الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غمامة تظلّله كيف يتصوّر أن يميل فيء الشجرة؟ لأنّ ظلّ الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قطّ بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توفّر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك «1» .
مثال غريب من التعصّب الدينيّ
والإمعان في الافتراض والتخمين:
وانتهز المستشرقون والمغرضون هذه الفرصة- وهي لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبر من أحبار النصارى، شخصيته ومكانته في العالم مجهولتان- فصنعوا من الحبّة قبة، وأسّسوا عليها بناء شامخا، من تلقّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعاليم التوحيد النقية من عالم نصرانيّ.
وأغرب من هذا أنّ) Carra De vaux (الفرنسي ألّف كتابا مستقلا في هذا الموضوع، أسماه «مؤلف القرآن» حاول أن يثبت فيه أنّ «بحيرى» لقّن محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن كلّه، في هذا اللقاء القصير.
هذا- إن صحّت الرواية- لا يقوله عاقل رزق من سلامة العقل والإنصاف ذرّة، فكيف يعقل أنّ غلاما لا يجاوز عمره تسع سنوات- على الأصحّ- واثني عشر عاما- على الأكثر- تلقّى من شيخ لا يعرف لغته، ولم يجلس إليه إلّا ما يستغرقه وقت الجلوس على مائدة، المسائل الدقيقة والتفاصيل العميقة في نقد عقيدة الشرك والمسيحية الممسوخة في القرن السادس المسيحيّ، التي لم يهتد إليها كبار النقّاد، والمصلحين في المذهب البروتستانتي وكبار
(1) السيرة النبوية: للذهبي (طبع دار الكتب العلمية ص 28- 29) . وهي مستقاة من كتاب «تاريخ الإسلام» للحافظ الذهبي.
المصلحين في العالم المسيحيّ، والتمييز الدقيق بين عقائد الفرق المسيحية وأقوالها، وتعرض القرآن لحوادث لم تحدث إلا بعد ثلاثين وأربعين سنة، حين أصبحت عظام (بحيرى) نخرة «1» ، كاندحار الرّوم أمام الفرس في الأعوام الأولى من القرن السابع المسيحيّ (603- 616) إلى آخر نقطة من تراجع الجيوش وتقلّص الحكومات، حتى كادت الإمبراطورية البيزنطية تلفظ نفسها الأخير، وتصبح مستعمرة ساسانية حقيرة، وانقطع كلّ أمل في نهوض الدولة البيزنطيّة وعودتها إلى أوجها الأول، ثمّ انتصار الروم البيزنطيين الرائع، النافي لكلّ تقدير وتخمين، على الفرس الظافرين المنتصرين، حتى أوغلت الجيوش الروميّة في قيادة هرقل في إيران، وغرزت أعلام الفتح في قلب البلاد، وأثخنت الشعب الإيرانيّ قتلا وجراحا، وأهانت المعابد والمقدّسات الدينية، وعادت من أسوار العاصمة ظافرة مرفوعة الرأس، وذلك كلّه في ظرف تسع سنين «2» ، وهو ما أعلنه القرآن بقوله:
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم:
1-
7] .
وهي نبوّة لا يقدر عليها إلّا العليم القدير الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ، ولم يكن
(1)[نخرة: أي: بالية] .
(2)
اقرأ مقال المؤلّف المسهب «نبوة تتحدّى ومعجزة تتحقّق» في كتاب المؤلف «المدخل إلى الدراسات القرآنية» ص 56 طبع دار ابن كثير، دمشق سنة 1423 هـ- 2002 م.
شيء أغرب خيالا، وأبعد منالا من هذه النبوّة التي أعلنها القرآن عند فرح قريش والمشركين بانتصار المجوس المشركين على أهل الكتاب المسيحيين، وشماتتهم بهزيمة الروم المنكرة، فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3- 4](والبضع ما دون العشر) واستبعدته قريش كلّ الاستبعاد، حتى قامروا على ذلك استبعادا له.
يقول المؤرّخ الإنجليزيّ جبون:) Edward Gibbon (
ولكن تحقّقت هذه النبوّة بشكل غريب خارق للعادة، وذلك في سنة 625 م (العام الثاني من الهجرة النبوية عند غزوة بدر) يقول «جيبون» في أسلوبه الأدبي القويّ المعروف:
«كما أنّ ضباب الصبح والأصيل ينقشع ويتبدد بنور الشمس البازغة الوهاج، كذلك تحوّل الأمير الرقيق المترف الذي لم يكن يعرف إلا الشباب والهوى، والذي كان على قدم أركاديوس في عصره «2» ، فارسا منتصرا يقود الجيوش ويفتح البلاد كسيزر «3» ، لقد أنقذت كرامة هرقل وروما بطريقة غريبة رائعة، وعاد إليهما اعتبارهما وقيمتهما» «4» .
(1) تاريخ انحطاط روما وسقوطها: ج 3، ص 302- 303، طبع 1890 م.
(2)
الملك الرومي الخليع المستهتر الذي أصبح مثلا في تأريخ أوربة للتمتع المسرف والترف الفاحش.
(3)
الإمبراطور الرومي الذي اشتهر بفتوحه العظيمة وامتداد ملكه.
(4)
انحطاط روما وسقوطها: ج 4، ص 304، طبع 1890 م.
هذا إلى نبوءات أخرى وإعلانات بعيدة عن القياس والقرائن، كالفتح المبين (صلح الحديبية) المهين في نظر كثير من المسلمين وغير المسلمين «1» ، ودخول الناس في الإسلام أفواجا «2» ، وظهوره على الدين كلّه بعد ما كان المسلمون مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس، وقيام دولتهم وشوكتهم «3» ، وبقاء القرآن محفوظا متلوا، مبينا مفسرا، يتلوه ويحفظه أكبر عدد من البشر «4» إلى غير ذلك من النبوءات الغريبة، والإعلانات المتحدية للعقل والقياس، والأخبار الغيبية التي زخر بها القرآن «5» .
ولا يصنع من هذه الحبّة قبّة إلا من أعماه التعصّب الدينيّ، والاسترسال في الخيال، والإمعان في الافتراض والتخمين، والإتيان بالبعيد المضحك للعقلاء، والتطرّف، وإبعاد النجعة في العداء، ولولا ورود هذه القصّة في عامّة كتب السيرة لما أوردناها في هذا الكتاب، ولما تعرّضنا لبحثها ونقدها «6» .
(1) انظر سورة الفتح.
(2)
انظر سورة النصر.
(3)
انظر سورة النور.
(4)
انظر سورة القيامة وسورة الحجر.
(5)
اقرأ للتفصيل عنوان «الأخبار الغيبية والنبوءات» في المجلد الثالث من «سيرة النبي» [بالأردوية] للعلامة السيد سليمان الندوي.
(6)
يقول كارليل في كتابه المشهور «الأبطال) Heroes ( «معلقا على ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقّى من الراهب «بحيرى» أساس الدين الإسلامي ومادته، يقول: «إني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمدا سكنا معه في الدار، ولا ماذا عساه أن يتعلّمه غلام في هذه السنّ الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمدا لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته، ولا شك أن كثيرا من أحوال الشام ومشاهدها لم يكن في نظره إلا خليطا مشوّشا من أشياء ينكرها ولا يفهمها (توماس كارليل: الأبطال ص -) Thomas Carlyl ،Heroes And Hero Worship (.. (68 /