الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإجماع:
غير خفي أن الاجماع غير متيسر في الطور الأول للفقه، الذي هو الزمن النبوي؛ لأن الإجماع كما عرفه في جمع الجوامع: هو اتفاق مجتهدي الأمة بعده عليه السلام في عصر من الأعصار، على حكم من الأحكام. لكن الإجماع لا بُدَّ أن يستند إلى كتاب أو سنة لا يخرج عنهما، وإن لم نقف على مستنده فكأنه وجد في الزمان النبوي، فليس هو أًصلًا مستقلًّا بذاته من غير استناد إلى كتاب أو سنة، إذ لو كان مستقلًّا لاقتضى إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك غير جائز.
قال الشافعي في الأم: ولا يكون عن قياس أو اجتهاد؛ لأنهم لو اجتهدوا لم يتفقوا -يعني: غالبًا. وقال عياض في المدارك: قد يكون عنهما، وعليه صاحب جمع الجوامع.
فتبيَّنَ لك أن هذه الأصول الثلاثة كلها متقررة ثابتة في زمنه صلى الله عليه وسلم.
وحجية الإجماع مبنية على أصلٍ وهو عصمة الأمة الإسلامية في اجتماعها على ضلالة في أمر دينها، دليله قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار" وراه الترمذي2.
وقولنا في أمر دينها لئلَّا يرد خطؤها في أمور الدنيا كترك النظام الذي ابتليت به الأمم الإسلامية في القرن الماضي وما قرب منه، وإهمال التعليم والتربية، وكقولهم بانبساط الأرض على فرض إجماعهم عليه.
1 النساء: 115.
2 سبق تخريجه.
ومذهب الجمهور أن الإجماع حجة في الدين، متعبَّد به، تثبت به الأحكام كما تثبت بالنصوص الشرعية.
وأنكر الإمام أحمد، وداود الظاهر الإجماع في زمن التابعين وقالا: إنما الحجة في إجماع الصحابة، وقد روي عن أحمد أنه قال: من ادَّعى الإجماع فهو كاذب. نقله في أعلام لموقعين وعن الشافعي ونحوه1 وكيف يتأتَّي اعتراف الكافة، وهذا لم يكن إلّا فيما يسمَّى علم الكافة؛ كالعلم بأن الصلوات المفروضة خمس، والصبح ركعتان، أمَّا ما هو من قبيل علم الخاصة الذي لا يعرفه إلّا العلماء فقلَّ أن يتيسر ذلك، وكيف يتيسر الصدق لمن يقول في مسألة واحدة: إن المجتهدين اتفقوا فيها على حكم واحد، اللهم إلّا إذا كان في صدر الإسلام لما كانوا مجتمعين في المدينة أو الحجاز، ولهذا قال ابن عرفة: كل من حكى إجماعًا في مسألة فهو رهين نقله؛ إذ لا بُدَّ لمن ادعاه من أمور ثلاثة:
1-
ثبوت وجود مجتهدين يتفقون على الشيء المجمع عليه.
2-
الإحاطة بمعرفة جميع علماء الإسلام المنتشرين في الأرض كلها مع اتساع خطة الإسلام التي لا يمكن معها ذلك.
3-
ثبوت نصهم في المسألة أو سكوت من سكت اختيارًا أو إقرارًا؛ بحيث لا مانع من الإنكار.
ودون واحدة من هذه الثلاثة خرط القتاد، انظر معاوضات المعيار، وبذلك كله تعلم مجازفة قول صاحب العمل الفاسي في صيد بندق الرصاص:
أفتى بذلك شيخنا الأواه
…
وانعقد الإجماع من فتواه
وأمثاله كثير في كتب المتأخرين فاحذره، نعم، الشافعي يرى أن الحجة في الدين أن ينقل الحكم عن السلف ولا يعلم أنهم اختلفوا فيه، وهذا ليس بإجماع حقيقة، ولا يسمَّى به، ولكن رآه حجة لأنه إجماع سكوتي، والحنفية يرون أن الإجماع السكوتي حجة، وهو أن يجيب واحد من المجتهدين ويسكت الباقي، ولا مانع من الإنكار، وفيه اثنا عشر قولًا، انظر جمع الجوامع2، وقد أشار
1 أعلام الموقعين "ج2/ 247".
