الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهو أحسن بكثير من محاولة إثبات علة قد تكون عليلة. وهذا له فوائد:
أولا - لنعوِّد الناس على تمام الاستسلام لله عز وجل، وأنَّنا نتعبد لله بهذا سواء علمنا الحكمة أم لم نعلم.
وثانيا - أننا إذا اعتمدنا على النص انقطع النزاعِ بين المؤمنين، وإلا فإن الكافر يجادل، لكن المؤمن يعرف قول الله:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: 36).
فكثير من الناس يحاول التماس علة للأحكام الشرعية- وهذا حسن، ولا ننكره بل نؤيده- لكن كوننا نجعله أصلا فيكون الأصلُ هو معرفة العلة، فهذا فيه نظر، بل ينبغي أن نعوِّد الناسَ اللجوء إلى حكم الله ورسوله
…
).
القياس في العبادات:
قال الشيخ في "شرح الأصول"(ص/529): (إذا كان حكم الأصل تعبديًا محضًا لم يصح القياس عليه؛ ولهذا قلنا: لا قياس في العبادات- ليس في شروطها وأركانها- لكن في أصل مشروعيتها
…
).
اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في عدم جواز إثبات عبادة جديدة زائدة على العبادات المعلومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة بالقياس مثل إثبات صلاة سادسة أو إيجاب صوم شهر آخر غير رمضان بالقياس، وذلك لأمور كثيرة منها:
1 -
أن العبادات توقيفية.
2 -
أن إثبات عبادات جديدة بطريق غير النقل يعد ابتداعا في الدين.
3 -
أن كل عبادة في نفسها أصل من حيث أنها عادة مبتدأة مستقلة ولا يمكن إثبات أصل بالقياس.
وقد سبق ذكر أنه لا يجري القياس فيما لا يعقل معناه من العبادات، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وذلك لأن القياس فرع تعقل المعنى فما لا يهتدي العقل إلى تعقل معناه لا يمكن أن يجري القياس فيه كأعداد الصلوات وعدد الركعات، ونصب الزكوات، ونحو ذلك.
ومما سبق نستطيع تحرير محل الخلاف بين العلماء:
إذا نظرت إلى كلام الأصوليين وأمثلة الفقهاء وجدت أنهم اختلفوا في إظهار أحكام العبادات الغير منصوصه بالقياس، ولم يختلفوا في إثبات عبادة مبتدأة بالقياس، ومن أمثلة ذلك:
- هل يقاس وجوب النية في الوضوء على وجوبها في التيمم؟
- هل يصلي العاجز عن الصلاة قاعدا أو مومئا برأسه - وهما المنصوص عليهما - بالإيماء بالحاجب قياسا على المنصوص من صلاة العاجز عن القيام جاسا أم مومئا برأسه.
- هل يقاس الجمع بين الصلاتين في الثلج والبرد على عذر المطر بجامع أن الكل عذر يصعب الخروج معه إلى الصلاة في وقتها المحدد؟،إلى غير ذلك من الأمثلة (1).
قال عيسى منون في نبراس العقول (ص/140) بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: (من مجموع ما سبق ومن الدليل الذي أقامه المانع أن الممنوع إما إثبات عبادة زائدة عن العبادات الواردة في تلك الأصول، أو إثبات كيفية خاصة لتلك العبادات دون ما يعرض لتلك العبادات من الصحة والفساد والفرضية والنفلية وغير ذلك من الشروط والموانع والأسباب
…
).
وجمهور الأصوليين على إثبات القياس في العبادات وخالف في ذلك الأحناف.
وتوسع الحنابلة في إثبات القياس في العبادات، وفيما يتضمن معنى العبادة وغيره من الكفارات والحدود.
فالكفارت دائرة بين العبادة والعقوبة، فهي متضمنة للعبادة من حيث أنها تؤدى بالصوم أو الصدقة، أو العتق، ويشترط النية في أدائها، وأما تضمنها معنى العقوبة فلأنها لم تجب ابتداء تعظيما لله تعالى كسائر العبادات بل وجبت جزاء للعبد على ارتكاب المحظور.
وأيضا الحدود فإنها شرعت زواجر، وهي أيضا تتضمن معنى التعبد لما فيها من تقدير من قبل الشارع.
(1) انظر رسالة القياس في العبادات حكمه وأثره لمحمد منظور (ص/429).
وقال الشيخ محمد منظور في "القياس في العبادات"(ص/541): (إن العلماء اتفقوا على أن الحدود والكفارات مقدرة شرعا فهي توقيفية، فليس لأحد أن يثبت حدا أو كفارة في الشرع ابتداء بالقياس؛ لأن ذلك نصب الشريعة بالرأي.
