الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورة وقوع الخلاف في عهد الخلفاء الراشدين:
وقع ذلك على أنواع:
الأول: أن يسمع صحابي حكمًا في قضية لم يسمعه الآخر فيجتهد برأيه، وهذا على وجوه:
منها: أن يقع اجتهاده وفق الحديث، ففي الصحيحين قضية ذهاب عمر إلى الشام، فسمع بوجود الطاعون وهو بسَرْغ، وأراد الرجوع بالمسلمين، فقال له أبو عبيدة: أتفِرّ من قدر الله، فقال له عمر: لو غيرك قالها، نعم نفِرُّ من قدر الله إلى قدره، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وروى الحديث:"إذا كان في أرض فلا تقدموا عليها" الحديث فحمد الله عمر ثم انصرف1. وروى مثله أسامة، وسعد بن أبي وقاص، وخزيمة بن ثابت، كما في صحيح مسلم2.
ورى الترمذي والنسائي وغيرهما: أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات زوجها ولم يفرض لها صداقها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك.
فاختلفوا إليه شهرًا وألحول فاجتهد برأيه، وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك، ففرح ابن مسعود فرحة لم يفرحها قط3، وكان سيدنا علي يخالفه في
1 متفق عليه: البخاري "8/ 168"، ومسلم "7/ 26".
2 متفق عليه أيضًا: البخاري "7/ 168"، ومسلم "7/ 26".
3 أخرجه الترمذي "3/ 441"، وأبو داود "2/ 237"، والنسائي "6/ 98"، وابن ماجه "1/ 609".
الصداق، ويقول: لا صداق لها، ولا نقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله، قال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، لكن الآية في الطلاق، فقاس عليه الموت، فقدَّم القياس على خبر الواحد كما هو مذهب الحنفية2.
ومنها: أن يكون عند صحابي علم بناسخ لم يكن عند الآخر: كتطبيق اليدين في الركوع، أخذ به ابن مسعود ولم يطَّلع على أنه منسوخ، واطَّلع سعد بن أبي وقاص على ناسخه فرواه، وأخذ به جمهور الفقهاء، والحديثان في الصحيح3.
ومنها: أن يقع بينهم المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن، فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع. منه: ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة كان يرى أنَّ من أصبح جنبًا لا صوم له، أخبرته بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع4.
ومنه حديث البخاري عن هزيل -بالزاي- بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابن ابنة وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًَا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكلمة الثلثين، وما بقي فللأخت.
فأتينا أبو موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم5.
قال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلّا أبو موسى وسلمان بن ريبعة
1 البقرة: 236".
2 انظر نيل الأوطار "6/ 172".
3 البخاري في الأذان: "1/ 189"، ولم أجده في مسلم.
4 البخاري "3/ 38"، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولكن لفظه.. ".... كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم
…
"، ورواية أخرى: "
…
وهن أعلم"، وبينهما فرق شاسع، وقد حقّق ذلك الحافظ في الفتح فانظره "4/ 103".
5 البخاري "8/ 188".
الباهلي، وقد رجع أبو موسى، ولعل سلمان بن رجع كأبي موسى، وهو مختلف في صحبته، وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان، واستهشد في زمنه، فأخذ أبو موسى باجتهاده قبل البحث عن النص، ويؤخذ منه وجوب الرجوع لخبر الواحد بعد معرفته، وأن حكم الحاكم ينقض إذا خالف نصًّا، إلى غير ذلك.
ومنه ما وقع لعمر حيث قضى في دية الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين ناقة، حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشر عشر، فترك قوله ورجع إليه1.
وكذلك خفي عليه رجوع المستأذن إذا استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، حتى أخبره به أبو موسى، وأبو سعيد وأُبَيّ بن كعب، كما في الصحيح2، وتقدَّمت أمثلة من هذا الباب في آخر اجتهاد عمر.
ومنها اختلاف أبي بكر وعمر في مانعي الزكاة، هل يقَاتَلون أم لا، لقوله عليه السلام:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" الحديث، أخذ عمر بعمومه، فقلب أبو بكر الحجة التي هي هذا الحديث نفسه على عمر، ورأى قياسهم على من امتنع من الصلاة فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة3.
وقتال الممتنعين من الصلاة كان معلومًا لعمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الأذان كفَّ عن القتال وإلا قاتل، وقال في المتخلفين عن الجماعة:"لقد هممت أن أحرّق عليهم بيوتهم" 4، وتحرق البيوت اعتادوا أن يكون في القتال، ولا يهم صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز، ودلّ تسليم عمر لقياس أبي بكر أن القياس يخصِّص العموم، ويؤيد أبا بكر ظاهر القرآن أيضًا، قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 5، فجعل إيتاء الزكاة شرطًا في عصمة الدم،
1 انظر نيل الأوطار "7/ 57".
