الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الوجوب- هذا هو الأصل، ثم إذا وقع أمر نشك في كونه للوجوب، ولأن نفس المؤمن قد تدله و (الإثم ما حاك في نفسك)(1) قد تدله نفسه أن هذا ليس بواجب وأن الإنسان لو تركه لا يأثم، فحينئذٍ نلتمس لهذه المسألة المعنية دليلاً يخرجها عن الوجوب.
س: إذا كان جمهور العلماء علي عدم الوجوب مثلاً، فهل هذه قرينة تصرفه؟
ج: لا؛ لأن الدليل هو الإجماع؛ لكن لا شك أن الإنسان يكون عنده تردد فيما إذا رأى أن جمهور العلماء يرون أن هذا الأمر ليس للوجوب).
ثم قال رحمه الله: (وعلى كل حال إذا رأيت الجمهور على الاستحباب؛ فهنا يجب عليك أن تتوقف عن القول بالوجوب، وعلى الأقل تقول للناس افعلوا كذا، ما دام هذا هو أمر اللَّه ورسوله فافعلوه، ولا تقل هو واجب أم ليس بواجب! بل قل: افعلوه. كما لو ورد النهي نقول: اتركوه سواء قلنا مكروه أو محرم).
والأولى عندي في حمل هذا التردد، أو التوقف الذي أشار إليهما الشيخ رحمه الله بأن يحمل على الأخذ الإجماعات الفقهية، أو الأقوال التي يكون فيها الخلاف شاذ.
ويوضحه أننا نفهم الكتاب والسنة بفهم وعمل سلف الأمة، ولا نتمسك بشواذ الأقوال، وعليه فإن لم يكن هناك خلافا معتبرا في حمل الأمر أو النهي على ظاهره، وإنما كان التمسك بظاهرهما قول شاذ، فلا نقول بظاهر الأمر أو النهي، وهذا هو روح الفقه، فما كان إغفال سلف الأمة للقول بالظاهر إلا لعلة فيه، أو لدليل خفي علينا (2).
خروج الأمر عن الوجوب للإباحة لقرينة:
قال الشيخ: (وقد يخرج الأمر عن الوجوب والفورية لدليل يقتضي ذلك فيخرج عن الوجوب إلى الإباحة وأكثر ما يقع ذلك إذا ورد بعد الحظر، أو جواباً لما يتوهم أنه محظور).
(1) أخرجه مسلم.
(2)
وقد أفردت مسألة الصوارف برسالة دكتوراه للشيخ خالد بن شجاع العتيبي بعنوان: (ضوابط صرف الأمر عن الوجوب والنهي عن التحريم) ولا تطولها يدي الآن، فلينظرها من وقف عليها.
1 -
الأمر (1) بعد الحظر.
قال الشيخ في الأصل: (مثاله بعد الحظر قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[المائدة: 2]. فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)[المائدة: 1]).
قال المرداوي في التحبير (5/ 2246) ما مختصره: ((أحمد، ومالك، وأصحابهما، والشافعي، والأكثر: الأمر بعد الحظر للإباحة)، هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور ومحل ذلك: إذا فرعنا على أن اقتضاء الأمر الوجوب فورد بعد حظر ففيه هذا الخلاف. والصحيح أنه للإباحة حقيقة؛ لتبادرهما إلى الذهن في ذلك؛ لعلية استعماله فيها حينئذ، والتبادر علامة للحقيقة. وأيضا: فإن النهي يدل على التحريم فورود الأمر بعده يكون لرفع التحريم وهو المتبادر، فالوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل
…
(وذهب الشيخ) تقي الدين، وجمع - وهو ظاهر كلام القفال الشاشي - والبلقيني (أنه كما قبل الحظر) فهو لدفع الحظر السابق وإعادة حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر، فإن كان مباحا كانت للإباحة نحو:(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[المائدة: 2]، أو واجبا كانت للوجوب
…
قال الشيخ تقي الدين: وعليه يخرج (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ)[التوبة: 5] الآية. (وقال: هو المعروف عن السلف والأئمة). انتهى).
وفي المسألة أقوال أخر، وإنما اكتفيت بهذين القولين لأنهما الأقوى ولشهرتهما، ولأن الخلاف بينهما لفظي في وجه كما سيأتي بعد قليل - بإذن الله -.
