الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [الأعلى: 6، 7] فقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) بعد قوله: (إِلَاّ مَا شَآءَ اللَّهُ) يدل على أنه أعلم بما ينزل. فهو عالم بمصلحة الإنسان، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي).
ما يمتنع نسخه:
قال الشيخ: (ما يمتنع نسخه:
1 -
الأخبار إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخه.
2 -
الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان).
أولا - الكلام على نسخ الأخبار (1):
اعلم أن الخبر يتعلق به ثلاثة أمور:
تلاوته، والإخبار به، والنسبة التي اشتمل عليها الخبر والتي بمقتضاها يحكم بصدق الكلام، أو كذبه، أما الأول والثاني فهما من باب نسخ الأحكام التكليفية لا من باب نسخ الأخبار إلا أن الأصوليين يذكرون الكلام عليهما نظرا لتعلقهما بالأخبار.
أما الخبر من حيث تلاوته فيجوز نسخة بلا خلاف بين العلماء سواء أكان مما يتغير كقولنا: زيد مؤمن، أو كان مما لا يتغير كقولنا: الله موجود.
أما من حيث التكليف بالإخبار به فإن كان مما يتغير كقولنا: أخبر زيدا بأن عمرا آمن، فلا خلاف في جواز نسخه.
وأما إن كان مما لا يتغير كأخبر زيدا بأن الله موجود.
فإن كان من غير أن يكلف بالإخبار بنقيضه كأن يقول لا تخبره بأن الله موجود فلا خلاف في جواز نسخه.
وإن كان نسخه بالتكليف بالإخبار بنقيضه كأن يقول له أخبر محمدا بأن الله ليس بموجود.
فقد اختلف فيه، فالمعتزلة يمنعون ذلك بناء على أن ذلك يفضي إلى الكذب وهو قبيح عقلا فكيف يجوز التكليف به.
(1) انظر: التحبير (6/ 3010: 3016)، وشرح الكوكب (3/ 543: 545)، الإحكام للآمدي (3/ 156: 158)، نظرية النسخ في الشرائع (141: 143).
والأشاعرة يجوزونه بناء على قولهم بأن الحسن ما أمر به الشارع، والقبيح ما نهى عنه الشارع، وقالوا إن سلمنا فرضا قبح الكذب فقبحه إنما هو باعتبار فاعله لا باعتبار التكليف به، ولا مانع عقلا من أن يبيحه الشرع لغرض المكلف من جلب مصلحة أو درء مفسدة.
وهذا الخلاف بينهم قائم على أساس أقوالهم في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وقد اختلفت فيها الأقوال إلى ثلاثة:
القول الأول:
أن حُسْن الأشياء وقُبْحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة الشرع، وهو قول جماهير الأشاعرة.
القول الثاني:
أن حُسْن الأشياء وقُبْحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل، وهو قول المعتزلة والرَّافضة.
القول الثالث:
أن حُسْن بعض الأشياء وقُبْحها قد يعرف من جهة العقل دون ترتيب ثواب أو عقاب على ذلك، وهو قول أهل السنة والجماعة من السلف ومن تبعهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم واختاره الزركشي من الشافعية، وهو قول الماتريديَّة والكرَّاميَّة.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(8/ 431): (الناس في مسألة التحسين والتقبيح (على ثلاثة أقوال طرفان ووسط:
(الطرف الواحد) قول من يقول بالحسن والقبح ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له ولا يجعل الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة وهو ضعيف
…
وأما الطرف الآخر فهو قول من يقول إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر.
ويقولون أنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن
يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط وليس المعروف في نفسه معروفا عندهم ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم ....
قد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
(أحدها) أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فسادهم فهذا النوع هو حسن وقبيح وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا وهذا خلاف النص قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[سورة الإسراء: الآية 15]
…
والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم.
(النوع الثاني) أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
و (النوع الثالث) أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح
…
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب).
وبناء على هذا فالراجح في هذه المسألة القول بمنع النسخ في هذه الحالة.
