الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخروج إلى الطّائف وما لقي فيها من الأذى:
ولمّا مات أبو طالب نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من الأذى ما لم تكن تطمع فيه قريش، في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
ولمّا اشتدّ أذى قريش، وانصرافهم عن الإسلام، وزهدهم فيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطّائف، يلتمس النصرة من ثقيف وأن يدخلوا في الإسلام، وكان له أمل في أهل الطائف «1» ، ولا غرابة في ذلك فإنّه رضع في بني سعد وهم بمقربة من الطائف وفيهم مراضعه وحواضنه.
أضواء على الطائف:
ولمّا كانت مدينة الطّائف هي المدينة الثالثة الكبيرة (بعد مكة ويثرب) التي سعدت بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها، وقد كانت هذه الرحلة في سبيل الدعوة حدثا كبيرا، ليس في السيرة النبوية وحدها بل في تاريخ النبوات والدعوات وقد قصدها مرّتين، الأولى في شوّال في السنة العاشرة بعد البعثة، والثانية في شوال في السنة الثامنة بعد الهجرة- استحقّت- أكثر من مدينة أخرى في الجزيرة- أن تلقى عليها بعض الأضواء لتعرف مكانتها التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة، وإلى القارىء بعض المعلومات عنها:
تقع مدينة الطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلا تقريبا إلى الجنوب
- رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، برقم (2297) ، وعبد الرزاق في المصنف برقم (9743) ، وأحمد في المسند (6/ 346) ] .
(1)
من المرجّح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى الطائف في أخريات شوال من السنة العاشرة (خاتم النبيين 1/ 580) للعلامة محمد أبي زهرة رحمه الله.
خريطة طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
الشرقيّ من مكة «1» ، وهي واقعة على ظهر جبل غزوان، ويبلغ ارتفاع هذا الجبل نحو ستة آلاف قدم «2» .
واسم الطائف مأخوذ من السّور أو الحائط الذي كان يحيط ويطوف بالمدينة، وكان الاسم القديم لهذه المدينة هو «وجّ» «3» .
وكان أثرياء قريش ووجوهها قد ابتنوا قصورا في الطائف، وكانوا يقضون فيها شهور الصيف القائظة.
وكان للعبّاس بن عبد المطلب عقارات بالطائف، يقول البلاذريّ «4» :
«كانت لعامّة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها» .
وأدّى الثراء الواسع إلى فساد اجتماعيّ، فاشتهر أثرياء الطائف بأنّهم أصحاب ربا وزنى وخمر، وانتشرت فيها صناعة الخمور وصناعة الزبيب، ودبغ الجلود، وصناعة العطور، وتوافرت فيها موارد المياه، وخصوبة الأرض، فكثرت البساتين، وطابت الثمار، وتنوعت الفواكه، وانتشرت الزراعة وغرس الأشجار، وهو الشأن إلى الآن.
وكانت مصيفا للمتنعمين، وظلّت كذلك إلى العهد الإسلاميّ فما بعده، يقول الشاعر الأمويّ عمر بن أبي ربيعة:[من مجزوء الكامل]
تشتو بمكّة نعمة
…
ومصيفها بالطّائف
(1) جواد علي (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : ج 4 ص 142، وذلك بالنسبة إلى الطريق القديم بين مكة والطائف، أما بعد أن فتح الطريق الجديد المعبّد بين مكة والطائف فلا تزيد المسافة على ثمانين كيلو مترا.
(2)
الإصطخري (المسالك والممالك، ص 24) أمّا ارتفاع مدينة الطائف فلا يزيد على خمسة آلاف قدم.
(3)
[وجّ: موضع بناحية الطّائف ( «النهاية في غريب الحديث» (5/ 154) ] .
(4)
فتوح البلدان: ص 68.
ولمّا كان أهل الطائف أصحاب أملاك وبساتين، وثراء ورخاء، أورثهم كلّ ذلك الكبر والبطر، وجعلهم مصداقا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 34- 35] .
وانفردت ثقيف بالسيادة في الطائف، وأصبحت من أعظم القبائل العربيّة، التي يضرب بقوّتها وثروتها المثل، وكانت من قبائل العرب المستعربة أي العرب العدنانية.
وكانت بين ثقيف وقريش منافسة في مجال الدين، ورئاسة الأوثان وشعبيّتها، وكانت تنظر إلى وثنها (اللات) كمنافس لهبل، بل للكعبة، فأقامت حوله حرما، وأحاطته بنفس مظاهر التقديس وشعائر الدين، التي كانت مختصة بالكعبة.
