الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحمة التي قدمناها أولا، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخّاذ من الرحمة، إنها ليست منّة على الطفل فقط، بل على أسرته كلّها.
نرى أعمى يمشي متوكّئا على عصاه، قد شارف هوّة عميقة أو بئرا، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله ويأخذ بحجزه، ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوّة، أفلا نسمّيه ملك الرحمة؟
هذا شابّ يافع، قرّة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرف على الغرق في نهر فائض يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفا بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله ربّ الأسرة أو إخوة هذا الشاب على أعناقهم، ويضمّونه إلى صدورهم بحرارة وحبّ، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر، ترى هل تساوي مظاهر الرحمة الأولى هذه الرحمة العظيمة الغالية؟!!.
3- البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك:
ولكنّ آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقيمتها وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجل الإنسانيّة كلّها من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحيّ، وخطر عابر قد يزول، وهذا هلاك أبديّ، وخطر مستمرّ لا يزول، لذلك فإنّ رحمة الأنبياء بالنوع البشريّ لا تقاس أبدا على هذه الرحمات، رغم أهميّتها وعظمتها.
إنّ أمامنا بحرا هائجا مائجا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنّه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيّات، ترتفع أمواجه العاتية الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقضّ على الجماعات البشريّة كالأسد الضاري، والمشكلة أنّه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟، وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على برّ الأمان؟.
ولا يكون صاحب الفضل الأكبر في هذا المجال، ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانيّة، وصاحب المنّة عليها، والإحسان إليها، إلّا من يجدّف هذه السفينة، التي تلعب بها العواصف الهوجاء والأمواج الهائلة كالجبال، والتي غاصت بركّابها، وغاب الملّاح والرّبّان، ثمّ يوصلها بسلامة إلى ساحل النجاة؟!!
إنّ النوع البشريّ شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم، ويشكر هؤلاء الذين جمعوا له هذه الأكداس من المعلومات، ويشكر الذين هيّؤوا له كلّ هذه التسهيلات، وزوّدوه بوسائل الراحة والرخاء، وذلّلوا صعاب الحياة، واقتحموا عقباتها وشعابها، إنّه لا يبخس حقّ أحد من هؤلاء، ولا ينكر فضلهم عليه، ولكنّ قضيّته الكبرى، ومشكلته الأولى هي أنّه كيف ينفذ نفسه من أعدائه الذين وقفوا له بالمرصاد، وأحاطوا به من كلّ جانب، وكيف يصل بسفينته إلى برّ السلامة والأمان؟!.
فما هي أمواج هذا البحر، وما هي تماسيحه الضّارية الشّرسة؟
إنّها الجهل عن خالق هذا الكون وربّ العالمين، وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنيّة، وعبادة الأصنام، والاسترسال مع الخرافات والأوهام، إنّها بلادة حسّ الإنسانيّة، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها.
إنّها عبادة المادّة والمعدة، وتعدّي الحدود، وانتهاك الحرمات، وسورة النفس الأمارة بالسوء، والتهرّب من أداء الواجبات والحقوق، والإصرار على المنافع والحظوظ.
إنّ أكبر خطر على الإنسانيّة أن يحدث في بنائها خلل، وتحيد لبنتها الأساسيّة عن مكانها الصحيح، فينسى الإنسان قيمته ومداركه، وغاية