الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينشط فيها الكسلان، ويقوى فيها الضعيف، وكانت سحابة رحمة تغشاهم في الحلّ والتّرحال، وهي سحابة صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحبّه وعطفه، وتربيته وإشرافه.
تسجيل دقائق حجّة النبيّ:
وقد سجّل الرّواة العادلون من الصحابة كلّ دقيقة من دقائق هذه الرحلة، وكلّ حادث من حوادثها الصغيرة، تسجيلا لا يوجد له نظير في رحلات الملوك والعظماء، والعلماء والنبغاء «1» .
سياق حجّته صلى الله عليه وسلم إجماليا:
ونحن نلخّص «2» هذه الحجّة التي سمّيت ب «حجّة الوداع» و «حجّة البلاغ» و «حجّة التّمام» ، وكانت كلّ ذلك أو أكثر، وحجّ معه أكثر من مئة ألف إنسان «3» .
كيف حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
؟
عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجّ، وأعلم الناس أنّه حاجّ، فتجهّزوا وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحجّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطريق خلائق
(1) اقرأ كتاب «حجة الوداع وجزء عمرات النّبي صلى الله عليه وسلم» للعلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وتقديمه بقلم كاتب هذه السطور (طبع المكتب الإسلامي بيروت) .
(2)
اعتمدنا في هذا التلخيص على كتاب «زاد المعاد» النفيس للعلامة ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751 هـ، وقد استوعب الموضوع رواية وتاريخا وفقها.
(3)
روي عددهم من مئة وأربعة عشر ألفا إلى مئة وثلاثين ألفا.
لا يحصون، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدّ البصر.
وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلّى الظهر بها أربعا، وخطبهم قبل ذلك خطبة علّمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه.
ثم سار وهو يلبّي، ويقول:«لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك» والناس معه يزيدون وينقصون، وهو يقرّهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته، ثمّ سار حتّى نزل ب «العرج» «1» وكانت زاملته وزاملة «2» أبي بكر واحدة.
ثم مضى حتّى أتى «الأبواء» «3» فوادي «عسفان» «4» في «سرف» «5» ، ثمّ نهض إلى أن نزل ب «ذي الطّوى» «6» ، فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجّة، وصلّى بها الصبح، ثمّ اغتسل من يومه، ونهض إلى مكّة، فدخلها نهارا من أعلاها، ثمّ سار، حتّى دخل المسجد، وذلك ضحى، فلمّا نظر إلى البيت قال:«اللهمّ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة» ويرفع يديه ويكبّر، ويقول:«اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، حيّنا ربّنا بالسّلام» .
(1)[العرج: قرية جامعة على طريق مكّة من المدينة] .
(2)
[الزاملة: هي البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل، وهو الحمل] .
(3)
[الأبواء: جبل بين مكّة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه] .
(4)
[عسفان: قرية جامعة بين مكّة والمدينة] .
(5)
[سرف: قرية على ستة أميال من مكة من طريق مر، وقيل سبعة وتسعة واثنا عشر، وليس بجامع اليوم (معجم ما استعجم) ] .
(6)
[الطّوى: موضع عند باب مكّة يستحبّ لمن دخل مكّة أن يغتسل به (النهاية: 3/ 147) ] .
ولمّا دخل المسجد عمد إلى البيت، فلمّا حاذى الحجر الأسود، استلمه، ولم يزاحم عليه، ثمّ أخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، ورمل في طوافه هذا ثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع في مشيه، ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الآخر ومنكبه، وكلّما حاذى الحجر الأسود أشار إليه، واستلمه بمحجنه «1» .
فلمّا فرغ من طوافه، جاء إلى خلف المقام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته، أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثمّ خرج إلى الصّفا من الباب الذي يقابله، فلمّا قرب منه قرأ:«إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به» ، ثمّ رقي عليه، حتّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره، وقال:«لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
وأقام بمكّة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلمّا كان يوم الخميس ضحى، توجّه بمن معه من المسلمين إلى منى، فنزل بها، وصلّى بها الظهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلمّا طلعت الشمس، سار منها إلى عرفة، ووجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زالت الشمس، أمر بناقته القصواء، فرحّلت، ثمّ سار، حتّى أتى بطن الوادي من أرض عرفة، فخطب الناس- وهو على راحلته- خطبة عظيمة قرّر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشّرك والجاهلية، وقرّر فيها تحريم المحرّمات التي اتّفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع ربا الجاهلية
(1)[المحجن: عصا معقّفة الرّأس كالصّولجان] .
