الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى عاد الريق أبيض، فهل تفطر إذا بلعت الريق، فأمر ولده حمادًا أن يفتيها، وقال لها: إن الوالي منعني من الإفتاء، وهي من مناقبه في حسن تمسكه بالطاعة لأولي الأمر.
ومن فقه أبي حنيفة، قال محمد بن الحسن: أتوه في امرأة ماتت، وفي بطنها ولد يتحرك، فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوه، وكان غلامًا فعاش حتى طلب العلم، وكان يتردد إلى مجلسه، وسموه ابن أبي حنيفة، صحَّ من ترجمة محمد بن الحسن بن ابن خلكان.
إحداث أبي حنيفة للفقه التقديري:
كان الفقه في الزمن النبوي هو التصريح بحكم ما وقع بالفعل، أما مَنْ بعده من الصحابة وكبار التابعين وصغارهم فكانوا يبينون حكم ما نزل بالفعل في زمنهم، ويحفظون أحكام ما كان نزل في الزمن قبلهم، فنما الفقه وزادت فروعه نوعًا، أما أبو حنيفة فهو الذي تجرّد لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها، إما بالقياس على ما وقع، وإما باندراجها في العموم مثلًا، فزاد الفقه نموًّا وعظمة، وصار أعظم من ذي قبل بكثير، قالوا: إنه وضع ستين ألف مسالة، وقيل: ثلاثمائة ألف مسألة، وقد تابع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده، ففرضوا المسائل وقدَّروا وقوعها، ثم بينوا أحكامها.
حكم الله في ذلك:
اختلفوا أولًا: هل يجوز فرض المسائل واستنباط أحكامها، فقال ابن عبدان: لا يجوز، كما في جمع الجوامع، مستدلًا بقوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 1، وروى ابن عبد البر عن ابن عمر قال: لا تسألوا عمَّا لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عمَّا لم يكن2.
واحتجوا أيضًا بحديث سهل وغيره في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كره المسائل
1 المائدة: 101.
2 جامع بيان العلم "2/ 139".
وعابها1، وبقوله عليه السلام في الصحيح أيضًا:"إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال" 2، وقد تردَّد مالك في حمل الحديث على ذلك أو على الاستعطاء، وفي صحيح مسلم عن الزهري، عن سعد بن أبي وقاص قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته" 3، لكن هذا قد انتهى حكمه بموت الرسول عليه السلام لانقطاع تجدد الأحكام، ومنه حديث:"إن الله فرض أشياء فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" 4 رواه الإمام أحمد وغيره.
وأنكر جماعة من الصحابة والتابعين السؤال عمَّا لم يقع من النوازل، ورأوا أن الاشتغال بذلك من الغلوِّ والتعمق في الدين.
قال ابن المنير5: كان مالك لا يجيب في مسألة حتى يسأل، فإن قيل نزلت أجاب عنها، وإلّا أمسك، ويقول: بلغني أن المسألة إذا وقعت أعين عليها المتكلم، وإلا خُذِل المتكلِّف، وهذا ينافي ما روي عنه من المسائل الكثيرة التي هي في الموطأ والمدونة والموازنة والعتبية وغيرها، ويأتي في ترجمة المعيطي من أصحابه الأندلسيين أنه أفرد أقواله هو وأبو عمر الإشبيلي فكانت مائة مجلد، ويبعد كل البعد أن تكون المسائل كلها واقعة في زمنه، ومن ذلك قول النووي6 أيضًا: روينا أن الأوزاعي أفتى في سبعين ألف مسألة.
وقال الجمهور بالجواز، مستدلين بحديث الصحيح عن المقداد بن الأسود، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي
1 متفق عليه: وهو جزء من حديث اللعان: في البخاري "7/ 69"، ومسلم "4/ 205".
2 من حديث المغيرة بن شعبة: متفق عليه، البخاري "2/ 153"، ومسلم في الأقضية "5/ 131".
3 من حديث سعد بن أبي وقاص، متفق عليه: البخاري في الاعتصام "9/ 117"، ومسلم في الفضائل "7/ 92".
4 أخرجه أبو نعيم عن أبي ثعلبة الخشني، الحلية "9/ 17"، ولم أجده في مسند أحمد، وانظر في هذا الفقيه والمتفقه "2/ 7".
5 هو عبد الواحد بن منصور، الديباج المذهب "2/ 62".
6 يحيى بن شرف أبو زكريا.
بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال:"لا تقتله، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" 1، ففي الحديث لم ينهه عن فرض مسألة لم تقع بل أجابه، وبيَّن له الحكم فدلَّ على الجواز.
ويدل له أيضًا حديث عويمر العجلاني في صحيح مسلم: أنه سأل عن اللعان فنزل الوحي بجوابه، ثم ابتلي به، ولم ينكر عليه السؤال عمَّا لم يقع، لكن في الحديث نفسه أنه كره المسائل، غير أنه نزل الجواب قبل الوقوع بلا شك، كما هو صريح مسلم في الصحيح2، وأجابو عن آية:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} بأن هناك شرطًا وهو: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 3 فمفهومه: إن لم تكن مساءة في إبدائها فلا نهي: قاله ابن العربي في الأحكام.
