الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي:
أحد العشرة، وأحد ستة الشورى، الأمين على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده في حجِّهن، ولَّاه عمر ذلك، وهذه منقبة عظيمة أيضًا، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا فما بعدها، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد دومة الجندل، قال فيه عمر: نعم الرأي عبد الرحمن، مسدد رشيد، له من الله حافظ.
وهو أحد المثرين المشهورين في الإسلام، خزّان الله ورسوله، أعان المسلمين إعانات مالية شهيرة، وله صدقات وأعمال برٍّ كبرى، وترك مالًا عظيمًا، كان محظوظًا في التجارة والعقل والعلم وسابقية الإسلام، ومناقبه جمَّة لا تفي بها هذه النتفة، وكان صاحب شورى عمر المرجوع إليهم في الآراء، والفقه، عمل برأيه كغيره في زيادة حد الخمر، وخالفه في تحبيس أرض الفرس، ورجع إلى روايته في حديث الطاعون، وأخذ الجزية من المجوس إلى غير ذلك، توفي سنة "32" اثنين وثلاثين1.
1 عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي: ترجمته في الإصابة "4/ 346"، والاستيعاب "2/ 844"، وأسد الغاية "3/ 311".
ترجمة عبد الله بن مسعود الهذلي:
أحد السابقين الأولين للإسلام، سادس من أسلم، لذلك يعد سدس المسلمين، ضمَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم فكان يلبسه نعليه، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال عليه السلام:"إذنك علي أن ترفع الحجاب، وأن تسمع 1 سوادي حتى أنهاك" 2، وهو صاحب الوسادة والنعلين والسواك.
شهد المشاهد كلها معه عليه السلام، وهاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، وشهد له عليه السلام بالجنة، وشهد له بالعلم، وقال فيه عليه السلام:"عليكم بعهد ابن أم عبد" 3، وقال عليه السلام: "لو كنت مستخلفًا أحدًا من غير مشورة
1 قال المؤلف رحمه الله: سوادي: بكسر السين أسراري. الأبيّ علي مسلم".
2 ابن ماجه عن عبد الله "1/ 49".
3 سبق تخريجه.
لاستخلفت ابن أم عبد" 1.
وقال: "رضيت لأمتي ما رضي الله عنه وابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط الله لها وابن أم عبد"2. في البخاري: "خذو القرآن عن أربعة، عن ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة" 3.
وقال أبو وائل4: سمعت ابن مسعود على المنبر يقول: أيأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، والذي نفسي بيده، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لذو ذؤابة يعلب به الغلمان، والله ما نزل من القرآن شيء إلّا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدًا تبلغنيه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته، ثم استحيا فقال: وما أنا بخيركم5، وقال شقيق: فقعدت في الحلق التي فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدًا أنكر عليه ذلك ولا ردَّ ما قال، وقال أبو موسى الأشعري: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهما ولزومهما له.
وقال أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري6: وقد قام عبد الله بن مسعود: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم، فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حجبنا. رواه مسلم7.
وقال حذيفة: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن
1 أخرجه الترمذي "5/ 673"، وابن ماجة "1/ 49" من طريق الحارث بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: حديث غريب، إنما تعرف من حديث الحارث عن علي.
أورده المصنّف فلا أعلم مصدره، والحديث مرسل.
2 الحاكم "3/ 317" ولفظه: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد" ، وهذا اللفظ الذي أورده المصنف فلا أعلم مصدره، والحديث مرسل.
3 البخاري في مناقب أُبَيّ بن كعب "5/ 45"، ورواه بلفظ:"استقرأوا القرآن...." في مناقب سالم مولى أبي حذيفة "5/ 34"، وفي مناقب معاذ "5/ 45"، ومسلم في مناقب عبد الله بن مسعود "7/ 148".
4 سبق ترجمته.
5 في البخاري:6/ 230" إلا قوله: "وإن زيد بن ثابت لذو ذؤابة يعلب به الغلمان".