كلّه، وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر الحقّ الذي لهنّ وعليهنّ، وأنّ الواجب لهنّ الرزق والكسوة بالمعروف.
وأوصى الأمّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنّهم لن يضلّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبر أنّهم مسؤولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فرفع إصبعه إلى السّماء واستشهد الله عليهم ثلاث مرّات، وأمرهم أن يبلّغ شاهدهم غائبهم، فلمّا أتمّ الخطبة، أمر بلالا فأذّن ثم أقام الصلاة، فصلّى الظهر ركعتين، ثمّ أقام فصلّى العصر ركعتين أيضا، وكان يوم الجمعة.
فلمّا فرغ من صلاته ركب حتّى أتى الموقف، فوقف وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرّع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، يقول فيهم:«اللهمّ! إنّك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذلّ جسده، ورغم أنفه لك، اللهمّ! لا تجعلني بدعائك ربّ شقيّا، وكن لي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» «1» .
وهنالك أنزلت عليه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] ، فلمّا غربت الشمس، أفاض من عرفة،
(1)[أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 174) برقم (11405) ، والصغير (2/ 15) ، برقم (696) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده يحيى بن صالح الأيلي، روي عنه مناكير] .
وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمّ إليه زمام ناقته، حتّى إنّ رأسها ليصيب طرف رحله، وهو يقول:«أيّها الناس، عليكم بالسّكينة» «1» .
وكان يلبّي في مسيره ذلك، لا يقطع التلبية حتّى أتى المزدلفة، وأمر المؤذّن بالأذان فأذّن، ثمّ أقام، فصلّى المغرب قبل حطّ الرحال وتبريك الجمال، فلمّا حطّوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثمّ صلّى العشاء، ثمّ نام، حتّى أصبح.
فلمّا طلع الفجر صلّاها في أوّل الوقت، ثمّ ركب حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرّع، والتكبير والتهليل والذكر، حتّى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس.
ثمّ سار من مزدلفة، مردفا للفضل بن عباس، وهو يلبّي في مسيره، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات، فلمّا أتى بطن محسّر حرّك ناقته، وأسرع السير، فإنّ هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب، حتّى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية.
ثمّ رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكّة على جميع البلاد، وأمر
(1)[أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة..، برقم (1671) ، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية..، برقم (1282) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب الدفعة من عرفة، برقم (1920) ، والنّسائي في مناسك الحج، باب فرض الوقوف بعرفة، برقم (3021) ، وأحمد في المسند (5/ 201) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه] .
بالسّمع والطّاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا، يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه، وقال في خطبته تلك:
«اعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم» ، وودّع الناس حينئذ فقالوا:«حجّة الوداع» .
ثمّ انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيّ عمره، ثمّ أمسك وأمر عليّا أن ينحر ما بقي من المئة.
فلمّا أكمل صلى الله عليه وسلم نحره استدعى بالحلّاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين من يليه.
ثمّ أفاض إلى مكة راكبا، وطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة، ثمّ أتى زمزم، فشرب وهو قائم.
ثمّ رجع إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلمّا أصبح انتظر زوال الشمس، فلمّا زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى، ثمّ الوسطى، ثمّ الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة.
وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النّحر، وقد تقدّمت، والخطبة الثانية في ثاني يوم النحر.
وتأخّر حتّى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ثمّ نهض إلى مكّة، فطاف للوداع ليلا سحرا، وأمر الناس بالرحيل، وتوجّه إلى المدينة «1» .
(1) ملخّصا من «زاد المعاد» ومقتبسا منه، ج 1، ص 180- 249، بحذف المباحث التي توسّع فيها المؤلف وأفاض، ومواضع الخلاف بين الفقهاء والمحدّثين.