الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما من لم يشترطه فالأمر عنده يتناول مطلق الطلب فيدخل فيه الدعاء والالتماس وهذه المسألة متعلقة بالأمر المتجرد عن القرائن هل هو للوجوب أم لغيره، وسوف يأتي بإذن الله الكلام على هذه المسألة.
إلا أن هناك خلافا حقيقيا ومرجعه عقدي في تعريف الأمر وهل له صيغة أم لا؟ وهذا ما سوف نعرض له في التنبيه التالي:
التنبيه الرابع - للأمر صيغة موضوعة في اللغة أو (الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده):
قال الشنقيطي في المذكرة (ص/24): (اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب:
الأول أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا أسكن مثلا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، قالوا وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذي انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالنسبة إليه أمر، وإلى الحركة نهى.
قال مقيده عفا الله عنه:
الذي يظهر والله أعلم أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده، مبنى على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسي ولفظي، وأن الأمر النفسي، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا أن الأمر هو عين النهى عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهى ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، النهى استدعاء ترك، فليس استدعاء شيء موجود، وبهذا يظهر أن الأمر ليس عين النهى عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك إلا على زعم أن الأمر هو الخطاب النفسي القائم بالذات المجرد عن الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم في كون الأمر نهياً عن الضد أن يكون الأمر نفسياً يعنون الخطاب النفسي المجرد عن الصيغة
…
أصل هذا الكلام مبنى على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ، لأن هذا القول الباطل يقتضى أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والأرض، وبطلان ذلك واضح.
المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء ليس عين النهى عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال لأن قولك أسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة لان المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب إلا به واجب، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلانى في آخر مصنفاته وكان يقول بالأول.
المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والأبياري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالى من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده وإذا كان ذاهلا عنه فليس ناهياً عنه إذ لا يتصور النهى عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره لزوما لا ينفك، إذ لا يصح امتثال الأمر بحال إلا مع الكف عن ضده فالأمر مستلزم ضرورة للنهى عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين) (1).
(1) وينظر أيضا المسائل المشتركة للعروسي (ص/113). ولتعلم أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة أثمر أمورا كنا في غنى عنها فقد انبرى الباقلاني للرد على المعتزلة في كتابه التقريب والإرشاد فأثمر الخلاف بينهما مسائل كلامية كثيرة منها المسألة السابقة، ومسألة: هل الأمر يستلزم إرادة الآمر؟ فاشترطت ذلك المعتزلة، وقد نقض قولهم وفند شبههم الكلوذاني في التمهيد (1/ 124: 133) وانتصر لعدم اشتراطه وهو مذهب الأشاعرة. وكلاهما مخطئ والحق وسط بينهما، فكلاهما لم يفرق بين الإرادة الشرعية والكونية قال الشيخ عياض السلمي في "أصول الفقه التي لا يسع الفقيه جهلها" (ص/218): (وهذا الخلاف لم يرد على محل واحد، والفريقان أخطآ معا؛ حيث لم ينتبهوا إلى أن الإرادة نوعان:
إرادة كونية قدرية: وهذه هي التي لا بد من وقوع متعلقها فيصح أن يقال: ما أراده الله لا بد أن يقع، بمعنى ما أراد الله وقوعه إرادة كونية قدرية، أي ما قدر وقوعه وقع، والأشعرية نظروا إلى هذا النوع من الإرادة فوجدوا أن الله يأمر بأشياء ثم لا تقع فقالوا إذاً هو لم يرد وقوعها بمعنى لم يقدر في الأزل وقوعها.
والنوع الثاني: الإرادة الشرعية: وهي بمعنى المحبة، وهذه تكون مع الأمر لا تفارقه، فما أمر الله به عباده فهو يحب أن يقع، ولكنه قد يقع فعلا أولا يقع تبعا لتقدير الله وإرادته الكونية، وهذه هي التي نظر إليها المعتزلة فقالوا من شرط الأمر الإرادة.
وتبين من هذا أن خطأ الفريقين جاء من جهة ظنهم أن إرادة الله واحدة لا تنقسم إلى هذين القسمين.
ويمكننا أن نصحح ما قاله الأشعرية من أن الأمر ليس من شرطه إرادة الآمر؛ أما الإرادة الكونية فواضح عدم التلازم بينها وبين الأمر، وأما الإرادة الشرعية فهي تابعة للأمر، فالأمر يستلزم الإرادة الشرعية ويدل عليها، فلا تكون شرطا في تسميته أمرا؛ لأن الشرط ينبغي أن يعلم تقدمه على المشروط، ولأن الشرط في اللغة العلامة، والإرادة خفية لا نعرفها إلا بالأمر فلا يصح جعلها شرطا في صحة الأمر). وانظر أيضا "المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين" (ص/118: 125).