2 متفق عليه: وسبق تخريجه.
3 روى المناقشة أبو هريرة وحديثه في البخاري في الزكاة "2/ 131"، ومسلم في الإيمان "1/ 38".
4 متفق عليه: البخاري في الأذان "1/ 158"، ومسلم في المساجد "3/ 123".
5 التوبة: 11.
والأخوة في الدين، ومفهومه أن مانعها ليس كذلك، وفي الآية الأخرى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1، ثم ظهر حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما بزيادة:"ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، كما في الصحيح2، ولم يكن عمر يعلم هذه الزيادة، ولو علمها ما بقي محل للنزاع، ولو علمها أبو بكر ما استدل بها، فما وقع في النسائي من طريق أنس بإثباتها في مجادلتها غير محفوظ3، والمحفوظ ما في الصحيحين، وعلى ثبوتها أمارتان، فيكون دليلًا لمن أجاز من الأصوليين اجتماع دليلين على مدلولواحد؛ لأنهما أمارتان، ولمن أجاز اجتماع القياس والنص الموافق له.
ومنها: أن يبلغه الحديث ويجد له معارضًا من القرآن بحسب اجتهاده فيطعن فيه، ومنه ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة الثلاث، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردّ شهادتها، وقال: لا نترك كتاب الله، أعني: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} 4 لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت لها النفقة والسكنى5.
وقالت عائشة: لا خير لها في ذكر هذا الحديث.
وفي مسلم قالت فاطمة: يا رسول الله، أخاف أن يقتحم علي. قال:"أخرجي" 6، وفي البخاري عن عائشة: كانت في مكان وحش فخيف عليها7، وقالت فاطمة: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 8، أي: أمر يحدث بعد الثلاث9، فتبيَّن أن الآية في تحريم الإخراج، والخروج إنما هي في الرجعية وصدقت، وهكذا هو في الآية
1 التوبة: 5.
2 متفق عليه: البخاري "1/ 14"، ومسلم "1/ 39".
3 النسائي "8/ 96".
4 الطلاق: 1.
5 مسلم "4/ 198".
6 مسلم "4/ 197".
7 البخاري: "7/ 74".
8 الطلاق: 1.
9 متفق عليه: البخاري "7/ 74، ومسلم واللفظ له "4/ 197".
الأولى بدليل آخرها وهو: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} 1، غير أن عمر رأى القياس على أصل القرآن القطعي مقدَّمًا على خبر الواحد، لكن ثبت ذلك أيضًا في المبتوتة من الآية الأخرى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 2، وتبيَّن أن صراحة القرآن إنما هي في السكنى دون النفقة، ولذلك أوجب مالك السكنى للمطلقة مطلقًا، والنفقة للرجعية فقط دون البائن جمعًا بين الأدلة، إلّا إذا كانت حاملًا ما لم يمت المطلِّق، فلا نفقة ولا سكنى للرجعية في التركة لإرثها بخلاف البائن، فالسكنى لها دين في التركة، وتنقطع الحامل بالوضع أو الموت أو بلوغ أقصى الحمل.
ومن هذا المعنى حكم عثمان بأن المختلعة لا عدَّة عليها، وإنما تستبرأ بحيضة، ذاهبًا إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، محتجًا بأن زوجة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت منه أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربَّص حيضة واحدة كما في النسائي والترمذي وحسنه3، وفي الترمذي أيضًا أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمرت أن تعتدَّ بحيضة. قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة4، ولعله يشير إلى ما رواه ابن سعد أن الذي أمرها عثمان في حصاره سنة خمسة وثلاثين5، أما من لا يرى تخصيص القرآن القطعي بالخبر الظني بل تقديم القرآن عليه، ويرى أن الخلع طلاق، فيفتي بلزوم العدة وهو مذهب المالكية، وهذا من المسائل التي قدَّم فيها مالك ظاهر القرآن، ورآه قادحًا في خبر الآحاد ويعضده حديث:"أتردين عليه حديقته" قالت: نعم، قال:"فطلقها طلقة واحدة" 6، ومهما كان طلاقًا لزمت العدة لقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 7.
ومن ذلك ما رواه الشيخان أن عمر كان يرى التيمم بدلًا عن الوضوء لا الغسل، فالجنب لا يتيمم، فروى عنده عمار بن ياسر أنه كان في سفر فأصابته جنابة
1 الطلاق: 6.
