الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح:
من دقق في القولين السابقين يلحظ أن الخلاف بينهما لفظي فالمنع إنما يتجه لوصف جميع الأحكام الشرعية بأن فيها مشقة وأن ذلك شرط لكي يصح نسبتها للشرع، والإثبات إنما يتجه لكون بعض الأحكام الشرعية فيها نوع مشقة وهي المشقة العادية كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة ونحو ذلك.
وقد اتفقا على خروج المشقة العظيمة التي تتجاوز الحدود العادية والطاقة البشرية السوية، كالتي تؤدي إلى هلاك أحد الضرورات الخمس، فنحو هذه المشقات إنما هي مرفوعة عن الأمة، ولم يكلفنا الله بها، بل هي موجبة للرخصة والتخفيف كنحو إباحة التيمم للخوف من الاغتسال للجنابة من شدة البرد، ووجوب الفطر لكن خاف على نفسه التضرر بالصوم، ونحو ذلك مما هو معروف في محله.
خاتمة - في بيان أن تقصد المشقة لا يجوز في شرعنا:
قال سعود الزمانان: (يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير، فترى بعض الجهلاء يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله، حتى يتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:" أجرك على قدر نصبك "، ولحديث جابر في صحيح مسلم قال:" خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفي رواية - فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا - "
والذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي:
أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" هلك المتنطعون " وقال: " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه
…
".
ثم قال رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(10/ 622 - 623): " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة
…
فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ".
ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي رحمه الله في " الموافقات" (2/ 129):" إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض ".
وقال أيضا (2/ 133): " ونهيه عن التشديد - أي النبي عليه الصلاة والسلام شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله
التوفيق ".
ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} ، وقوله (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) [البقرة: 286]، وقوله:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286] وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185]، وقوله:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78]، وقوله:(يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)[النساء: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقول عائشة رضي الله عنها (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).
رابعاً: لو قصد الشارع التكليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين.
خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى:(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86] وقوله صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا).
سادساً: نقل الإمام الشاطبي في "الموافقات"(2/ 122) الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة.
سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال:(القصد القصد تبلغوا) لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنطع وقال: (هلك المتنطعون).
أما استدلالهم بحديث: (بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) فالجواب عليه من وجهين:
الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي في "الموافقات"(2/ 130): " إن هذه أخبار