وحين زحف أبرهة بجيشه إلى مكة انفردت ثقيف بموقف التأييد له، وبعثت معه أبا رغال دليلا للجيش على الطريق إلى مكة، وقد مات هذا الدليل في الطريق، وأبغضه العرب ورجموا قبره «1» .
وكان الثّقفيون أرغد العرب عيشا كما قال (ياقوت) ، وكان هواهم مع بني أمية، وقد التقوا على حبّ الثراء والجاه، والتوسّع في التجارة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قريش والأنصار حليفان، وبنو أميّة وثقيف حليفان» «2» .
وكان عروة بن مسعود- وهو سيّد ثقيف- زوج آمنة بنت أبي سفيان،
(1) الكامل: لابن الأثير، ج 1، ص 260.
(2)
بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، ج 3، ص 335 (الطبعة الثالثة) .
وكان له منها داود بن عروة «1» ، وذهب كثير من المفسّرين أنّه المعنيّ في قوله تعالى حكاية عن أهل مكّة: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» [الزخرف: 31] .
وقد نبغ في ثقيف الحارث بن كلدة، وقد رحل إلى فارس، وتعلّم الطّبّ، واشتهر طبّه بين العرب، واشتهر بعده ابنه النضر وهو ابن خالة الرسول صلى الله عليه وسلم «3» ، وقد تجوّل في عدّة أقطار وصحب الأحبار والكهنة، وكان له إلمام بعلوم الفلسفة والحكمة، وأخذ الطبّ من أبيه، وكان النضر كثير العداء والحسد للنبيّ صلى الله عليه وسلم «4» .
واشتهر فيهم أمية بن أبي الصّلت، وكان من الشّعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام، اطلع على كتب القدماء وخاصة التوراة، وكان في مقدمة الحنفاء، فلمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في يده، وكفر به حسدا، وأخذ يحرّض على الرسول، ويرثي قتلى أعدائه في وقعة بدر، له في التوحيد والحكمة شعر كثير، وفيه يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«آمن شعره وكفر قلبه» «5» .
وممّا يذكر لثقيف من الماثر أنّه ارتدّ غالب العرب بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا قريشا وثقيفا، يقول الحافظ ابن كثير: «وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على
(1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 483.
(2)
الإصابة في تمييز الصحابة: للعلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 477.
(3)
بلوغ الأرب: ج 3، ص 335.
(4)
المصدر السابق: ص 335.
(5)
بلوغ الأرب: ج 3، ص 121 [وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«وكاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم» أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ، ومسلم في كتاب الشعر، باب في إنشاد الأشعار
…
برقم (2256) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] .
الإسلام لم يفرّوا، ولا ارتدّوا» «1» ، وكان لهم أثر وبلاء في الحروب الإسلاميّة ومواقف بطولية محمودة.
وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، إمّا لأنّه المركز الثاني للقوّة والسيادة في الحجاز بعد مكة، أو لأن أخواله من بني ثقيف، فرأى أن يخرج إلى الطائف، «يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه» «2» .
وما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن مكّة الواعي- يجهل الصّلات الوطيدة بين مكّة والطائف وتزاور أبنائهما، وإنّ أخبار تكذيب قريش له وتصدّيهم بالأذى قد بلغت الطائف، ولكنّه تجشّم هذه الرحلة حرصا على تبليغ الرسالة وانتشار الدعوة، وذلك يدلّ على علوّ همّته النبويّة وشدة توكّله على الله، وأمله في الفطرة البشريّة السليمة.
وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف في شهر شوال في السنة العاشرة بعد البعثة النبويّة «3» ، ويذكر ابن سعد «4» وابن الأثير «5» ، والمقريزي «6» ، أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد استصحب في رحلته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة «7» .
(1) البداية والنهاية: ج 6، ص 304.
(2)
الطبري: ج 2، ص 80.
(3)
إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع: ج 1، ص 27.
(4)
طبقات ابن سعد: ج 1، ص 95.
(5)
الكامل: ج 2، ص 63.
(6)
إمتاع الأسماع: ج 1، ص 27.
(7)
استفاد المؤلف في هذه الأضواء على الطائف من رسالة الدكتوراه للدكتورة نادية حسني صقر، (الطائف في العصر الجاهلي وصدر الإسلام طبع دار الشروق في جدة الطبعة الأولى 1981 م) .