2 الطلاق: 2.
3 أخرجه الترمذي في الطلاق "3/ 482"، وأما رواية النسائي فليس فيها أنه أمرها أن تتربص حيضة واحدة "6/ 140"، والحديث أصله في الصحيح. البخاري "7/ 60".
4 الترمذي "3/ 482".
5 طبقات ابن سعد.
6 أخرجه البخاري في الطلاق عن ابن عباس "7/ 60".
7 الطلاق:1.
ولم يجد ماء فتمعَّك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كان يكفيك تفعل هكذا، وضرب بيده الأرض، فمسح وجهه ويديه" فلم يقبل منه عمر، وقال له: نوليك من ذلك ما توليت1.
ولم ينهض عنده حجة تقاوم ما رآه من أن الملامسة في آية التيمم الملاعبة التي هي من نواقض الطهارة الصغرى، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلَّ وهم القادح فأخذوا به.
النوع الثاني: أن لا يوجد نص فيختلفوا في الاجتهاد، كالزوج العبد إذا طلق الحرة طلقتين، قال عثمان، وزيد بن ثابت: لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره اعتبارًا بحال الزوج، وخالفهما عليٌّ فقال: لا تحرم حتى يطلقها ثلاثًا اعتبارًا بحال الزوجة، وترجّح الأول؛ لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح.
وقد يُستدل للثاني بأن الله وضع عن الرقيق نصف العذاب، وهذا زيادة عذاب فلا يقاس على الحد2.
ومنه فتوى عثمان بإرث الزوجة من الزوج الذي طلق في مرض الموت ولو انتقضت العدة، وروي عن عمر تقييده بما لم تنقض العدة.
النوع الثالث: اختلافهم في استعمال اللغة، فقد أفتى ابن مسعود ووافقه عمر بأن المطلقة لا تخرج من عدتها إلّا إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، وأفتى زيد ابن ثابت بخروجها بمجرد ما تحيض، فالأول مبني على أن القرء في الآية الطهر، والثاني: الحيض.
ومن ذلك قول أبي بكر: إن الجد أب، فأنزله في الميراث منزلته في كل الأحوال مستدلًا بنحو قوله تعالى:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} 3، قال البخاري: ولم يذكر أن أحدًا خالفه في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، قال: ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة، يعني: بعده، فرأوا أن إطلاق الأب عليه مجاز، ولو سلمنا بأنه حقيقة فلا يلزم من الإطلاق اللغوي استحقاق
1 متفق عليه: البخاري "1/ 89"، ومسلم "1/ 193".
2 انظر نيل الأوطار "6/ 238".
3 يوسف: 38.
الإرث، والمسألة تراجع في محلها1.
النوع الرابع: اختلافهم في التمسُّك بأصل من الأصول، كتزوج مطلقة في العدة بغير الزوج المطلِّق، فقد حكم عمر بتأبيد الحرمة معاملة له بنقيض القصد، وزجرًا عن مخالفة أمر الله، ومحافظة على النسل، أخذًا بالمصالح المرسلة، وخالفه علي تمسكًا بالبراءة الأصلية، ولا نصَّ في القرآن لواحد منهما، وقد تقدَّم هذا.
كما تقدَّم استحسان عمر جعل الأرض العنوية حبسًا، وإيقاع الثلاث على من تلفَّظ بها في مرة واحدة أخذًا بالمصلح المرسلة2.
وروى الإمام أحمد عن سلامة بنت معقل قلت: كنت للحباب ابن عمرو ولي منه غلام، فقالت لي امرأته: الآن تباعين في دينه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صاحب تركة الحباب"؟ فقالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لا تبيعوها وأعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فائنوني أعوضكم" 3، ففعلوا، فاختلفوا بينهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم أم الولد مملوكة لولا ذلك لم يعوضهم، وقال بعضهم: هي حرة حيث أعتقها، فمن ثَمَّ كان الاختلاف.
فهذه أمثلة من كيفية اجتهاد الخلفاء الراشدين ومخالفة من خالفهم، فهي الأصل الذي حذا حذوه المجتهدين والفقهاء بعدهم، وقد رأيت أن جلّ ما كان يقع من الخلاف يضمحل لمكان الشورى، وتوفر جمهور الصحابة لديهم، فتظهر السنة ويعتمدونها فيضحمل الخلاف، ويعلم ذلك بتتبع كتب الصحاح وممارسة كتب الفقه القديمة كموطأ مالك والمدونة والأم للشافعي ونحوها.
1 البخاري "8/ 188".
2 سبق.
3 أحمد في مسنده "6/ 360".