وفي الحقيقة أن معنى إثبات حد أو كفارة ابتداء بالقياس إنشاؤهما من غير أصل وليس ذلك من القياس الشرعي في شيء.
فمعنى إجراء القياس في الكفارات إلحاق مخالفة شرعية غير منصوص على كفارتها بمخالفة شرعية معينة منصوص على كفارتها لجامع بينهما، مثل إلحاق القتل عمدا بالقتل خطأ في وجوب الكفارة بجامع القتل بغير حق.
ومعنى أجراء القياس في الحدود إلحاق جناية غير منصوص على حدها بجناية منصوص على حدها لجامع بينهما، مثل النباش بالسارق في قطع اليد بجامع الأخذ خفية من الحرز).
قال القاضي في " العدة " (4/ 1409 (: (يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس، ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها
…
وهو قول أصحاب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس
…
) (1).
والقول بجريان القياس في العبادات وما تضمن معناها هو الراجح لعموم الأدلة المثبتة للقياس ولم يثبت ما يخرج العبادات منها.
بالإضافة إلى أن من ذهب لنفي القياس في العبادات خالفوا هذا الأصل وقاسوا فيها، ومن أمثلة ذلك:
قال السرخسي في "المبسوط"(1/ 35): (ويجوز افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل والتحميد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله).
فقاسوا ألفاظ التسبيح والتهليل والتحميد على لفظ التكبير بجامع التعظيم لله باللسان في جواز افتتاح الصلاة به.
(1) انظر: التمهيد (3/ 449)، الروضة (ص/338)، شرح مختصر الروضة (3/ 451)، نزهة الخاطر العاطر (2/ 225)، شرح مختصر أصول الفقه (ص/202).
وهذا المثال أقوى الأمثلة عندي في الاعتراض عليهم وهناك أمثلة أخرى خارجة عن محل النزاع عندي كتطهير الثوب النجس بالمائعات إلحاقا لها بالماء، بجامع كون كل منها مزيلا للعين والأثر، وأيضا قاسوا غير الحجر على الحجر في جواز الإستجمار به بجامع إزالة النجاسة في الكل.
وعندي أن هذا من باب العادات لا العبادات فلا يشترط لها النية.
قال تقي الدين في مجموع الفتاوي (21/ 59): (القصد في إزالة النجاسة ليس بشرط عند أحد من الأئمة الأربعة ولكن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ذكروا وجها ضعيفا في ذلك ليطردوا قياسهم في مناظرة أبى حنيفة في اشتراط النية في طهارة الحدث كما أن زفر نفى وجوب النية في التيمم طردا لقياسه وكلا القولين مُطْرَح).
الشرط الرابع - أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم:
قال في "الشرح"(ص/531): (الأصل أن تكون - أي علة الحكم - مشتملة على معنى مناسب للحكم مثل: أكرم اليتيم ليتمه، أطعِم المسكين لمسكنته، أعِنِ المجاهد لجهاده؛ يعني لا بد أن تكون علةُ الحكم مشتملة على معنى مناسب للحكم.
ثم ضرب المؤلف مثلاً بالإسكار بالخمر- والخمر حرام لأنها مسكرة
…
والإِسكار هو تغطية العقل على وجه اللذة والطرب).
وكلام الشيخ واضح لا يحتاج إلى بيان ولم يتوسع الشيخ في الكلام على مسلك المناسبة ولا بيان أقسامها عند الحنابلة فلا داعي للتشعب بذكر ذلك حتى لا نخرج عن المقصود.
قال في "الأصل"(ص/71): (فإن كان المعنى وصفاً طرديًّا لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به، كالسواد والبياض مثلا. مثال ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال: وكان زوجها عبداً أسود، فقوله: "أسود"؛ وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عتقت تحت حر، وإن كان أسود).
وقال في "الشرح"(ص/ 532): (الوصف الطردي هو الوصف الذي لا مناسبة فيه للحكم، وإذا لم يصح التعليل به لم يصح القياس عليه؛ لأن العلة حينئذٍ ساقطة.
قوله: (كالسواد والبياض مثلاً) فمثلاً لو جاء في الحديث أن رجلاً كثير الشعر ضخم البدن مفتول العضلات جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا رسول الله، إني جامعت امرأتي في رمضان، فماذا عليَّ؟ يقول: عليك كذا وكذا، فهذه الأوصاف هل هي أوصاف طردية؛ أي لو استفتانا رجل نحيف أصلع رخي العضلات هل يكون حكمه كحكم الأول أم يختلف؟
الجواب: أن حكمه كحكم الأول تمامًا مع أن الأول كان كثير الشعر مفتول العضلات كبير الجسم، وهذا- الثاني- نحيف أصلع رخي العضلات، مع ذلك كله نقول: أن حكمه كحكمه، لأن الأوصاف المذكورة أوصاف طردية لا مناسبة لها).
