الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله"(ص/455): (المقصود بتجزئة الاجتهاد: أنْ يكونَ الفقيهُ مجتهداً في بابٍ من أبواب الفقه دون غيره، أو في مسألةٍ دون مسألةٍ.
وهذه المسألةُ من المسائل التي طال كلامُ الأصوليين فيها، ويُمكنُ تلخيصُه فيما يلي: ليس من محلّ النزاع أنْ يجتهدَ في مسألةٍ فقهيةٍ مَن لم تتوافرْ فيه شروطُ الاجتهاد العامّة، وهي: معرفةُ العربية، ودلالات الألفاظ، والقدرة على الاستنباط، ومعرفةُ ما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه. فمن لم يحصل هذه الشروط لا يُمكنُ أنْ يُعدَّ مجتهداً في شيءٍ من مسائل الفقه.
ولهذا قال ابنُ الزملْكانيّ: «فما كان من الشروط كلّياً، كقوّةِ الاستنباط، ومعرفةِ مجاري الكلام، وما يُقبَلُ من الأدلّة، وما يُردُّ، ونحوِه، فلا بدَّ من استجماعه بالنسبة إلى كلّ دليلٍ ومدلولٍ، فلا تتجزّأ تلك الأهليّةُ» (1).
وإنما موضعُ النزاع أن مَن له قدرةٌ على النظر في الأدلّة والاستنباط منها، وحصّل الشروطَ العامّةَ للاجتهاد إذا لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها، هل له أنْ يجتهدَ في المسائل التي أحاط علماً بأدلّتها؟).
الأقوال في المسألة والترجيح:
قال الشيخ شعبان محمد إسماعيل في كتابه "الاجتهاد الجماعي ": (وقد اختلف العلماء في مسألة تجزؤ الاجتهاد على أربعة مذاهب:
المذهب الأول: أن ذلك جائز وهو مذهب الجمهور، من الشافعية كالآمدي وابن السبكي والغزالي، والحنفية كالكمال بن الهمام، وصاحب مسلم الثبوت، والمعتزلة كأبي علي الجبائي وأبي عبدالله البصري، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن القيم (2).
(1) نقله عنه الزركشي في: "البحر المحيط"(4/ 499)، وابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير"(3/ 391).
(2)
وللحنابلة أقوال في المسألة، قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1469):(يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم، وجزم به الَامدي، خلافا لبعضهم. وذكر بعض أصحابنا مثله، وقولا " يتجزأ في باب لا مسألة "). وانظر: التمهيد (4/ 393)، الروضة (ص/353)، صفة الفتوى (ص/24)، إعلام الموقعين (4/ 216)، شرح مختصر الروضة (3/ 585)، التحبير (8/ 3886)، شرح الكوكب المنير (4/ 437)، المدخل (ص/373).
واستدلوا على مذهبهم بأدلة كثيرة نكتفي منها بما يأتي:
أولاً: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ووجه الدلالة من الحديث:
أن الإنسان لو تمكن من جمع الأدلة في مسألة معينة كان متمكناً من الوصول إلى العلم بحكم هذه المسألة من دليلها، فتركه إلى التقليد خلاف المعقول، وخلاف ما أفاده الحديث، لأن ما كان عن تقليد فيه ريب، وما كان عن دليل يكون خالياً من هذا الريب، فيكون المكلف مأموراً بالاجتهاد فيما حصّل فيه شروطه.
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك ون أفتاك المفتون).
ووجه الدلالة من الحديث: أن في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستفتاء النفس ترجيح لاجتهاد الإنسان على اجتهاد غيره، فيجب العمل باجتهاده فيما يعن له من مسائل كملت أهليته للاجتهاد فيها.
ثالثاً: أن المجتهد في بعض المسائل يعرف الحكم فيها عن دليل منصوب من قبل الشارع، فيجب إتباعه ولا يسوغ له تركه بقول أحد، فثبت بذلك وجوب الاجتهاد فيما يمكنه.
رابعاً: لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل، واللازم منتف، لأن كثيراً من المجتهدين قد سئل عن عدة مسائل فأجاب عن البعض ولم يجب عن البعض الآخر، ولم ينازع أحد في كونهم مجتهدين، فقد روي عن الإمام مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربع وقال في الباقي: لا أدري.
المذهب الثاني: أن ذلك غير جائز، وأن العالم لا يقال له مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. وعلى ذلك بعض الأصوليين، منهم الإمام أبو حنيفة (1) والشوكاني وغيرهما.
قال الشوكاني: (إن العلماء قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى تحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد
(1) قال ملا خسرو في "مرقاة الأصول"(2/ 468 - مرآة الأصول): (كونه غير مجزئ هو الصواب المروي عن الإمام لما مر في حد الفقه أن الفقيه هو الذي له ملكة الاستنباط في الكل).
المطلق، وأما مَن ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن، لأنه لا يزال يجوز وجود غير ما وصل إليه علمه).
واستدلوا على ذلك: بأن كل إنسان يبحث عن الحكم لو لم يكن عالماً بجميع المدارك ومحيطاً بكل الأدلة لا يجوز له الاجتهاد، لأنه قد يتعلق الحكم الذي يبحث عنه ببعض ما يجهله، فلا يكون الحكم صحيحاً.
فالاجتهاد في بعض الأبواب غير جائز.
ويمكن مناقشة ذلك: بأن ذلك مخالف للواقع، فليس هناك من المجتهدين مَن علم كل المدارك، حتى الأئمة المتبوعون، وإلا لما توقف بعضهم عن الفتوى، كالإمام مالك .. وكم توقف الإمام الشافعي رحمه الله بل بعض الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في العديد من المسائل، وكان بعضهم يحيل على البعض الآخر.
فإذاً لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري، فيتوقف فيما لا يدري، ويفتي فيما يدري.
المذهب الثالث: التوقف وعدم الجزم برأي معين، وهو ما ذهب إليه ابن الحاجب، ولعله رأى أن الأدلة متكافئة، وهي متعارضة فيلزم التوقف.
وأقول: إن المتأمل في أدلة المذاهب المختلفة يدرك أن الأدلة غير متكافئة، فأدلة المذهب الأول قوية وراجحة، ويؤيدها الواقع الذي لا يمكن إنكاره، فالترجيح هنا وارد.
المذهب الرابع: أن الاجتهاد يتجزأ بالنسبة للفرائض دون غيرها من أبواب الفقه.
ونسب هذا الرأي إلى ابن الصباغ من الشافعية.
وحجة مَن ذهب إلى ذلك: أن لباب المواريث أدلة خاصة، فيجوز أن يجتهد فيها، ولا يمنعه جهله بأدلة الأبواب الأخرى من الفقه.
والواقع أن هذه التفرقة لا معنى لها، فلا فرق بين المواريث وغيرها من أبواب الفقه، وما دام أصحاب هذا المذهب يجوزون الاجتهاد في باب المواريث فيجوز في غيرها، حيث لا فارق بينهما متى وجدت الشروط التي تؤهله للاجتهاد في مسألة ما.
الراجح في المسألة:
ويبدو من خلال العرض للأدلة السابقة والمناقشات الواردة عليها أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من تجزؤ الاجتهاد،
…
وهذا إنما يتم بشرطين: