف، والحياة المثالية، والقيام بالأمور الجسام، برهة من الزمان، بل زاده ذلك نشاطا وقوة، وكنّ أعوانا له على القيام بما أكرمه الله به، من تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وتعليم المسلمين دينهم، ذكورا وإناثا، وكنّ يرافقنه في الحروب والغزوات، فيداوين الجرحى ويمرّضن المرضى، ويشرن بالخير، ويواسين في الشّدّة، وبهنّ قام نحو ثلث الدين- ممّا يتعلّق بحياته المنزلية والعشرة وكثير من الأحكام- تعلّمها المسلمون منهنّ، وحفظوه ونشروه «2» .
وناهيك بأمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها فقد قال إمام علم الرجال والطبقات الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذّهبيّ (ت 748 هـ) في كتابه المشهور «تذكرة الحفّاظ» :
«كانت أكبر فقهاء الصحابة، كان فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون
(1)[أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. برقم (4785) و (4786) ، ومسلم في كتاب الطلاق، باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم (1475) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/ 260) برقم (5309) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، برقم (3204) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها] .
(2)
وقد أحسن الكلام في موضوع تعدّد الزوجات وما كان فيه من حكم ومصالح وما يحيط به من أحوال وظروف، مؤلف السيرة الهندي القاضي محمد سليمان المنصور فوري في كتابه النفيس «رحمة للعالمين» راجع ص 141- 144، والكاتب المصري الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد، في كتابه «عبقرية محمد» تحت عنوان «تعدّد الأزواج» وعنوان «أسباب تعدّد زوجاته» .
إليها، يروى عن قبيصة بنت ذؤيب، قالت: كانت عائشة أعلم الناس، يسألها أكابر الصحابة.
وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم حديث قطّ، فسألنا عائشة، إلّا وجدنا عندها منه علما.
وقال حسّان: ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال وحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا النّسب من عائشة رضي الله عنها» «1» .
وأمّا مكارم الأخلاق، وعلو الهمّة، والجود، والمواساة، فعن البحر حدّث ولا حرج، وحسبك ما رواه هشام عن أبيه: أنّ معاوية بعث إلى عائشة مئة ألف، فو الله ما غاب علينا الشهر حتّى فرّقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحما، فقالت: ألا ذكّرتني «2» ، وكانت صائمة «3» .
وقد نشأت «مشكلة تعدّد الزوجات» في حياة محمّد صلى الله عليه وسلم وشغلت عقول كثير من الباحثين الغربيين وأقلام الكتاب المستشرقين، وكثر التساؤل عنها، بسبب إخضاعهم الحياة الزوجية في بلاد العرب وفي الشريعة الإسلامية، وفي العصر الذي ظهر فيه الإسلام، للقيم والتصوّرات والأعراف الغربيّة، وتسليط الموازين والمقاييس الغربية (التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وليدة
(1) تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 27- 28، طبعة دار إحياء التراث العربي [وأخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس..، برقم (6285) و (6286) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها، برقم (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها] .
(2)
تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 28.
(3)
زيادة من رواية أمّ ذرّ (المصدر السابق) .
حضارة خاصّة ومجتمع خاصّ) على ما تقبله الفطرة السليمة والبيئة العربية، وتقتضيه المصالح الخلقية والاجتماعية، ويأذن به الله.
وتلك نقطة ضعف في التفكير الغربيّ وفي الكتابات الغربية يجعلون الغرب هو الميزان، ثمّ يطلقون أحكاما قاسية على كلّ ما جانبه أو اختلف عنه، فيخلقون مشكلة ثمّ يعالجونها، وما هي إلا نتيجة كبريائهم، وتقديسهم الزائد للقيم والمثل الغربية.
وقد كان مؤلّف السيرة الإنجليزي المستر R.V.C.Bodley منصفا وجريئا في نقد هذا الشعور الغربيّ نحو تعدّد الزوجات في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول في كتابه «حياة محمّد الرسول» :
وليست «شناعة» تعدّد الزوجات (التي تخيّلها الغرب، وآمن بها أبناؤه في تقليد وحماس، واعتبروها حقيقة بديهية مسلمة، وجسّمها كتّابه ومشرّعوه) ، شناعة دائمة على مرّ العصور والأجيال، قائمة على أسس علمية
(1)
R.V.C.Bodley:The Messenger- The Life Of Mohammad،) London، 6491 (pp.202- 302.
ثابتة، أو الفطرة الإنسانية السليمة، بل هي شناعة خيالية عاطفية، ناتجة عن دعاية قوية متحمّسة، تخفّ وقد تزول مع الزمان بتغيّر الاتجاهات والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة «1» .
(1) وإلى ذلك أشار الكاتب الغربي العصري) Alwin Toffler (في كتابه الحديث) Future SchocK (الذي أحدث دويا في الأوساط العلمية أخيرا، اقرأ (على سبيل المثال) ص 227 232، (طبع لندن 1975 م) .