يشير الشيخ بعدم صحة القياس في الوصف الطردي لقادح عدم التأثير
…
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة"(3/ 547): (اعلم أن التأثير هو إفادة الوصف أثره، فإذا لم يفده، فهو عدم التأثير.
قوله: «وهو ذكر ما يستغني عنه الدليل في ثبوت حكم الأصل، إما لطرديته» ، «أو لثبوت الحكم بدونه» .
يعني أن عدم التأثير: هو ذكر وصف، أو أكثر تستغني عنه العلة في ثبوت حكم أصل القياس، إما لكون ذلك الوصف طرديا لا يناسب ترتب الحكم عليه، أو لكون الحكم ثبت بدونه.
مثال الأول؛ وهو ما عدم تأثيره لكونه طرديا: قول القائل في أن الفجر لا يقدم أذانها على الوقت: «صلاة لا تقصر، فلا يقدم أذانها على الوقت، كالمغرب» ، وذلك، لأن «باقي الصلوات تقصر» ، ولا يقدم أذانها على وقتها، فبقي قوله: لا تقصر؛ وصفا طرديا، لأنه غير مناسب لتقديم الأذان على الوقت، ولا عدمه.
وتحقيق الكلام في هذا: أن القياس المذكور اقتضى تعليل عدم تقديم الأذان بعدم القصر، فكأنه قال: لا يقدم الأذان على الفجر، لأنها لا تقصر، واطرد ذلك في المغرب، لكنه لم ينعكس في بقية الصلوات، إذ مقتضى القياس المذكور أن ما يقصر من الصلوات يجوز تقديم أذانه على وقته من حيث انعكاس العلة، لكن الأمر ليس كذلك
…
وإذا ألغي قوله: لا تقصر؛ لم يبق لاختصاص الأصل المذكور - وهو المغرب - وجه، إذ كل الصلوات لا يقدم أذانها.
ومثال الثاني، وهو ما يستغني عنه الدليل لثبوت الحكم بدونه: قوله في بيع الغائب: «مبيع لم يره» العاقد، «فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء» ، وذلك لأن عدم الرؤية ههنا عديم التأثير في الأصل، وهو بيع الطير، لأن «بيع الطير في الهواء ممنوع» ، أي: لا يصح وإن كان مرئيا. وعدم التأثير ههنا من جهة العكس كما تقدم، لأن تعليل عدم صحة بيع الغائب بكونه غير مرئي يقتضي أن كل مرئي يجوز بيعه، وقد بطل بيع الطير في الهواء.
وذكر النيلي هذا المثال على غير هذه الصفة، فقال: مبيع لم يره فلا يصح، كما إذا باع ميتة لم يرها، وهو في معنى النظم الأول، لأن عدم الرؤية في بيع الميتة عديم التأثير، إذ نجاستها تستقل بالبطلان كما أن الغرر في بيع الطير في الهواء بعدم القدرة عليه يستقل بالبطلان.
ومن أمثلة ذلك: قول المستدل: مس ذكره، فوجب عليه الوضوء، كما لو مس وبال، فإن مس الذكر مع البول عديم التأثير لاستقلاله بنقض الوضوء إجماعا.
واعلم أن الأول يسمى عدم التأثير في الوصف، لأن الوصف طردي غير مؤثر، كقوله: صلاة لا تقصر، والثاني يسمى عدم التأثير [في الأصل]، كعدم الرؤية في بيع الميتة والطير في الهواء لاستغناء حكم الأصل في ثبوته عنه).
ثم هناك أقساما أخرى مختلف فيها وهي: عدم التأثير في الحكم، وفي الفرع فلا داعي لذكرهما، فإنما الغرض التنبيه على القادح.
الشرط الخامس- أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل):
قال في "الأصل"(ص/71): (أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل؛ كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف).
قال المرداوي في "التحبير"(7/ 3298): (من شروطه - أي الفرع - أن يشتمل على علة حكم الأصل بتمامها حتى لو كانت ذات أجزاء، فلا بد من اجتماع الكل في الفرع، وهذه العبارة أحسن من عبارة ابن الحاجب ومن تبعه: ' أن يساوي الفرع في العلة علة الأصل '، لأن لفظ المساواة قد يفهم منع الزيادة، فيخرج قياس الأولى، بخلاف هذه العبارة فإن الزيادة لا تنافيه، وهي شاملة لقياس الأولى، والمساوي، والأدون. إذا علم ذلك فإن كان وجودها بتمامها فيه قطعيا كقياس الضرب للوالدين