الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية في هذه القصّة أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصّفّة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم» «1» .
رقة الشعور الإنساني ونبل العاطفة:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعباء النبوّة والدعوة، وهمّ الإنسانيّة والأحزان والأثقال التي لا تحملها الجبال الرّاسيات قد تجلّى فيه الشعور الإنسانيّ الرقيق، والعاطفة الإنسانية النبيلة، في أجمل مظاهرهما، فمع صرامته وقوّة عزيمته التي يمتاز بها الأنبياء، والتي كانت لا تقيم في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله، وامتثال أوامره لشيء قيمة أو وزنا، لم ينس أصحابه الأوفياء الذين لبّوا دعوته، وبذلوا في سبيل الله مهجهم وأرواحهم، واستشهدوا في معركة أحد إلى آخر يوم من أيام حياته، فكان يذكرهم، ويدعو لهم، ويزورهم، وسرى هذا الحبّ إلى المكان الذي قامت فيه هذه المعركة، والجبل الذي شاهدها، والبلد الذي احتضنه، فروى عنه الصحابة- رضي الله عنهم أنّه قال:«هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2» .
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد،
-[برقم (5361) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، برقم (2727) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، برقم (5062) ] .
(1)
أخرجه أحمد [في المسند (1/ 106) وانظر «فتح الباري» (7/ 23- 24) ] .
(2)
[أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: أحد يحبنا، برقم (3367) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل أحد، برقم (1392) و (1393) والترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، برقم (3922) وغيرهم] .
فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «1» .
وعن أبي حميد قال: «أقبلنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة، قال: «هذه طابة، وهذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2» .
وعن عقبة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما، فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت «3» .
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد: «أما والله، لوددت أنّني غودرت مع أصحاب بنحص «4» الجبل» «5» .
وقد احتمل شهادة عمّه وأخيه في الرّضاعة، والذي غضب له، ودافع عنه بمكّة، واستشهد في معركة أحد، ومثّل به تمثيلا لم يمثّل بأحد من القتلى، فاحتمل كلّ ذلك في صبر أولي العزم من الرّسل، ولكنّه لمّا دخل المدينة راجعا من أحد، ومرّ بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء، ونوائح على قتلاهم، فحرّك ذلك في نفسه الشعور الإنسانيّ النبيل، فذرفت عيناه، ثمّ قال:«لكنّ حمزة لا بواكي له» «6» .
(1)[أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو، برقم (2889) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة..، برقم (1365) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، برقم (3922) ، وأحمد في المسند (2/ 387) برقم (9013) وغيرهم] .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة تبوك، برقم (4422) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل أحد، برقم (1392) ] .
(3)
[انظر تخريجه في الفصل الرابع في أحاديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ص (528) حاشية رقم (1) ] .
(4)
بنحص الجبل: أي سفح الجبل.
(5)
تفرّد به أحمد [وأخرجه في المسند (3/ 375) ] ، ابن كثير ج 3، ص 89.
(6)
ابن كثير: ج 3، ص 95 [وأخرجه ابن ماجه في أبواب الجنائز، باب ما جاء في البكاء-
ولكنّ هذا الشعور الإنسانيّ النبيل لم يستطع أن يقهر الشعور بمسؤوليّة النبوّة والدعوة والوقوف عند حدود الله، فقد روى أصحاب السّير أنّه لمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير- رضي الله عنهما إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يحتزمن، ثمّ يذهبن، ويبكين على عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلن، ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة، خرج عليهنّ، وهنّ في باب المسجد يبكين، فقال:«ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» .
وروي أنّه قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: ما هذا أردت، وما أحبّ البكاء» ونهى عنه «1» .
وأدقّ من هذه المواقف كلّها موقف وقفه مع وحشيّ، قاتل أسد الله وأسد رسوله حمزة- رضي الله عنه فلمّا فتح الله للمسلمين مكة، ضاقت عليه المذاهب، وفكّر في اللحوق بالشّام واليمن وببعض البلاد، وأظلمت عليه الدّنيا، فقيل له: ويحك إنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتل أحدا من النّاس دخل في دينه، فتشهّد شهادة الحقّ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه الإسلام، ولم يفزعه، وسمع منه قصة قتل حمزة، فلمّا فرغ من حديثه تحرّك فيه ذلك الشعور الإنسانيّ الرقيق، من غير أن يزاحم طبيعة منصب النبوّة الرفيع، فيرفض إسلامه أو يثور فيه الغضب، فيقتله شفاء للنفس، ولم يزد أن قال:
«ويحك غيّب عني وجهك، فلا أرينّك» ، قال وحشيّ: وكنت أتنكّب «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلّا يراني، حتّى قبضه الله صلى الله عليه وسلم «3» .
- على الميت، برقم (1591)، وأحمد في المسند (2/ 40) و (2/ 84) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] وقال ابن كثير:«وهذا على شرط مسلم» .
(1)
ابن كثير: ج 3، ص 96.
(2)
[أتنكّب: أي أتنحّى وأعرض عنه] .
(3)
ابن هشام: ج 2، ص 72، وروى البخاري هذه القصة في كتاب المغازي، باب قتل-