الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - يرجح المنطوق على المفهوم
.
قال الشيخ في "الشرح"(ص/590): ("المنطوق " ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق.
و"المفهوم ": ما دلَّ عليه اللفظ لا في محل النطق. فهذا هو الفرق بينهما).
واعلم أن المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، ومفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم من المنطوق أو مساو فكيف يتقدم عليه.
قال الشنقيطي في " المذكرة"(ص / 89): (وضابط مفهوم الموافقة هو ما دل اللفظ لا في محل النطق على أن حكمه وحكم المنطوق به سواء وكان ذلك المدلول المسكوت عنه أولى من المنطوق به بالحكم أو مساوياً له).
فمثال الأولوي: ما يفهم من اللفظ بطريق القطع؛ كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد.
ومثال المساوي: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)[النساء: 10] فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
وعليه فلابد من تقييد هذه القاعدة بكون المفهوم مفهوم مخالفة فتصير: (يقدم المنطوق على مفهوم المخالفة).
وقد مثل له الشيخ في "الشرح"(ص/590) بترجيح منطوق حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ) على مفهوم حديث القُلَّتين ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) فإنه يُؤخذُ منه - بطريق مفهوم المخالَفة - أن ما نقص عن القُلَّتين يتنجّسُ بملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيّرْ، ومنطوقُ الأول يدلُّ على عدم تنجُّسِه إذا لم يتغيّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه.
تنبيه:
ذهب الشيخ أحمد الحازمي في شرحه للأصول من علم الأصول إلى تقييد هذه القاعدة بأن يكون كلا من المنطوق والمفهوم خاصين، فإن كان المنطوق عاما،
والمفهوم خاصا - قال: كما هنا - فيبنى العام على الخاص ويكون الراجح أن نحمل حديث أبي سعيد على أنه إذا وقعت النجاسة في ماء ولم تغيره على ما زاد على القلتين، وأما حديث ابن عمر فهو باق على أصله وأن ماء دون القلتين ينجس بمجرد الملاقاة.
بداية - هذا القيد الذي ذكره الشيخ الحازمي لا يلزم الشيخ لأنه من باب الجمع، والشيخ ذكر أنه يلجا لتقديم المنطوق على المفهوم إذا تعذر الجمع، فقال:(قال الشيخ: (إذا اتفقت الأدلة السابقة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه. وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح) فكأنه ذكر هذا القيد ضمنيا، وأن مسألته فيما إذا تعذر الجمع بينهما.
كما أنه يشكل على ترجيح الشيخ أحمد الحازمي أمران:
الأول - أن هذا المفهوم غير معتبر كما قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(31/ 106): (قوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) مع قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) فمن قال أن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله (الماء طهور لا ينجسه شيء) بمفهوم (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) مع أن مفهوم العدد أضعف من مفهوم الصفة وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما ومن امتنع من ذلك قال قوله (الماء طهور) عام وقوله (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام وهو موافق له في حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا).
وقال في " الفتاوى الكبرى"(2/ 413): (في حديث القلتين: أنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة وما ينويه من الدواب والسباع فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وفي لفظ: (لم ينجسه شيء)، وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت مخالف الحكم في المنطوق بوجه من الوجوه ليظهر فائدة التخصيص بالمقدار، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق، وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس، بل إذا قيل بالمخالفة
في بعض الصور حصل المقصود (1). وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب، والتخصص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة باتفاق كقوله تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ)[الأنعام: 151] فإنه خص هذه الصورة بالنهي لأنها هي الواقعة لا لأن التحريم يختص بها، وكذلك قوله:(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)[البقرة: 283] فذكر الزمن في هذه الصورة للحاجة، مع أنه قد ثبت سائل أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله: إذا بلغ الماء قلتين، في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان حال المسؤول عنه كثيرا قد بلغ قلتين، ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث فلا يبقى الخبث فيه محمولا، بل يستحيل الخبث فيه لكثرته، بين لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه فلا ينجس، ودل كلامه صلى الله عليه وسلم على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان الخبث مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته، فصار حديث القلتين موافقا (2) لقوله:(الماء طهور لا ينجسه شيء)، والتقدير فيه لبيان صورة السؤال، لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث، فإن هذا مخالف للنص، إذ ما دون القلتين قد لا يحمل الخبث ولا ينجسه شيء كقوله:(الماء الطهور لا ينجسه شيء)، وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه).
الثاني - حد التفريق بين القليل والكثير غير منضبط، وقد اختلف العلماء في تحديد مقدار القلتين اختلافا كثيرا.
(1) وهي أن ما دون القلتين قد يحمل الخبث ويتغير به، وما كان قلتين أو أكثر لم يحمل الخبث.
(2)
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوي"(31/ 107): (قوله: (الماء طهور) عام وقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام وهو موافق له في حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا).