الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمل أهل المدينة:
هو من أصول مذهب مالك كما سبق، وعمل أهل المدينة إذا جرى في المسألة واتفق عليه علماؤها. يقول مالك بحجيته وتقديمه على القياس، بل الحديث الصحيح، بل عمل جمهورهم يحتج به ويقدّمه على خبر، ويقدمه على خبر الواحد؛ لأنه عنده أقوى منه؛ إذ عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة من جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد، قال ربيعة1: رواية ألف خير من رواية واحد. وأهل المدينة أدرى بالسنة والناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم لخبر الواحد دليل نسخه، وقد نقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة، ثم عملهم ثلاثة أنواع:
أحداها: أن يجمعوا على أمر، ثم لا يخالفهم فيه غيرهم.
الثاني: أن يجمعوا على أمر، ولكن يوجد لهم مخالف من غيرهم، وعن هذين القسمين يعبر مالك بقوله2: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.
الثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم.
أما الأول: فهو حجة عند الجميع يجب اتباعه، وممن صرح بذلك ابن القيم وهو من الحنابلة الذين لا يسلمون الإجماع إلّا في قليل من المسائل.
أما الثاني والثالث: فمحل نزاع بين المالكية وغيرهم، على أن الذي هو حجة عندهم بلا خلاف هو عمل أهل المدينة النقلي لا الاجتهادي؛ فالنقلي كنقلهم تعيين محل منبره وقبره، ومحل وقوفه للصلاة عليه السلام، ونقلهم للأعيان كمقدار المد والصاع وأوقية الفضة، وهذا حجة عند الجميع، وقد احتد به مالك على أبي يوسف بحضرة الرشيد، فرجع عمَّا كان يقوله إلى قول مالك، ومن هذا النوع نقلهم الأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان، وإفراد الإقامة، وهذا
1 ابن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي.
2 أي: في الموطأ.
النوع لا نظن أن مالكًا انفرد بالعمل به، بل هو والمجتهدون فيه سواء1. أما عملهم الذي طريقه الاجتهاد والتفقه لا النقل فهو محل نزاع حتى عند المالكية، قال القاضي عبد الوهاب1: فيه ثلاثة أوجه.
الأول: أنه ليس بحجة ولا يرجح به أحد الاجتهادين أصلًا على الآخر، وعليه الأبهري2، والقاضي أبو الفرج3 وغيرهما.
الثاني: أنه ليس بحجة، ولكن يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وبه قال بعض الشافعية.
الثالث: أنه حجة كإجماعهم من طريق النقل، ولكن لا تحرم مخالفته، وعليه قوم من أصحابنا كابن المعذل4.
وفي رسالة مالك إلى الليث ما يدل عليه، وإلى هذا يذهب جل المغاربة أو جميعهم، قال: ثم إن خبر الأحاد إن كان العمل موافقًا له فهو معضد به بأنواعه السابقة، وإن تعارضا فإن كل العمل من طريق النقل كالصاع والمد وزكاة الخضروات، فالخبر يترك لعمل بلا خلاف عندنا، وإن كان اجتهاديًّا فالخبر أولى عند5 جمهور أصحابنا، إلّا من قال منهم إنّ الإجماع من طريق الاجتهاد
1 قال المؤلف رحمه الله: ولا اختصاص لأهل المدينة بهذا، فأهل مكة أيضًا إذا أجمعوا على عين شيء كان حجة كنقلهم لنا تعيين حدود محل الوقوف بعرفة، ومحل رمي الجمار، والمزدلفة، وأمثال ذلك، وقد وقفت على احتجاجات الشافعي في الأم بعمل أهل مكة، فأهل المدينة أولى.
2 عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي.
3 هو أبو بكر الأبهري محمد بن عبد الله، ت سنة 375هـ، تاريخ بغداد "5/ 463".
4 المالكي واسمه عمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي، له كتاب اللمع في أصول الفقه، ت سنة 331هـ، الديباج "2/ 127".
5 هو أحمد بن غيلان بن الحكم العبدي، الديباج المذهب "1/ 141".
6 قال المؤلف رحمه الله: يعضد مذهب الجمهور من تقديم الخبر على العمل الاجتهادي، حديث الصحيحين عن نافع أن ابن عمر كان يكري أرضه مزارعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه وأنا معه فسأله، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد، وفي مسلم عن رافع بن خديج كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما خرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا. أهـ وفي أعلام الموقعين أدلة أخرى فانظرها.
حجة، وإن لم يكن عمل يوافق الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر؛ لأنه دليل لا مسقط له ولا معارض، ثم قال: إنهم إذا أجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا كان متواترًا يحصل به العلم وينقطع العذر، ويجب ترك أخبار الآحاد له؛ لأن المدينة جمعت من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا عليه، وإن أجمعوا من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمّن لهم، ومن هذا القبيل بطلان خيار المجلس، والاقتصار على التسليمة الواحدة، وعلى قنوت الفجر قبل الركوع، وترك رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه، وترك السجود في سورة المفصل، ونظائر ذلك. انظر أعلام الموقعين، وراجع ما تقدم في عصر صغار الصحابة في الأمر الثالث من الأمور التي أثَّرت على الفقه في ذلك العصر، مع ما تقدَّم في ترجمة الفقه في العصر المذكور1.
إن مسألة العمل احتدم الجدال فيها بين مالك وغيره من أرباب المذاهب، فمالك يرى تقديم عمل المدينة وأنه في الرتبة الثانية للإجماع، ولا يشترط في خبر الواحد أن يعضده العمل بخبر الواحد مهما صحَّ أو حَسُنَ دون شرط شهرة أو غيرها، ومن زعم أن مالكًا يشترط في خبر الواحد موافقة عمل أهل المدينة فقد غلط، وبقية الأئمة الأربعة لا يرى العمل حجة على التفصيل السابق، والمسألة طويلة الذيل، وقد عضد مالكًا أعلام من الأمة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: السنة المتقدمة من سنة أهل لمدينة خير من الحديث، يعني حديث أهل العراق، وتقدَّم قول أبي بكر بن حزم قاضي المدينة وواليها: إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك أنه الحق، ونقل مثله عن الشافعي، وقال مالك: ما رواه الناس مثل ما روينا، فنحن وهم سواء، وما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم، قال مالك: العلم أثبت من الحديث، وكان رجال من التابعين تبلغهم عن غيرهم أحاديث فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على غيره.
تحقيق هذا كله فيما ثبت فيه عمل جميع أهل المدينة أو جمهورهم، أما قول
1 تقدم.