الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياته، ويظنّ نفسه ذئبا مفترسا، أو أفعى، أو ثعبانا، فحين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحوّل بحر هذه الحياة إلى نار متأجّجة، ولهب مرتفع، هنالك يزدرد الإنسان أخاه، ويفترسه، ولا يحتاج إلى الثعابين، والعقارب، والذئاب، والفهود.. فقد ينقلب الإنسان أكبر ذئب في هذه الغابة الإنسانية.. تخجل أمامه الذئاب، ويتحوّل شيطانا ماردا، تستحي منه الشياطين، هنالك يحترق الإنسان، ويشوى في ناره التي أشعلها بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج.
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهبّ نفحة من نفحات الرحمة الإلهيّة، وتنتعش رفات الإنسانيّة الخامدة الهامدة، وتزوّدها بملّاحين يجدّفون سفينتها بنجاح ومهارة.
4- مهمّة النبوة ودورها في الإنقاذ والإسعاد وطبيعة عمل الأنبياء:
وأضرب- لتوضيح مهمّة النبوّة، وطبيعة عمل الأنبياء- مثلا سوف نفهم به مهمّة النبوّة وموقفها من غير دلائل فلسفية دقيقة.
يحكى أنّ فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البرّ، وكان في النفس نشاط وفي الوقت سعة، وكان الملّاح المجدّف الأميّ خير موضوع للدعابة والتّندّر، وخير وسيلة للتلهّي، وترويح النفس، فخاطبه تلميذ ذكيّ جريء، وقال: يا عمّ، ماذا درست من العلوم؟ قال الملّاح: لا شيء يا عزيزي!
قال: أما درست العلوم الطبيعيّة يا عمّي؟
قال: كلّا وما سمعت بها.
وتكلّم أحد التلاميذ، فقال: ولكنّك لا بدّ درست الأقليدس والجبر والمقابلة!
قال: وهذا أغرب، وتصدّقون أنّي أوّل مرّة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغريبة.
وتكلّم ثالث «شاطر» فقال: ولكنّي متأكّد من أنّك درست الجغرافية والتاريخ؟
فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟
وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنّك يا عمّ؟
قال: أنا في الأربعين من سنّي.
قالوا: ضيّعت نصف عمرك يا عمّنا.
وسكت الملّاح الأمّيّ على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره والزمان دوّار.
وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب والأمواج فاغرة أفواهها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة- وكانت أوّل تجربتهم في البحر- وأشرفت السفينة على الغرق.
وجاء دور الملّاح الأميّ، فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟
وبدأ الشباب يتلون قائمة طويلة للعلوم والآداب التي درسوها في الكليّة، ويتوسّعون فيها في الجامعة، من غير أن يفطنوا لغرض الملّاح الجاهل، الحكيم، ولمّا انتهوا من عدّ العلوم المرعبة أسماؤها، قال في
وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة، فهل درستم علم السّباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة- لا قدّر الله- كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟
قالوا: لا والله يا عمّ، هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به.
هنالك ضحك الملّاح وقال: إذا كنت ضيّعت نصف عمري، فقد أتلفتم عمركم كلّه، لأنّ هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنّما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه «1» .
هذه مهمّة النبوّة ودورها في إنقاذ البشريّة المشرفة على الغرق، وهذه طبيعة عمل الأنبياء والرسل، وامتيازه عن سائر أصناف التعليم والتربية، والترويح والتسلية، يمنحون الجيل البشريّ «علم النجاة» ويعلمونه فنّ السباحة، وتجديف سفينة الحياة.
إنّ التاريخ الإنسانيّ يدلّ دلالة واضحة على أنّه لما غرقت سفينة الحياة لفساد أخلاق الناس، وسيّئات أعمالهم، غرقت بكلّ ما فيها من مجموعة بشرية، ورصيد حضاريّ، ومحصول فكريّ، وإنتاج علميّ وفلسفيّ، وبكلّ ما فيها من روائع الشعر والأدب والبيان، وأنّ هذه السفينة لم تغرق أبدا من أجل الانحطاط الأدبيّ، وقلّة المدارس والجامعات، وفقدان التعليم العالي، أو من قلّة المال وانخفاض مستوى المعيشة، إنّها غرقت لأنّ الإنسان أعدّ نفسه للانتحار، إنّه صار معولا هداما لذلك البناء الذي فيه متاعه وأهله.
(1) القصة مقتبسة من كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» ص (24) من الطبعة السابعة لدار القلم بدمشق.