الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهل:
مسألة العذر بالجهل من المسائل الكبار والتي صنفت فيها مصنفات كثيرة، ولن نتعرض الآن لما يتعلق بالأحكام العلمية فهذا له مجال آخر، ولنقتصر على ما يتعلق بالأحكام الشرعية العملية.
وقد تكلم الشيخ رحمه الله في "شرح الأصول" على قاعدة هامة وفصل فيها تفصيلا جيد فقال (ص/221): (الجهل بالمحرم لا شك أن الإنسان لا يؤاخذ به ولا يترتب عليه شيء من أحكامه مهما كان هذا الشيء المحرم.
أما الجهل بالواجب فنقول أنه لا يؤاخذ به الإنسان من حيث الإثم؛ لأنه جاهل لكن من حيث القضاء فهذا فيه تفصيل:
فإن كان حصل منه تفريط فإنه لا يمكن أن يتساهل معه، وإن لم يحصل منه تفريط فإن كان جاهلا بالحكم يعذر به ويرفع عنه القضاء ولنا في هذا حجج:
ومنها حديث المسيء في صلاته.
ومنها: حديث المستحاضة التي كانت تستحيض حيضة كبيرة تمنعها الصلاة حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اجلسي قدر ما كانت الحيضة) ولم يأمرها بالقضاء لأنها بانية على أصل يعني لها عذر، والأصل أن هذا الدم حيض ولهذا قالت: إني أستحيض حيضة شديدة كبيرة، فهذه معذورة لم يأمرها
النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء.
ومنها: حديث أهل قباء حيث صلوا بعض الصلوات إلى غير القبلة لكن لأنهم لم يعلموا بالنسخ وبنوا على أصل، والأصل: البقاء على القبلة وبقاء ما كان على ما كان).
وهذه القاعدة في التفريق بين المأمورات والمحظورات في العذر فيها بالجهل تكلم بها كثير من العلماء فمنهم من أطردها، ومنهم من قيدها كالشيخ وغيره بأن تكون في حقوق الله دون حقوق العباد ومنهم من زاد على ذلك شروطا أخرى، ولن استطرد في ذكر أقوال هؤلاء، وإنما أشير إلى بعضها:
قال الشيخ في "الأصل"(ص/33) عقب ذكره لهذه الموانع: (وتلك الموانع إنما هي في حق الله؛ لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من
ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه).
وذكر الزركشي هذا القيد وبيَّن سبب التفريق بين الأوامر والنواهي فقال في "المنثور"(2/ 19): (الجهل والنسيان يعذر بهما في حق الله تعالى المنهيات دون المأمورات والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله بالنهي وحديث يعلى بن أمية حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة عن المحرم ولم يأمره بالفدية لجهله واحتج به الإمام الشافعي رضي الله عنه على أن من وطئ في الإحرام جاهلا، أو ناسيا فلا فدية عليه، والفرق بينهما من جهة المعنى أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلف بالانفكاك عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع النسيان والجهالة لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي فعذر بالجهل فيه
…
) (1).
قال تقي الدين ابن تيمية في "شرح العمدة"(4/ 343): (لا تسقط السترة بجهل وجوبها ولا نسيان لها كما تسقط بالعجز فلو نسي الاستتار وصلى، أو جهل وجوبه، أو أعتقت الأمة في أثناء الصلاة ولم تعلم حتى فرغت لزمتهم الإعادة قاله أصحابنا؛ لأن الزينة من باب المأمور به فلا تسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث وهذا لأن الناسي والجاهل يجعل وجود ما فعله كعدمه؛ لأنه معفو عنه فإذا كان قد فعل محظورا كان كأنه لم يفعله فلا إثم عليه ولا تلحقه أحكام الإثم وإذا ترك واجبا ناسيا أو جاهلا فلا إثم عليه بالترك لكنه لم يفعله فيبقى في عهدة الأمر حتى يفعله إذا كان الفعل ممكنا).
فقيد الشيخ فعل الواجب بألا يكون الفعل ممكنا حتى يعذر صاحبه.