(1) ولاحظ أن المقصود بالأمر هنا هو ما كان على إحدى صيغه الأربع المعروفة (فعل الأمر، اسم فعل الأمر، المصدر النائب عن فعل الأمر، المضارع المقرون بلام الأمر) وليس مقصودا هنا الصيغ التي يستفاد منها طلب الفعل، مثل أن يوصف بأنه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو طاعة، أو يمدح فاعله، أو يذم تاركه، أو يرتب على فعله ثواب، أو على تركه عقاب، وهكذا، بمعنى أن هذه المسالة مفترضة في نحو قوله تعالى:(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[المائدة: 2]، وليست في نحو قوله: وإذا حللتم فيجب عليكم الاصطياد، وقوله: وإذا حللتم فقد فرضت عليكم الاصطياد. وراجع شرح الشيخ أحمد بن حميد على الورقات. ولاحظ أيضا أنه ليس الكلام هنا على الأمر المجرد عن القرينة، وإنما وروده بعد الحظر قرينة بسببها اختلف العلماء في كون الأمر للإباحة أم لغيرها كما سيأتي - بإذن الله - الكلام في ذلك.
قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 179): (لنا أن الشرع لم يرد بأمر بعد الحظر إلا والمراد به الإباحة بدليل قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[المائدة: 2]، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض)، (فإذا تطهرن فأتوهن)، وقوله عليه السلام:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها) فدل أن هذا مقتضاه، فإن قيل قد ورد أيضا والمراد به الوجوب بدليل قوله تعالى:(فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين). قيل: لا نسلم أن قتل المشركين استفيد بهذه الآية وإنما استفيد بآيات آخر نحو قوله: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم)، وقوله:(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين)، وغير ذلك من الآيات والأخبار).
ومما يشكل على استقراء الكلوذاني أمثلة كثيرة منها:
قال ابن اللحام في قواعده (ص/166): (الأمر بزيارة القبور للرجال أخذ غير واحد من أصحابنا من كلام الخرقى أنها مباحة لأن الأمر بزيارتها أمر بعد حظر فيقتضى الإباحة بناء على القاعدة ولكن المذهب المنصوص عن أحمد أنها مستحبة وذكره بعضهم إجماعا لأنه وإن كان بعد حظر لكنه علله عليه الصلاة والسلام بتذكر الموت والآخرة وذلك أمر مطلوب شرعا
…
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى المخطوبة هو أمر بعد حظر فيقتضى الإباحة بناء على القاعدة وهذا أحد الوجهين لأصحابنا وهو إباحة النظر لا استحبابه، والوجه الثاني وجزم به جماعة من الأصحاب منهم أبو الفتح الحلوانى وابن عقيل وصاحب الترغيب استحباب النظر إلى المخطوبة؛ لأنه وإن كان أمرا بعد حظر لكنه معلل بعلة تدل على أنه أريد بالأمر الندب وهى قوله صلى الله عليه وسلم:(فهو أحرى أن يؤدم بينكما)
…
) وذكر أمثلة وفروعا أخرى كثيرة على هذه القاعدة فلينظرها من شاء.
سبب الخلاف:
اتفق أصحاب القولين على أن تقدم الحظر على الأمر قرينة توجب صرف الأمر
عن ظاهره (1).
ومن ذهب أنه الأمر بعد الحظر للإباحة فقد علله بأن ورود الأمر بعد الحظر يرفع التحريم ويتبادر إلى الذهن الإباحة.
ومن قال أنه يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر علله بأن تقدم الحظر على الأمر قرينة تبطل الوجوب (2) فيعود إلى ما كان عليه قبل الحظر.
وهذا الأخير هو الأقوى عندي وهو الذي يجمع بين ما كان للوجوب، وللإباحة ولغيرهما.
قال الشنقيطي في "المذكرة"(ص/190): (الذي يظهر لي في هذه المسألة هو ما يشهد له القرآن العظيم وهو أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الفعل إلى ما كان عليه قبل الحظر فان كان قبله جائزاً رجع إلى الجواز ، وان كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب.
فالصيد مثلا كان مباحاً ثم منع للإحرام ثم أمر به عند الإجلال فيرجع لما كان عليه قبل التحريم. وقتل المشركين كان واجباً ثم منع لأجل دخول الأشهر الحرم ثم أمر به عند انسلاخها في قوله تعالى: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم
…
الآية)) فيرجع إلى ما كان عليه قبل التحريم. وهكذا. وهذا الذي اخترنا قال به بعض الأصوليين واختاره ابن كثير في تفسير قوله تعالى ((فإذا حللتم فاصطادوا)).
ومن الأدلة أيضا التي تدل على أنه للوجوب ما روت عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بين أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)(3).
(1) وأما من قال: لا يعد تقدم الحظر على الأمر قرينة لصرف الأمر عن ظاهره فقد حمله هنا على الوجوب إذا كان يقول أن الأمر المجرد عن القرائن للوجوب، أو حمله عن الاستحباب إن كان يقول أنه للاستحباب.
(2)
انظر: "أصول الفقه" للشيخ عياض (ص/265)، " التحبير"(5/ 2247).
(3)
ذكر هذا الدليل الشيخ عطاء في الشريط السادس والأربعين من شرحه على الأصول من علم الأصول.