الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نزول القرآن منجمًا والحكم فيه:
نزل القرآن جملًا جملًا، وآية آية مفرقًا، وربما نزل عشر آيات أو أكثر على حسب الوقائع والقضايا التي كانت تقع للمسلمين فبيَّنَ القرآن أحكاها، وكثيرًا ما كان الصحابة إذا نزلت نازلة تسارعوا للسؤال عن حكمها فينزل القرآن، أو تبيِّن السنة فيسارعون للامتثال، فيكون ذلك أثبت في أذهانهم وأرسخ في قلوبهم، إذ الأمة كانت أمية لم تألف كتابًا ولا نبوة، ولا كان فيها علم، ولا تهذيب قبل الإسلام إلّا ما كان فطريًّا، فلطف الله بهم وأجراهم على سنة الكون في تلقين العلوم تدريجًا، وبذلك ردَّ الله على الكفار الذين اعترضوا إنزاله منجمًا بقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 1، وقال تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 2، وقال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 3.
فلم يكن القصد من إنزال القرآن أن يكون بين يديهم كتاب يتبركون بلفظه يقرءونه على الموتى فقط، بل القصد أن يعلموا بأحكامه ويتهذَّبوا بتهذيبه وتنظيم أحوالهم به، ويتخلَّقوا بأخلاقه حتى يصيروا به أمة مهذبة، لها جامعة ورابطة وتهذيب تهذِّبُ به غيرها من الأمم، وهذا لا يكون إلّا بإنزاله منجمًا، ولو نزل دفعة واحدة لاشتغلوا بلفظه وتركوا معناه كما هو واقع فينا الآن، فتدبر ذلك.
وإذا تصفَّحت آيات الأحكام وجدت فيها أجوبة على أسئلتهم:
1 الفرقان: 32، وفي الطبعة المغربية:{وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة....} وهو خطأ.
2 الإسراء: 106.
3 العنكبوت: 48.
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} 1.
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 2.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 3.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 4.
وهي أربع عشرة آية وردت على هذا النسق.
نعم فيها واحدة سؤال اليهود: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح} 5 وذلك كله تعليم للأمة.
فبقيت سنة إذا نزلت نازلة رفعوا السؤال لأهل العلم فأجابوا بما علموا أو قالوا: لا ندري.
قال ابن عباس: ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن منهن:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} قال: ما كانوا يسألون إلّا عمَّا ينفعهم.
وروى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي.
وكثير من آيات الأحكام ليس فيها يسألونك، ولكنها كلها لأسباب ونوازل وقعت فبيَّنَها علماء التفسير في أسباب النزول، وهو علم خاصٌّ يستعان به على فهم القرآن، ولا سيما ما ثبت منه بطريق صحيح أو حسن فهو حجة في التأويل، وإن لم يكن مخصَّصًا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمرهم لشدة تمسكهم بالدين يرون أن كل مسألة لها حكم، فيسألون عن كل شيء حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم رفقًا بهم، فقال:
1 النساء: 176.
2 البقرة: 219.
3 البقرة: 217.
4 البقرة: 189.
5 الإسراء: 85، في الطبعة المغربية:{يسئلونك....} بغير واو وهو خطأ.
"ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم"1. وأجاب الذي سأل عن الحج هل يجب كل عام بقوله: "لا ولو قلت نعم لوجب، ولم تقدروا" 2، وقال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 3.
1 البخاري في الاعتصام "ج9/ 117"، ومسلم في الحج "ج4/ 102"، والترمذي في العلم "ج5/ 47"، والنسائي في الحج "ج1/ 83"، وابن ماجة في المقدمة "ج1/ 3".
2 مسلم في الحج "ج4/ 102"، والترمذي في تفسير سورة المائدة، والنسائي في المناسك، وابن ماجه في المناسك "ج2/ 963".
3 المائدة: 101.