والأقرب عندي في تفسير الإمكان عند شيخ الإسلام: أن يكون الفعل مقدورا بمعنى أن المكلف لم يعرض له عارض يمنعه من آداء الفعل، وأيضا أن يكون وقته باقيا.
فلكي يعذر المكلف بالجهل في ترك المأمورات لابد وأن يكون الفعل غير ممكنا
بأن يعرض له عارض يجعله غير قادر على آداء الفعل كمن أصيب بشلل فلا يقدر
(1) - انظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 127)، القواعد والأصول الجامعة (ص/133).
على القيام في الفريضة - داخل وقته -، أو يخرج وقت الفعل.
وللشيخ شامي بن عجيبان في رسالته: "الجهل بأحكام المناسك" في (ص/254) كلاما دقيقا زاد فيه قيودا أخرى فقال ما ملخصه:
(المبحث الأول: وقوع الجهل فيما يتعلق بحقوق الله تعالى.
المطلب الأول: وقوع الجهل في ترك المأمورات.
جاء في القاعدة المشهورة: (الجهل عذر في حق الله في المنهيات دون المأمورات).
فإذا تعلق الجهل بترك فهل مأمور به، فإن الجهل حينئذ لا يكون عذرا في إسقاطه، وذلك (لأن الأمر يقتضي إيجاد الفعل، فما لم يفعل لم يخرج من العهدة، كما أن تارك الأمر يمكنه تلافيه بإيجاد الفعل، فلزمه ولم يعذر بجهله).
أما إذا تعلق الجهل بفعل منهي عنه لا إتلاف فيه فإن الجهل حينئذ يكون عذرا في إسقاط ما يترتب على فعله؛ (لأن النهي يقتضي الكف، فالمفعول من غير قصد للمنهي عنه كلا قصد، كما أن مرتكب النهي لا يمكنه تلافيه، إذ ليس في قدرته نفي فعل حصل في الوجود، فعذر فيه).
وبهذه القاعدة قال المالكية والشافعية والحنابلة، ويظهر لي أن الحنفية يتفقون مع الجمهور في القول بهذه القاعدة متى كان الجهل بالحكم في دار الإسلام، وذلك بناء على أصلهم أن الجهل في دار الإسلام ليس بمعتبر، وإنما يختلفون معهم في الجهل المتعلق بترك الواجبات الشرعية في دار الحرب، حيث يرى الحنفية أن الجهل بالواجبات في دار الحرب عذر مقبول، بينما يخالفهم الجمهور في ذلك.
من ترك واجب عليه فعله، أو أتى بما يفسده جاهلا بذلك، فلا يخلو الأمر من حالين:
الأول - أن يمكن تدارك ذلك الواجب المتروك فعله أو الذي أتى المكلف بما يفسده جهلا منه بذلك.
فإن كان وقته باقيا فإنه يجب حينئذ على المكلف تداركه مما تركه بفعله، فإن كان ذلك الواجب مما ينبني بعضه على بعض فإنه يلزمه حينئذ إعادة جميعه.
ومثال الأول - من ترك الإحرام من الميقات فإنه يلزمه الرجوع إليه والإحرام منه. وكذا حاج ترك طواف الوداع جاهلا بوجوبه، وعلم به قبل ابتعاده عن مكة،
فإنه يلزمه الرجوع للإتيان به.
ومثال الثاني - إذا أحدث المحرم في الشوط الثالث من الطواف، أو دخل في بعض طوافه من خلال الحجر، ولم يتوضأ ولم يعد ذلك الشوط الذي تخلله الدخول في الحجر فورا ثم سعى بعد ذلك، فعليه إعادة جميع الطواف؛ لفساده بالحدث.
وأما ما فات وقته من الواجبات المتروكة جهلا بوجوبه، فقد اختلف العلماء في وجوب تداركها بالقضاء على قولين:
الأول - أنه يجب على المكلف قضاء تلك الواجبات استدراكا لمصلحتها، إذ القصد من الأمر حصول الثواب، ومن لم يأتمر لم يرج له ثواب.
وبهذا قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، وبه يقول الحنفية إذا كان الجهل يتلك الواجبات في دار الإسلام.
