الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حالة الفقه في زمن صغار الصحابة وكبار التابعين رضي الله عنهم:
افتراق الأمة إلى مذاهب الخوارج والشيعة وغيرهم، وظهور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن افتراق الأمة إلى شيعة، وخوارج، وغيرهم، قد قدمنا الكلام عليه في التاريخ الإجمالي لعصر الخلفاء الراشدين، وإن كان معاوية سكَّن ثائرتهم بعصبيته وكرمه وحلمه ودهائه، لكنهم بقوا يدبرون الثورة سريًّا، وينشرون تعاليمهم، ووضع الشيعة أحاديث توافق مشربهم وتؤيد دعواهم، فنشأ عن ذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار هذه الطائفة التي جلها ممن غُلِبَ على أمره من اليهود وفارس والروم ومن بقية الأمم التي قهرها المسلمون، فدبروا حيلة الدسائس الدينية وبناء مذهبهم على التمويه بالإصلاح الديني، وتغيير المنكر، والأمر بالمعروف، وجعل مبادئهم التي هي سياسة يراد بها قلب الدولة مذاهب دينية وضعوا لها أصولًا من الأحاديث المكذوبة، وتأولوا القرآن على حسبها؛ إذ كانوا يعلمون أنه قلَّما تقوم للعرب دولة إلا على دعوى دينية.
فقد قال المختار الثقفي لبعض أصحاب الحديث: ضع لي حديثًا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن بعده خليفة مطالب بثأر ولده الحسين، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم، فقال له: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اختر من شئت من الصحابة.
وقال حمَّاد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ليفسدوا على
الناس شريعتهم.
وقال الحاكم أبو عبد الله1: كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم.
وعن ابن لهيعة2 قال: سمعت شيخًا من الخوارج تاب، فجعل يقول: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا. وأكثر الطوائف كذبًا الشيعة قاتلهم لله، وبسبب ذلك حصلت الريبة في النصوص بكذب الرواة وظهور التأويل.
ولذلك تصدَّى أعلام الأمة للتمحيص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق، وقد وجد الحال الكثير من الصحابة وأعلام الأمة متوافرين فناهضوهم بالحجة في الحين.
ففي صحيح مسلم في الزكاة قال معاوية: إياكم وأحاديث إلّا حديثًا كان في عهد عمر، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل. الحديث، قال محمد بن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمَّا وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فيترك حديثهم.
وقال جرير بن عبد الحميد: لقيت جابر بن يزيد الجعفي، فلم أعتقد به لأنه كان يؤمن بالرجعة3. وقال سفيان4: سمعته يحدّث بنحو ثلاثين ألف
1 محمد بن عبد لله النيسابوري.
2 اسمه عبد الله.
3 ابن عيينة.
4 قال المؤلف رحمه الله: الرجعة: أول من انتحل هذه العقيدة وأدخلت للإسلام عبد الله بن سبأ، المدعو ابن السوداء، من يهود حمير، أظهر الإسلام زمن عثمان، وكان زعيم جمعية سرية تعمل لإفساد الإسلام، وإيقاد الفتن بين أهله، فبثَّ بين جهلة المسلمين القول بالرجعة والوصاية قائلًا لهم: العجب ممن يصدق برجعة عيسى ولم يصدق برجعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لكل نبي وصيًّا، ووصي محمد علي بن أبي طالب. بهذه المبادئ توصَّل لقلب خلافة عثمان وقتله، ولهذا لما سُئِلَ علي كما في الصحيح: هل أوصى لكم النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنكره، كما أنكرته عائشة وغيرها، ولما قُتِلَ علي قال لهم: لو أتيمونا بدماغه لم نصدق بموته، فلا بُدَّ أن يرجع ويملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، هكذا انتشرت هذه الخرافات بين الضالين.
حديث، ما أستحلُّ أن أذكر منها شيئًا، ولو كان لي كذا وكذا.
