الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
متى يتوقف المجتهد:
سبق في باب التعارض الكلام على مسألة: ماذا يفعل المجتهد إن لم يمكنه الجمع أو الترجيح، ولم يعلم الناسخ: وقلنا: إذا وجد المجتهد دليلان متعارضان فإنه يجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع والتوفيق بين الأدلة، فإن تعذر عليه ذلك - ولم يكن أحدهما منسوخا، فإنه يتوقف عن الاستدلال بأيهما لحين ظهور وجه الجمع بينهما، أو الترجيح لأحدهما على الآخر، وإنما قلنا بالتوقف لأن الحق واحد لا يتعدد، ولم نقل بالتخيير بين أيهما لأن هذا يستلزم تعدد الحق، وأنه ليس محصورا في واحد منهما.
-
تتمة:
المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم فإنه يحكم بما ظهر له، ولم يجز له التقليد، والكلام على بعض الحالات التي قيل أن المجتهد يقلد فيها:
ذكر الشيخ أن المجتهد إذا اجتهد ولم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ لضرورة.
وعبارة الشيخ عامة في جواز التقليد للمجتهد في كل الحالات التي لم يظهر له فيها الحكم سواء أكان لتعارض الأدلة، أو لضيق الوقت، ونحو ذلك والراجح خلافه كما سيأتي.
ومن الحالات التي قيل فيها أن المجتهد أيضا يجوز له التقليد: قيل قبل أن يجتهد - وهو أهل له -، وعند العمل لا الإفتاء، وقيل يجوز أن يقلد من هو أعلم منه مطلقا، وقيل: من الصحابة دون من غيرهم.
قال ابن قدامة في "الروضة"(ص/377): (المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة ونظر في الأدلة استقل بها ولم يفتقر إلى تعلم من غيره فهذا المجتهد هل يجوز له تقليد غيره؟
قال أصحابنا ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره لأن تقليد من لا تثبت عصمته ولا تعلم إصابته حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس ولا نص ولا قياس إذ المنصوص عليه العامي مع
المجتهد وليس ما اختلفنا فيه مثله فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد قادر فلا يكون في معناه
…
).
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة"(3/ 629): (يجوز للعامي تقليد المجتهد ولا يجوز ذلك لمجتهد اجتهد، وظن الحكم، اتفاقا فيهما»، أي: في الصورتين المذكورتين. أي: أن العامي يجوز له تقليد المجتهد بالاتفاق، وأن المجتهد إذا اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا لا يجوز تقليد غيره بالاتفاق أيضا، أي: لا خلاف في ذلك. «أما من لم يجتهد» في الحكم بعد، وهو متمكن من معرفته بنفسه «بالقوة القريبة من الفعل»، لكونه أهلا للاجتهاد، «فلا يجوز له» تقليد غيره «أيضا مطلقا»؛ لا لأعلم منه ولا لغيره؛ لا من الصحابة رضي الله عنهم (1) - ولا غيرهم؛ لا للعمل ولا للفتيا؛ لا مع ضيق الوقت ولا سعته.
«وقيل: يجوز» - يعني التقليد - لهذا المجتهد المذكور «مع ضيق الوقت» عن معرفة الحكم باجتهاده، مثل أن ضاق وقت الصلاة، وقد أشكل عليه بعض شروطها وأركانها، بحيث لو أخرها ليستوفي النظر في ذلك فات وقتها؛ جاز له أن يقلد بعض الأئمة في ذلك.
«وقيل» : يجوز له التقليد «ليعمل» به «لا ليفتي» به - يعني فيما يخصه دون ما يتعلق به حكم غيره - وهو قول بعض العراقيين.
«وقيل» : يجوز له التقليد «لمن هو أعلم منه» من الصحابة أو غيرهم، دون غيره، وهو قول محمد بن الحسن.
«وقيل» : يجوز تقليد غيره «من الصحابة» دون غيرهم.
قوله: «لنا: مجتهد فلا يقلد» . أي: لنا على أن المجتهد لا يقلد غيره وجهان:
(1) سبق وأن ذكرنا أن قول الصحابي حجة، وعليه فالرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد، وقال تقي الدين في "المسودة" (ص / 418): (ذكر أيضا أبو الخطاب أنه لا خلاف في أنه يجوز ترك قول الأعلم لاجتهاده ثم ذكر بعد هذا أن قول الصحابي ليس من صور هذه المسألة فانه يجب عليه ترك اجتهاده لقول الصحابي عند من جعله حجة ولا يجب عليه تقليد غيره وحكى أبو المعالي في كتاب الاجتهاد عن الإمام أحمد قال فأما تقليد الصحابة قال أحمد العالم قبل اجتهاده يقلد الصحابي ويتخير في تقليده من شاء منهم
…
).
أحدهما: القياس على ما لو اجتهد، وظن الحكم، لأن الكلام في مجتهد لم يجتهد بالفعل، فنقول: هذا مجتهد، فلا يجوز له تقليد غيره، «كما لو اجتهد وظن الحكم» ، فإنه لا يجوز له تقليد غيره اتفاقا، كذلك ههنا، والجامع بينهما أهلية الاجتهاد، ولا أثر للفرق بينهما، بأن ذلك قد اجتهد بالفعل، وظن الحكم، بخلاف هذا، لأن ذلك تفاوت يسير، لأن تحصيل ظن الحكم على هذا يسير، بأن يجتهد كما اجتهد غيره.
الوجه الثاني: أنه ربما اجتهد، فتبين له خطأ من قلده. وحينئذ كيف يجوز أن «يعمل بما يعتقد خطأه؟» ولقائل أن يقول: إنا إذا جوزنا له تقليد ذلك الغير، فإنما ذلك بشرط أن لا يوجد منه اجتهاد في ذلك الحكم بنفسه، فإن وجد منه اجتهاد تعين ما صار إليه اجتهاده وسقط التقليد، كواجد الماء بعد التيمم وسائر المبدلات بعد إبدالها.
قوله: «نعم» أي: لا يجوز للمجتهد أن يقلد غيره. «نعم له أن ينقل مذهب غيره للمستفتي» ، إرشادا له إليه، «ولا يفتي هو بتقليد أحد» .
قوله: «قالوا:» يعني من جوز التقليد احتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43]«وهذا» وإن كان أهلا للاجتهاد، لكنه «لا يعلم» هذا الحكم الخاص، فيتناوله عموم هذا النص، فجاز له التقليد كالعامي.
الوجه الثاني: قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء: 59]، «وهم العلماء» ، أمر بطاعتهم، وذلك بتقليدهم فيما يخبرون به عن الشرع، والخطاب للمؤمنين، وهو يتناول هذا المجتهد وغيره.
الوجه الثالث: «أن الأصل جواز التقليد» لامتناع حصول أدوات الاجتهاد في كل أحد عادة «ترك» ذلك «في من اجتهد» وظن الحكم، «لظهور الحق له بالفعل، فمن عداه» يبقى «على الأصل» وهو جواز التقليد، فثبت بهذه الوجوه أن هذا المجتهد المذكور يجوز له التقليد.
قوله: «قلنا:» إلى آخره هذا جواب الوجوه المذكورة. أما قوله عز وجل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، فالمأمور بالسؤال هم «العامة» بدليل قوله عز وجل:(إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ولا نسلم أن هذا لا يعلم بل هو يعلم الحكم «بالقوة القريبة» من الفعل، لأن الفرض أنه مجتهد، «بخلاف العامي» ؛ فإنه لا سبيل له إلى معرفة