الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول: في الطور الأول للفقه
مدخل
…
القسم الأول: في الطور الأول للفقه
وهو طور1 الطفولية من لدن كونه جنينًا إلى أن كمل خلقه فصار وليدًا، إلى أن سعى واكتمل قويًّا سويًّا.
وذلك من أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وكانت البعثة النبوية سنة "610" عشر وستمائة تقريبًا من ميلاد المسيح عليه السلام، أي: قبل تاريخ الهجرة الذي هو تاريخنا بنحو ثلاث عشرة سنة، وكانت الوفاة النبوية سنة إحدى عشرة "11" في ربيع الأول النبوي، غير أن ثلاث سنوات أولى من البعثة كانت فترة الوحي بعدما نزل أول آية من القرآن وهي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، وكان نزولها على ما عند ابن إسحاق وغيره في "17" رمضان من عام البعثة في غار حراء الذي كان صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه بمكة قبل المبعث2، ثم بعد الثلاث سنين تتابع نزول القرآن وتشريع الشريعة، ولكن جلّ ما نزل بمكة قبل الهجرة في مدة نحو عشرة سنين تليها، كان في التوحيد وردّ العقائد الفاسدة وبيان الحجج الدامغة على
1 قال المؤلف رحمه الله: قال ابن العربي في أحكامه الكبرى لدى قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : عمر الإنسان له مراتب: سن النماء: وهو أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو سن الشباب وبلوغ الأشد، وسن الوقوف وهو إلى الأربعين، وهوغاية القوة وكمال العقل، وسن الكهولة: من الأربعين إلى ستين، وفيه يشرع الإنسان في النقص، وسن الشيخوخه: من الستين إلى آخر العمر، وفيه يكون الهرم والخرف، غير أني لم اتقيد بحدوده، لكني قاربتها كما يظهر للمتأمل.
2 قال المؤلف رحمه الله: وآخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} رواه الشيخان عن البراء بن عازب، وروى البخاري عن ابن عباس: آخر آية نزلت آية الربا، وروى النسائي عنه: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} .
إثبات وجود الله ووحدانيته وصفاته العلى، وإثبات النبوءة.
وأخبار تاريخ من مضى من الأمم، ورد عقيدة الوثنية، وبث مكارم الأخلاق مع قليل من الأحكام الفقهية الفرعية، فكانت السور المكية حاوية لمباحث الإيمان وهي أصول الدين، ولمباحث الأخلاق والتهذيب وأخبار الأمم الماضية، ترهيبًا وزجرًا ووعظًا وتذكيرًا، إذ كان المقصود إدخال الناس في الدين ونبذ أصل الوثنية، وبعد دخول الناس في الدين وتضييق كفار مكة بهم إذ كانوا قليلين أمروا بالهجرة ليأمنوا على دينهم وأنفسهم.
فبعد الهجرة ووجود من يخاطب بالأحكام الفرعية صارت تنزل أحكام الحلال والحرام في العبادات والمعاملات وغيرها، وهي مباحث علم الفقه، فجل الفقه الإسلامي تكون في مدة عشرة سنين بعد الهجرة إلى الوفاة1 النبوية، ولذلك تجد أحكامه مبينة في السور المدنية "19" باتفاق وهي:
1-
البقرة.
2-
آل عمران.
3-
النساء.
4-
المائدة.
5-
الأنفال.
6-
التوبة.
7-
النور.
8-
الأحزاب.
9-
القتال.
10-
الفتح.
11-
الحجرات.
12-
المجادلة.
13-
الحشر.
14-
الممتحنة.
15-
الجمعة.
16-
المنافقون.
17-
الطلاق.
18-
التحريم.
19-
النصر.
وقد حكى أبو الحسن بن الحصار في نظمه الناسخ والمنسوخ الاتفاق على أنها مدنية1، لكن زاد فيها سورة الحديد، وقد أسقطناها لما يأتي فيها من الخلاف، والباقي وهو خمسة وتسعون سورة مكي، وهو ما نزل قبل الهجرة، إما متفق عليه، وهو واحد وسبعون سورة، أو مختلف فيه وهو أربع وعشرين وهي:
1-
الفاتحة.
2-
يونس.
3-
الرعد.
4-
الحج.
5-
الفرقان.
6-
يس.
7-
الحديد.
8-
الصف.
9-
التغابن.
10-
الإنسان.
1 قال المؤلف رحمه الله: فبالوفاة النبوية انتهى تاريخ التشريع الإسلامي، ولم يبق بعد إلا تاريخ الفقه وهو التفريع والاستنباط من الأصول التي أتي بها الرسول عليه السلام وتلك التفاريغ كامنة في تلك الأصول، فبعد الأصول النبوية لم يبق تشريع إذا تمت الشريعة بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، ولهذا كان موضوع كتابي هذا تاريخ الفقه الإسلامي ليعم أقسام المقصد الأربعة كلها.