2 انظر حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع "2/ 196".
الكمال بن أبي الشريف عند قوله آخره، وخصَّ محمد بأنه خاتم النبيين
…
إلخ.
إلى أن الذي يعتمد في نقل الإجماع مثل ابن المنذر، وابن عبد البر، ومن فوقهما من الأئمة وحفاظ الأمة، فلذلك مدارك الإجماع، ولا يعتمد على حكاية مثل الرازي والنسفي له، فإنه لا ينهض حجة1.
على أنهم حذَّروا من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، وكثير من الفقهاء يدعي في بعض المسائل الإجماع ويردون عليه:
1-
حكى بعضهم في تحريم لحوم الخيل الإجماع مع إباحة الحنفية لها.
2-
حكى بعضهم الإجماع على العمل بالقياس، مع إنكار ابن مسعود والشعبي وابن سيرين له.
3-
حكي في جمع الجوامع الإجماع على العمل بخبر الواحد وتقدَّم لنا البحث معه.
4-
وحكي أيضًا الإجماع على تقديم الإجماع على النص عند التعارض، وتقدَّم لنا البحث معه.
5-
حكى بعضهم الإجماع على عدم وجوب غسل الجمعة مع قول الحنفية به.
6-
وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، مع قول علي بن أبي طالب به.
7-
وعلى إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، مع قول بعض الصحابة وبعض الحنابلة بعدمه.
وأمثال هذا كثير، فلا ينبغي أن يغترَّ بكل من حكى إجماعًا، بل لا بُدَّ من البحث والتنقيب.
وقال الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة" ما نصه: قد صنَّف أبو بكر
1 الرازي: هو فخر محمد بن عمر صاحب المحصول، ت: 606، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع، والنسفي: هو أبو البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود.
الفارسي1 كتابًا في مسائل الإجماع، وأنكر عليه كثير منه، وخولف في بعض تلك المسائل، فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ.
وليس بمكذب، فلا يمكن تكفيره، والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير منه، فتبيَّن أنه ليس لكل عالم حكاية الإجماع، بل له أئمة مخصوصون لا يقبل إلّا منهم على القول بتصوره ووجوده كما سبق.
واعلم أن الجمهور على الاحتجاج بالإجماع السكوتي، أما الإجماع الصريح فقال الأصفهاني2: المشهور أنه حجة قطعية، ويقدَّم على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلًا، ونسبه إلى الأكثرين، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل أو يبدع.
قلت: وفيه بحث، فإن دلالة الآية السابقة على حجته ظنية فقط، والحديث خبر آحاد، واستدل له بغيرهما، ولكن أضعف دلالة منهما، فأدلة حجيته ليست قطعية، إلّا أنه يُدَّعَى أن مجموعها يفيد قطعًا ولا يسلَّم، فكيف يكون قطعيًّا، وكيف يقدَّم على القطعي من الأدلة، وقال الرازي والآمدي: لا يفيد إلّا الظن، ومنهم من جعله مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكِتَاب والخبر المتواتر، وإجماع مَنْ بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والمسألة محلها الأصول، وألحق به مالك إجماع أهل المدينة، قال: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم. ورآه حجة، ويأتي في ترجمة مالك بسط لذلك إن شاء الله. وتقدَّم في ترجمة مادة الفقه كلام على مرتبة الإجماع فارجع إليه.
1 هو أحمد بن الحسين بن سهل من كبار الشافعية، قيل: توفي سنة 305هـ.
2 لعله شمس الدين أبو عبد لله محمد بن محمود شارح المحصول، ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي "8/ 100".