وأما الخبر من حيث النسبة التي اشتمل عليها والتي بمقتضاها يصدق الكلام، أو يكذب:
فإن كان المضمون مما لا يتغير فلا يجوز نسخه بالإجماع، حكاه أبو إسحاق
المروزي، وابن برهان، وذلك كصفات الله تعالى، وأخبار ما كان وما يكون، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، وأخبار الأمم السالفة، والأخبار عن الساعة وأمارتها ونحوه. قال ابن مفلح: ونسخ مدلول خبر لا يتغير محال إجماعا.
قال القاضي في " العدة"(3/ 825): (الخبر هل يصح نسخه أم لا؟ ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك).
وأما إن كان مما يتغير كإيمان زيد - مثلا - وكفره، ففيه أقوال كثيرة منها:
القول الأول - أنه لا يجوز نسخه، وهو الأصح في المذهب وعليه الأكثر.
قال ابن مفلح: منعه جمهور الفقهاء والأصوليين، فمن أصحابنا ابن الأنباري، وابن الجوزي، والموفق، وجزم به في ' الروضة '. ومن الشافعية وغيرهم كالصيرفي، وأبي إسحاق المروزي، والباقلاني، والجبائي، وابنه أبي هاشم، وابن السمعاني، وابن الحاجب، قال الأصفهاني: هو الحق.
القول الثاني - يجوز نسخ ذلك:
وهو قول القاضي أبي يعلى، والفخر الرازي، وأبو عبد الله، وأبو الحسين البصريان، وعبد الجبار، ونسبه ابن برهان للمعظم. واختاره الشيخ تقي الدين.
قال أبو يعلى في "العدة"(3/ 825): (وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل، ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة
من زمان إلى زمان) (1).
القول الثالث - التفصيل بين الخبر عن الماضي فيمتنع نسخه؛ لأنه يكون تكذيبا، دون المستقبل؛ لجريانه مجرى الأمر والنهي، فيجوز أن يرفع به، وهذا القول اختيار ابن عقيل، والخطابي، وابن القطان، وسليم الرازي، والبيضاوي في ' مختصره '.
وهذا التفصيل مبني على أن الكذب لا يكون في المستقبل، بل في الماضي، ومنصوص أحمد أنه يكون في المستقبل كالماضي.
وقد بين الرزكشي أن الخلاف في مسألة النسخ في الأخبار بين من جوزه ومن منعه يرجع إلى الخلاف في حد النسخ عنده.
فقال في "البحر المحيط"(3/ 177): (أن الخلاف مبني على تفسير النسخ وهل هو رفع أو بيان كما صرح به القاضي فقال: ذهب كل من قال بأن النسخ بيان (2) وليس برفع حقيقي إلى جواز النسخ في الأخبار على هذا التأويل، قال: وأما نحن إذا صرنا إلى أنه رفع لثابت حقيقي وأن المبين ليس بنسخ أصلا فلا نقول على هذا بنسخ الأخبار لأن في تجويزه حينئذ تجويز الخلف في خبر الله وهو باطل وهذا بخلاف تجويز النسخ في الأوامر والنواهي لأنه لا يدخلها صدق ولا كذب. اهـ، ومن هذا يعلم أن من وافق القاضي في تفسيره بالرفع وقال بتجويز النسخ في الأخبار فلم يتحقق ولم يقف الهندي على كلام القاضي فقال لا يتجه الخلاف إن فسرنا النسخ بالرفع لأن نسخه حينئذ يستلزم الكذب وإنما يتم إذا فسرناه بالانتهاء فإنه لا يمتنع حينئذ أن يراد من الدليل على ثبوت الحكم في كل الأزمنة لا بعضها).
والذي أراه في هذه المسألة أن كلا القولين بالمنع والجواز لم يتواردا على محل واحد وأن الخلاف بينهما خلافا لفظيا، فمن قال بالمنع نظر للخبر قبل وقوعه، ومن قال بالجواز نظر إليه بعد وقوعه.
(1) انظر المسودة (ص/177).
(2)
وقد عرف القاضي النسخ في "العدة"(1/ 155) بقوله: (وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق. وإن شئت قلت: بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان
…
).