القول الثاني - أنه يجب على المكلف قضاء ما فات وقته من الواجبات المتروكة جاهلا بوجوبها لسقوطها بفوات وقتها.
وهذا قال الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
الحال الثاني - أن لا يمكن تدارك ذلك الواجب المتروك أو المفسد بفعل ما يفسده مع الجهل، وليس له بدل، فإنه حينئذ يسقط، إذ لا سبيل إلى فعله.
ومثال ذلك: من ترك الجمعة جاهلا بلزومها له حتى فاتت، أو ترك الجهاد المتعين حضوره حتى فات. وكذا امرأة تركت الإحداد حتى انقضت عدتها.
المطلب الثاني: وقوع الجهل في فعل المنهيات.
إذا تعلق الجهل بفعل منهي عنه فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:
1 -
أن يكون لك الفعل المنهي عنه ليس من باب الإتلاف: والحكم حينئذ أنه لا يجب بفعله شيء، سوى تركه والإقلاع عنه إن كان متلبسا به عند العلم بحكمه.
ومثال ذلك: محرم لبس مخيطا، أو غطى رأسه بملاصق، أو تطيب في ثوبه او بدنه جاهلا بالحكم، فمتى علم بتحريم ذلك عليه وجب عليه أن يخلع المخيط ويكشف رأسه ويغسل ما أصابه من الطيب، ولا يلزمه دم ..
2 -
أن يكون ذلك الفعل المنهي عنه من باب الإتلاف:
واحكم حينئذ أنه لا يعذر الجاهل بجهله في هذه الحال، ويلزمه جميع ما يترتب
على ذلك الإتلاف، إذ الإتلاف سبب، وهو من الحكم الوضعي الذي لا يشترط فيه علم المكلف. وقد اتفق على هذا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
والقاعدة: (لا فرق في ضمان المتلف بين العلم والجهل).
3 -
أن يكون ذلك الفعل المنهي عنه يترتب على ارتكابه عقوبة، فإذا تعلق به الجهل فإنه يكون شبهة في إسقاط تلك العقوبة:
وبهذا قال جميع فقهاء المذاهب الأربعة، وكذلك الظاهرية.
والقاعدة في هذا: (أن من جهل حرمة شيء مما يجب فيه الحد أو العقوبة وفعله لم يحد).
قال في شرح مختصر الروضة: (أسباب العقوبات كالقصاص، لا يجب على مخطئ في القتل؛ لعدم العلم، وحد الزنى لا يجب على من وطئ أجنبية يظنها زوجته؛ لعدم العلم أيضا
…
إذ العقوبات تستدعي وجود الجنايات التي تنتهك بها حرمة الشرع زجرا عنها وردعا، والانتهاك إنما يتحقق مع العلم
…
والجاهل قد انتفى ذلك فيه، وهو شرط تحقق الانتهاك، فينتفي الانتهاك لانتفاء شرطه، فتنتفي العقوبة لانتفاء سببها).
المبحث الثاني: وقوع الجهل فيما يتعلق بحقوق العباد
إذا تعلق الجهل بحق من حقوق العباد، كإتلاف مال الغير جهلا، فإن الضمان يجب، ولا ينتهض الجهل عذرا لدفع الضمان. وبهذا قال فقهاء المذاهب الربعة، وأيضا الظاهرية.
فالجهل لا يكون عذرا في حقوق العباد؛ لأنها مبنية على المشاحة والمضايقة).
فتحصل مما سبق أن ترك المأمورات يعذر فيها المكلف بالجهل بشروط:
1 -
ألا يكون مفرطا وهذا ذكره الشيخ العثيمين.
2 -
ألا يكون الفعل ممكنا وهذا ذكره تقي الدين وفسرناه بأن يعرض له عارض يجعله غير قادر على أداء الفعل - داخل وقته -، أو يخرج وقت الفعل والجمهور على أن المكلف يقضي الفعل سواء أكان الوقت باقيا أم خرج الوقت وقولهم أقوي وأحوط وأبرأ للذمة لعموم حديث (فدين الله أحق أن يقضي) والمسألة فيها نزاع طويل لعدم ورود أمر جديد.