الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن التعريف بالحكم معيب، قال في "الواضح" (1/ 29): (الواجب في أصل اللغة الساقط، والإيجاب الإسقاط، وهو الإلزام، وها هنا إلزام الشرع.
وقد قيل: ما في فعله ثواب وعلى تركه عقاب. ولا يحتاج إلى ذكر الثواب بل إذا رسم برسم كفى قولنا: ما في تركه عقاب.
وقيل: ما لا يجوز تركه.
والحد هو الأول، وهذه رسوم بمتعلقات وأحكام، فالثواب والعقاب أحكام الواجب. والإيجاب شيء وأحكامه شيء آخر، والتحديد بمثل هذا يأباه المحققون، حيث أبوا أن يحدوا الأمر بما كان الممتثل له طائعا، والمتأبي عنه عاصيا، فإن هذه أحكام ومتعلقات، وإنما حدوه باستدعاء الأعلى من الأدنى فعلا).
وقول ابن عقيل في تعريف الواجب بأنه (إلزام الشرع) غير مانع لدخول الحرام فيه فإن فيه أيضا إلزام للشرع بالترك.
تعقب والرد عليه:
مما سبق يتبين أن حد الشيخ العثيمين للواجب بالحد الحقيقي أجمع من الحد الذي ذكره ابن عقيل والشيخ الشنقيطي، وقد تعقبه الشيخ عطاء في شرحه لرسالة الأصول بأنه غير جامع من وجهين:
الوجه الأول - أنه لا يدخل فيه بعض ما يستفاد منه الوجوب من غير صيغة الأمر نحو وصف الفعل بأنه فريضة، أو إنه مكتوب على المخاطبين، أو بالإخبار بأن تركه كفر، أو فسق، أو ظلم وغير ذلك مما سيأتي تفصيله - بإذن الله - في باب الأمر.
ومن الملاحظ أن الشيخ عطاء استبدل كلمة (ما أمر) في تعريف الشيخ العثيمين بكلمة (ما طلب
…
فعله) والطلب بالنسبة للواجب جنس بعيد لأنه يشمل الفعل والترك، وهو يؤدي مع الفصل الذي ذكره بقوله (فعله) مؤدى كلمة الأمر ولعله لجأ إلى هذا التطويل في التعريف ليدخل في الحد بعض الصيغ التي تؤدي معنى الأمر ولكنها ليست على صيغة الأمر كوصف الفعل بأنه فريضة، ونحو ذلك مما سبق التمثيل به.
وهذا التعقب غير سديد؛ فمع ما فيه من التطويل نجد أن ما مثل به كوصف الفعل بأن الله فرضه، أو كتبه
…
إنما هو من الأخبار، لا الطلب.
ومما يزيد الأمر وضوحا قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ)[البقرة: 233] فهذا خبر وليس طلبًا، فلا يدخل في تعريف الشيخ عطاء ويدخل في تعريف الشيخ العثيمين؛ مضمن معنى الطلب.
يوضحه أن قول (يتضمن) الذي ذكره الشيخ العثيمين في تعريف الأمر (قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء)، يُدِخل باقي الصيغ التي تدل على الأمر وليست مستفادة من صيغه الحقيقية، فالتعبير بأن الأمر فرض أو حتم ونحو ذلك متضمن لطلب الفعل وإن لم يكن بصيغة الطلب.
- وأيضا نجد أن الشيخ العثيمين قد زاد قيد الاستعلاء، ولم يشر إليه الشيخ عطاء في تعريف الواجب، فأصبح تعريفه مدخول (غير مانع) فيدخل فيه الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة طلب الفعل لا على وجه الاستعلاء.
الوجه الثاني - أنه لا يشمل الواجب الموسع، والكفائي، والمخير، وأفاد أنه لابد من إضافة قيد:(في بعض الوجوه)، أو (بوجه ما)، أو بحالة ما) على التعريف الذي اختاره وهو:(ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم) ليشمل الواجب الموسع، والكفائي، والمخير.
فقال ما محصله: أن التعريف بدون هذا القيد يتجه فيه اللزوم لطلب الفعل على وجه الجزم مطلقا، فلابد وأن يأتي بالواجب الموسع في كل أوقاته ولابد وأن يأتي بكل خصال الكفارة بالنسبة للواجب المخير، ولابد وأن يأتي بالواجب الكفائي كل المكلفين لأن كل هذا يدخل تحت قوله (ما طلب الشارع فعله على وجه الجزم).
وعليه ففائدة القيد (في بعض الوجوه)، أو (بوجه ما)، أو (بحالة ما) أن يخرج الواجب المخير إذا قام ببعض خصاله، ويخرج الواجب الموسع إذا قام به في آخر وقته ويخرج به الواجب الكفائي إذا قام به البعض دون البعض.
وهذا التعقب غير سديد؛ وذلك لأن الخطاب التكليفي بالواجب الموسع، والمخير، والكفائي متعلق بحصة من القدر المشترك، وهو في الموسع الواجب فيه، وفي الكفائي: الواجب عليه، وفي المخير: الواجب نفسه.
وهذا القدر المشترك واجب على المكلف الإتيان به، فهذه الواجبات بالنظر للقدر المشترك تكون كالواجب العيني، وعليه فلا حاجة لهذا القيد.