وقيل: إن جابرًا له سبعون ألف حديث يرويها عن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي، ومثل جابر أبو داود الأعمي وأبو جعفر الهاشمي، في كثير من أمثالهم، أشار إلى هؤلاء المتهمين وفضحوا عُمْلتهم، وحذَّروا من كل واحد باسمه، ولم يقبلوا شيئًا مما حدثوا به، وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها والأغراض التي حملتهم على ذلك، حتى سلَّم الله الشريعة من كيدهم، ولذلك جعلوا من جملة شروط قبول الحديث أن لا يكون فيه راوٍ بدعي داعٍ إلى بدعته، وأن لا يستحلّ الكذب، وأن لا تصل بدعته إلى حد الكفر، كما هو مقرر في مصطلح الحديث.
وهذا هو السبب في اعتناء المسلمين بتاريخ حياة الرجال، وكشف الستر عن سيرهم وأحوالهم، وهو ما يسمَّى علم الجرح والتعديل، وأول من تكلم فيه شعبة بن الحجاج، كذا قال بعض العلماء، والذي في مقدمة صحيح مسلم أن أيوب السختياني ممن انتقد الأسانيد وهو من أشياخه، بل جاء بشير العدوي إلى ابن عباس وجعل يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه فقال له: ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ فقال له ابن عباس: إنا كنَّا إذا سمعنا رجلًا يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلّا ما نعرف.
وأُتِيَ ابن عباس أيضًا بكتابٍ فيه قضاء علي، فجعل يكتب منه أشياء، ويمر بالشي فيقول: والله ما قضى بهذا إلّا أن يكون ضل، وبمثل ابن عباس وطبقته وتلاميذه وتلاميذهم ابتدأ نقد الرجل ونقد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنقذ الله دينه وشريعته أن يقع فيها ما وقع في الشرائع قبلها.
وتسلسل ذلك في علماء الأمة، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة، ما دام أبو حامد بن الشرقي1 في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن المبارك2 لما قيل له هذه الأحاديث المكذوبة قال: تعيش لها
1 هو أحمد بن الحسن، انظر تاريخ بغداد "4/ 427".
2 عبد الله.
الجهابذة.
وكان الدراقطني1 يقول: يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحدًا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي. وقد تكلم في الأسانيد أيضًا الحسن البصري، وطاوس3، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وإبراهيم النخعي3، والشعبي4، وسليمان التيمي، كما في الترمذي، وابن عون5، ومالك كما في مقدمة مسلم، وممَّن تكلَّم في الرجال السفيانان6، ويحيى بن سعيد القطان، وابن المبارك، وابن مهدي7، ثم ابن معين8، وابن المديني9، والشافعي، وابن حنبل، وهلم جرَّا، وانظر آخر جامع الترمذي، وقد ألفوا في ذلك تآليف مهمة في تاريخ الرجال وتعديلهم وجرحهم، ككتب ابن معين، وابن أبي حاتم10، والبخاري ومَن بعدهم، إلى الخطيب، ثم الذهبي، فابن حجر العسقلاني، وأضرابهم.
وعنه تولَّد تمحيص الأحاديث والحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع بحسب رواتها، وأقسام الكذَّابين وأسباب الكذب مبسوط في كتب علوم الحديث، كألفية العراقي وشروحها، وكتب ابن الصلاح، والنووي، وغيرهم، وإن شئت أن تعلم بعض ما وقع في هذا الباب فانظر: موضوعات ابن الجوزي، وتعقب السيوطي على البعض منها، تجدها مرتَّبة على أبواب الفقه، وكل ذلك يزيد وظيفة الفقه صعوبة وأهمية، ومزيد حفظ واطلاع وتبخر وتنقيب، ومع ذلك كله فقد أثَّر افتراق الأمة إلى طوائف: شيعة، وخوراج، وغيرهم، على الفقه كثيرًا، وأصبح لكل طائفة فتاوٍ وآراء وشعب وجدل، وأصبح الحق لا يتبيِّن إلا بتجشم مشاق.
1 علي بن عمر.
2 ابن كيسان اليماني.
3 ابن يزيد.
4 عامر بن شراحيل.
5 عبد الله بن عون بن أبي عون.
6 وهما سفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة.
7 عبد الرحمن.
8 يحيى.
9 علي بن عبد الله.
10 أحمد محمد بن الحسن، انظر تاريخ بغداد "4/ 427".