ومثال ما فيه المساءة قضية عبد الله بن حذافة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة"، قالت له أمه: لو كانت الجاهلية تقترف أكنت تفضحني؟ رواه مسلم في الصحيح4، فعن مثل هذا وقع النهي في الآية.
وقال البغوي5 في شرح السنة المسائل على وجهين؛ أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمور الدين، فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} 6، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنُّت والتكلُّف وهو المراد بحديث: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك مَنْ قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 7، قال الحافظ العسقلاني8: ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن
1 متفق عليه: البخاري في المغازي، غزوة بدر "5/ 109"، ومسلم في الإيمان "1/ 66".
2 متفق عليه: البخاري "7/ 69"، ومسلم "4/ 205".
3 المائدة: 101.
4 مسلم في الفضائل "7/ 93".
5 هو عبد الله بن محمد أبو القاسم.
6 النحل: 43، والأنبياء:7.
7 أخرجه الستة إلّا أبا داود، تقدَّم تخريجه.
8 أحمد بن علي بن حجر صاحب الفتح.
ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات1، قال الأوزاعي: هي شواذ المسائل، وقال أيضًا: إن الله أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أضلّ الناس علمًا.
وقال ابن العربي: كان النهي في الزمن النبوي عن السؤال خشية أن ينزل ما يشق عليهم، أما بعده فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء، فإنهم مهدوا وفرّعوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم، وقد أشار في أعلام الموقعين إلى أن الإكثار من تفريع المسائل وردِّ الفروع بعضها على بعض قياسًا دون ردِّها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، واستعمال الرأي فيها قبل أن تنزل كل ذلك، داخل في دائرة النهي؛ إذ الإكثار من ذلك عنه تسبب ترك السنة والكتاب وترك الأصول؛ لأن الأعمار قصيرة لا تفي بهذا وهذا.
وقال في الجزء الأخير من أعلام الموقعين: إذا سأل المستفتي عن مسألةلم تقع، فهل يستحب إجابته أو تكره أو يخير؟ فيه ثلاث أقوال، إلى أن قال: والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب أو سنة أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيه، وإلّا فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدَّرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيه، وإن لم تكن نادرة وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقَّه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى2.
وقال الحافظ العسقلاني3: وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عمَّا هو أهم منه، وينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرًا عمَّا يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله. "صح من كتاب التوحيد"، وقال الأبي4 في شرح مسلم: إن مما زاد الفقه صعوبة ما اتسع فيه أهل المذهب من التفريعات
1 أخرجه أبو داود عن معاوية في العلم "3/ 321"، وأحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "5/ 435".
2 أعلام الموقعين "4/ 221".
3 أحمد بن علي بن حجر.
4 هو محمد بن خلفة بن عمر، ت سنة 827.
والفروض، حتى إنهم فرضوا ما يستحيل وقوعه عادة، فقالوا: لو وطيء الخنثى نفسه فولد، هل يرث ولده بالأبوة أو الأمومة أو هما، ولو تزايد له ولد من بطنه وآخر من ظهره لم يتوراثا؛ لأنهما لم يجتمعا في بطن ولا ظهر، وفرضوا مسألة الستة حملاء، واجتماع عيد وكسوف، مع أنه مستحيل عادة، واعتذر بعضهم عن ذلك بأنهم فرضوا ما يقتضيه الفقه بتقدير الوقوع، وردَّه المازري1 بأنه ليس من شأن الفقيه تقدير خوارق العادة، قال السنوسي2 بعده: ولو اشتغل الإنسان بما يخصه من واجب ونحوه، ويتعلَّم أمراض قلبه وأدويتها، وإتقان عقائده، والتفقه على معنى القرآن والحديث، لكان أزكى لعلمه وأضوا لقبله، لكن النفوس الرديّة وإخوتها من شياطين الإنس والجن لم تترك العقل أن ينفذ لوجه مصلحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واعلم أن أهل المائة الثالثة قد أكثروا من فرض مسائل لا يتصور العقل السيلم وقوعها، فأكثروا من التفريع، وهم أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك، وغالبهم أهل المائة الثالثة، فبسبب ذلك ضخم علم الفقه، واستغرقت الفروع النادرة الوقت عن النظر في الأصول، فتلخّص أن أبا حنيفة أول من فرض المسائل الغير الواقعة وبيَّن أحكامها، عساها إن نزلت ظهر حكمها، فزاد علم الفقه اتساعًا ومجاله انبساطًا، غير أن المتأخرين من أصحابه ومن غيرهم، أكثروا باتساع دائرة الخيال، لا سيما في مسائل الرقيق، وفي الطلاق، والأيمان، والنذور، والردة، وكلها مسائل تفنى الأعصار ولا تقع واحدة منها، وإنما تضيع أعمار العلماء، حتى أدَّى الأمر إلى الخيال، وأوجب تأخر الفقه ودخلوه في طور الكهولة، ثم الشيخوخة، ولا غرابة في كون الزيادة في الشيء تؤدي إلى نقصانه، لكن لا في هذا العصر بل بعد المائة الثالثة والرابعة، وما قرب منهما كما يأتي، أما في هذا العصر فكان لم يزل في شبابه.
1 محمد بن علي بن عمر، ت سنة 536.
2 لعله محمد بن يوسف بن عمر. الأعلام "8/ 29".