قال الزركشي في "البحر المحيط"(1/ 150): (وقال ابن الحاجب متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ولا تخيير فيه ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها (1) وقال الأصفهاني شارح المحصول لا نقول في الواجب المخير هو القدر المشترك بل الواجب هو حصة منه يصدق عليها القدر المشترك ولا سبيل إلى القول بإيجاب المشترك ويكون من صور التخيير بين الخصال الثلاث بأنه واحد ولا يتصور التخيير في الواحد).
ووجه الدقة فيما قاله الأصفهاني أن ذلك يقطع النزاع مما قد يفهم من أن تعلق الوجوب بالقدر المشترك ينتج عنه تعلق الوجوب بالجميع، مع أن هذا ينافي التخيير كما ذهب إليه بعض المعتزلة مما أدى إلى إنكارهم لهذا القسم، فعبارة الأصفهاني تبين أن تعلق الوجوب إنما هو لحصة من القدر المشترك، والتي تتعلق بالفعل الواجب فعله، قال الموفق (2): أجمعت الأمة على أن جميع خصال الكفارة غير واجب - أي الفعل -.
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة"(1/ 332): (الخطاب في الموسع والمخير وفرض الكفاية جميعا متعلق بالقدر المشترك، فيجب تحصيله، ويحرم تعطيله.
فالمشترك في الموسع وهو مفهوم الزمان ومطلقه من الوقت المقرر المحدود شرعا، بمعنى أن الواجب إيقاعه فيما يصدق عليه اسم زمن من أزمنة الوقت الشرعي. أعني ما بين زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله في الظهر مثلا، فمتى أوقع الصلاة في هذا الزمن المطلق كان آتيا بالمشترك، فيخرج عن عهدة الواجب أداء، وإن أخره حتى خرج الوقت الشرعي، كان معطلا للمشترك عن العبادة الواجبة فيه، فيحرم عليه التأخير، ويلزمه استدراكه قضاء.
والمشترك في المخير هو مفهوم أحد الخصال، فهو متعلق الوجوب وأما متعلق التخيير، فهو خصوصيات الخصال، من إطعام أو كسوة أو عتق، فالواجب عليه أن يأتي بإحدى الخصال ولا بد، وهو المشترك بين جميعها، لأن كل واحدة منها يصدق
(1) انظر التحبير (2/ 896)، شرح الكوكب المنير (1/ 380).
(2)
انظر الروضة (ص/28).
عليها أنها إحدى الخصال، ولا يجوز له ترك الجميع، لئلا يتعطل المشترك، لأن الجميع أعم من المشترك، وتارك الأعم تارك للأخص ومعطل له، وله الخيار بين خصوصيات الخصال، إن شاء أطعم، أو كسا، أو عتق، فالواجب - وهو المشترك - لا تخيير فيه، إذ لا قائل بأنه إن شاء فعل إحدى الخصال، وإن شاء ترك، والمخير فيه - وهو خصوصيات الخصال - لا وجوب فيه، إذ لا قائل بأن الواجب عليه جميع الخصال على الجمع.
والمشترك في فرض الكفاية هو مفهوم أي طوائف المكلفين، كإحدى الخصال في الواجب المخير، غير أن الخطاب تعلق بالجميع في أول الأمر، لتعذر خطاب بعض مجهول أو معين، مع تساوي الجميع فيه، فيكون ترجيحا من غير مرجح، ولا جرم أنه سقط الوجوب عن الجميع بفعل إحدى الطوائف، لحصول المشترك الوافي بالمقصود، وأثم الجميع بترك جميع الطوائف له، لتعطل المشترك، فهذا هو التحقيق في الأبواب الثلاثة.
ثم قال: الفرق بين الأبواب الثلاثة: وهو أن المشترك في فرض الكفاية هو الواجب عليه، وهو المكلف، وفي المخير هو الواجب نفسه، وهو إحدى الخصال، وفي الموسع هو الواجب فيه، وهو الزمان.
وبهذا يندفع عنا سؤال قد يستصعب، وهو أن يقال: لم لم تقولوا: إن الواجب في المخير جميع الخصال، ويسقط بفعل بعضها، كما قلتم: إن الوجوب في فرض الكفاية على الجميع، ويسقط بفعل البعض؟ فيقال: لأن إيجاب أحد هذين، أو هذه الأشياء على زيد معقول، ويجعل الخيار في التعيين إليه، فلا يلزم منه تعطيل الواجب. بخلاف إيجاب شيء ما على أحد هذين، أو هؤلاء الأشخاص، لأنه يفضي إلى أن يتواكلوا، ويحيل بعضهم على بعض، ولا مرجح فيه، فيتعطل الواجب بالكلية، إلا أن يعود الموجب، فيعين للفعل أحدهم، فيكون إيجابا مبتدأ معينا، لكن فيه تطويل لطريق تحصيل مصلحة الواجب، وتماد في إيقاعها، فكان ما سلكناه في فرض الكفاية أقرب، وهو أن يخاطب الجميع بالواجب، فإذا علموا ذلك توفرت دواعيهم، أو داعية طائفة منهم على الخروج عن العهدة، فيخرج الجميع بذلك، ولا يسعهم التواكل).