الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يريدون مصلحة لهم كما تحاكموا إليه في الزنى (1)
…
).
ثم قال: (وهل الأولى أن نجيبه أو ندعه؟
الجواب أن يقال: في ذلك تفصيل: إذا كان متعنتًا فالمطلوب إهانته. وإهانته تكون على وجهين: فتارة تكون إهانته بإجابته وبيان بطلان حججه، فإذا كان في إجابته على حججه وإبطال حججه إهانة له؛ فالأولى أن يجاب، بل يجب، وإذا كان في هجره وعدم إجابته إهانة له؛ فإنه لا يجاب، فالإِنسان يعرف حاله: إذا كان هذا المتعنت قويًا عنيفًا بليغًا مُبينًا فالأولى ألا يجاب لاسيما إذا كان المسئول ليس بذاك القوي في الإِقناع، فإن بعض الناس يكون عنده علم ولكن ليس عنده قوة للمرافعة والمهاجمة فانسحابه من الأصل خير من كونه يتورط، وأما إذا كان عنده من القوة والمرافعة والمناظرة والعلم ما يستطيع أن يبدد به ظلام هذا الرجل فالأولى أن يجيبه حتى يكسر شوكته).
ثم قال: (وقوله: (أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض): وهذا كثير الآن، يجيء المستفتي يسأل العالم ليرى ماذا عنده وليس قصده الحق، وإذا علم ما عنده ذهب إلى العالم الثاني وسأل وقال: ماذا تقول في كذا وكذا؟ قال: أقول كذا وكذا. قال: لكن فلان يقول: كذا وكذا، فما قصده؟! أي أنه يضرب رأي العالم الثاني برأي العالم الأول. وقد يريد أن يتبجح في المجالس يقول: أنا سألت فلانًا وقال: هذا حرام، وسألت فلانًا وقال: هذا حلال. ثم يضرب آراء العلماء بعضها ببعض).
ما يلزم المستفتي:
قال الشيخ: (الأول: أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة.
الثاني: ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للفتوى وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً وقيل يجب ذلك).
قال الشيخ العثيمين في رسالة "الخلاف بين العلماء" وهو يتكلم عن العامي: (فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم،
(1) فقد أرادوا أن يبدلوا حكم الله بألا يرجموا الشريف منهم.
أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق.
ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه).
قال ابن النجار في "شرح الكوكب"(4/ 571): (ولعامي تقليد مفضول) من المجتهدين عند الأكثر من أصحابنا، منهم: القاضي وأبو الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلا أو مساويا، لا إن اعتقده مفضولا؛ لأنه ليس من القواعد: أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح، وقال ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني: يلزمه الاجتهاد.
فيقدم الأرجح، ومعناه قول الخرقي والموفق في المقنع، ولأحمد روايتان، واستدل للأول بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل، مع الاشتهار والتكرار، ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال - تعالى - فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43، الأنبياء: 7] وأيضا: فالعامي لا يمكنه الترجيح لقصوره ولو كلف بذلك لكان تكليفا بضرب من الاجتهاد، لكن زيف ابن الحاجب ذلك بأن الترجيح يظهر بالتسامع
، ورجوع العلماء إليه، وإلى غيره لكثرة المستفتين، وتقديم العلماء له (ويلزمه) أي: ويلزم العامي (إن بان له الأرجح) من المجتهدين (تقليده) في الأصح، زاد بعض أصحابنا، وبعض الشافعية: في الأظهر.
قال الغزالي: لا يجوز تقليد غيره، قال النووي: وهذا، وإن كان ظاهرا ففيه نظر، لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم. (ويقدم الأعلم) من المجتهدين (على الأورع) في الأصح؛ لأن الظن الحاصل بالأعلم؛ ولأنه لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع (ويخير) العامي (في) تقليد أحد (مستويين) عند الأكثر من أصحابنا وغيرهم، قال في الرعاية: ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه فلا بد من سكون النفس والطمأنينة به، وقيل لأحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، فإنه صالح، مثله يوفق للحق) (1).
وعند اختلاف المفتين، وتعارض الفتاوى فللعلماء أقوال فيما يلزم المستفتي:
أحدها: يأخذ بأغلظهما، والثاني: بأخفهما، والثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع، والرابع: يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه، والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء (2).
وقال الشيخ عياض السلمي في "أصوله"(ص/486): (يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل، عند أكثر العلماء.
واستدلُّوا على ذلك: بالإجماع؛ أخذاً مما عليه الحالُ وقتَ الصحابة والتابعين، فإن العوامَّ كانوا يسألون المفضولَ فيُفتيهم، ولا يأمرُهم بسؤال الفاضل.
ولم يُعهدْ عن أحدٍ من الصحابة أنه كان لا يُفتي مع وجود الأفضل منه في البلدة، وقد أفتى ابنُ عباسٍ وابنُ عمر في حياة الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين.
(1) انظر التحبير (8/ 4080).
(2)
انظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي (ص/47)، التمهيد (4/ 403)، المسودة (ص/411)، مجموع الفتاوي لابن تيمية (33/ 168)، صفة الفتوى (ص/80)، إعلام الموقعين (4/ 264)، الإحكام للآمدي (4/ 243)، آداب الفتوى للنووي (ص/77)، التقليد وأحكامه للشثري، وقد توسع في عرض القوال وأدلتها ومناقشتها (ص/162).