2 ذكر الحافظ السيوطي بعض نظمه في الإتقان، انظر الجزء "1/ 44".
11-
المطففين.
12-
الفجر.
13-
البلد.
14-
والليل.
15-
القدر.
16-
لم يكن.
17-
الزلزلة.
18-
العاديات.
19-
ألهاكم.
20-
أرأيت.
21-
الكوثر.
22-
الإخلاص.
23، 24- المعوذتان.
والحق أن المختلف فيه هل هو مكي أو مدني بعض آياته مكية وبعضه مدني1.
فإن قلت: إن مادَّة الفقه ليست القرآن وحده، بل والسنة والإجماع والقياس، فما هي مدة تكوينها؟
قلت: كذلك كان تكوّنها في العشر سنين المذكورة إذ جلَّ السنة المروية في الصحاح التي أخذ منها الفقه كانت في العشر سنين المذكورة، أما الإجماع فهو وإن كان لا يتأتى إلّا بعد وفاته عليه السلام؛ لأنه اتفاق مجتهدي الأمة بعده عليه السلام، لكن أصل إثباته بالقرآن المدني.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2، وقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 الآية، وأما القياس فقد وقع في زمنه عليه السلام العمل به، ويأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى5.
فإن قلت: إن الشرائع قبل شرعنا كان لها فقه متعلق ببيان عباداتها من صلاة وصوم ونحوهما، بل الشريعة الموسوية يوجد في توراته بيان بعض الحقوق الدنيوية، وإن كانت العيسوية بنيت على الزهادة والتبتل ولم تعتبر الدنيا، وأن كثير من فقهائنا يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون فقهنا مقتبسًا من الشرائع قبلنا،
1 تسمية السورة مكية أو مدنية تعتمد على معظم آياتها وغالبها، فليس معنى كون السورة مكية مثلًا أن تكون جميع آياتها كذلك، فسورة الأنعام من المتَّفَق على أنه مكي، وفيها آيات قيل إنها مدنية "انظر ج1/ 57" من الإتقان.
2 آل عمران: 110.
3 البقرة: 143.
4 النساء: 115.
5 عقد له بابين أحدهما بعنوان: هل استعمل الصحابة القياس على العهد النبوي، والآخر بعنوان: هل وقع القياس منه عليه السلام، ويأتيان عند كلامه عن القياس في هذا الجزء.
ويكون تكوينه ونشوؤه قبل التاريخ المبين آنفًا.
فالجواب: كلا، بل فقهنا مبتكر ليس مقبتسًا، فهو كالعلم المرتجل؛ إذ نبينا صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأمته التي بُعِثَ فيها بدوية، لم تكن لها في زمن تكوين الفقه حضرية تتمكن بها من الاقتباس من الكتب قبلها، ففقهنا مقتبس من قرآننا وسنة نبينا، ناشيء بنشأتهما.
أما من قال من علمائنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا.
فليس مراده أننا نطالع توراتهم مثلًا ونقتبس منها الأحكام، فهذا لا قائل به، وإنما مرادهم أن ما ورد في القرآن والسنة حكاية عن وقائع الأمم السالفة ونوازلها الفقهية إذا لم يقيم دليل على نسخه يكون شرعًا لنا، لكون الشرع قرره ولم ينكره، فحكايته له وعدم إنكاره بمنزلة قوله: اعملوا به، كقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية1، أما كتب الكتابيين فلا يجوز لنا أن نأخذ منها الأحكام أصلًا، لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنًّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم"2.
روى الطبري وغيره أن بعض الصحابة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصحيفة مكتوب فيها من بعض كتب أهل الكتاب، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير إلى غيرهم"، فنزل قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 3، وقد كان ابن عباس ينكر أشد الإنكار على ما يأخذ عن الإسرائيليات في صحيح البخاري4 وكثير من الصحابة كذلك أنكره.
كل ذلك يدل على أن الفقه الإسلامي شريعة مستقلة لم يدخلها الاقتباس ولا الأخذ من الشرائع قبلها أصلًا، سوى ما قَصَّ الله في كتابه، وأمر نبيه بأخذه من
1 المائدة: 45.
2 البخاري عن أبي هرير في الاعتصام "ج9/ 136"، وأبو داود في العلم "ج3/ 318".
3 العنكبوت: 51، انظر تفسير الطبري "ج21/ 6" ط. الحلبي.
4 البخاري في الاعتصام "ج9/ ص136".
مكارم الأخلاق وصريح التوحيد، ونحو ذلك، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية1 وقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 2، وقال:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} 3 هذا كله في التوحيد ومكارم الأخلاق، وكله مأخوذ بواسطة الوحي لا مباشرة من كتبهم التي لا تخلو من تبديل، أما أحكام الفقه فهو ما قاله سبحانه:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 4.
1 الشورى: 13.
2 الأنعام: 90.
3 لقمان: 15.
4 المائدة: 48.