6 صحابي انظر ترجمته في الإصابة "4/ 524"،.
7 مسلم "7/ 147".
مسعود كان من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة، وحلف بالله ما أعلم أحدًا أشبه دلًا وهديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من ابن مسعود، وسئل عنه علي فقال: قد قرأ القرآن وعلم السنة، وكفى بذلك، وكتب عمر إلى أهل الكوفة: إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما واستمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي، وقال فيه أبو الدرداء بعد موته: ما ترك بعده مثله.
وقال عبد الله بن بريدة: إنه المراد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 1 الآية. ومزاياه كثيرة، وقد انتشر العلم والدين عن أصحاب أربعة من أعلام الصحابة: ابن مسعود وأصحابه وهم أهل العراق، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأصحابهما وهم أهل المدينة، وابن عباس وأصحابه أهل مكة. توفي ابن مسعود بالمدينة سنة "32" اثنتين وثلاثين2.
1 سبأ: 6.
2 عبد الله بن مسعود الهذلي: أسد الغابة "3/ 384".
ترجمة زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي النجاري:
أبو سعيد أو أبو ثابت. قال ابن عبد البر: أول مشاهده أحد فما بعدها، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم راية بني النجار في غزوة تبوك نزعها من عمارة بن حزم، فقال: هل بلغلك عني شيء؟ فقال: "لا ولكن القرآن مقدَّم"، كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره، ثم استكتبه أبو بكر، فعمر، وهو الذي باشر جمع المصحف الشريف أيام أبي بكر، وقال له: إنك شاب ثقف1 لا نتهمك، وكفى بهذا تعديلًا، وكيف لا وقد ائمتنه النبي صلى الله عليه وسلم على الوحي2.
ثم هو الذي تولَّى نسخ المصاحف زمن عثمان أيضًا، ومعه معينون
1 قال المؤلف رحمه الله: ثقف -أوله مثلثة والقاف مكسورة ومسكنة- أي: حاذق.
2 لفظ البخاري: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله.... الحديث "6/ 235".
مذكرون في الصحاح، واتفق عثمان ومن كان معه على حمل الناس على القراءة بحرف زيد بن ثابت، وترك غيره من بقية الأحرف السبعة، فحرفه هو الذي يقرأ العالم الإسلامي به الآن1، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم العبرانية والكتابة بها، فتعلّم كتابتها في نصف شهر، وكذلك السريانية فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم بهما المكاتب للآفاق، ويترجم ما يرد بهما2، وهو الذي قال فيه عليه السلام:"أفرضكم زيد" رواه أحمد بإسناد صحيح3. أي: أعلمكم بالفرائض.
وروى ابن سعيد من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا بالمدينة في القضاء والقراء والفرائض.
وروى البغوي بإسناد صحيح عن ابن خارجة: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر، فقلما رجع إلّا أقطعه حديقة من نخل.
وكان عثمان يستخلفه أيضًا، كما استعمله أمينًا لبيت المال، وعن طريق ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم، وهو أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.
1 هذا ادّعاء عجيب لا أدري من أين أتى به المصنف، مع أن ما في صحيح البخاري يرده، ففي حديث جمع المصحف يقول زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فتلمَّسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ......} "6/ 236"، فهو من كونه يحفظ هذه الآية إلا أنه لم يكتف بذلك حتى يجدها عند غيره مكتوبة زيادة في التوثيق، فلم يكن لعثمان أن يحمل الصحابة والأمة بعدهم على رواية واحدة للقرآن وإن كنت حرف زيد، بل كان هدفه من مشروع الجمع، إثبات كل الأحرف السبعة المنزلة التي استقر الأمر عليها في العرضة الأخيرة، وتوثيقها بنص مكتوب يرجع إليه عند الاختلاف لاستبعاد ما ليس منها. وقد تقدَّمَ التعليق عليه، ولو ثبت ما ادَّعاه المصنف اعتراض ابن مسعود الذي ذكره آنفًا على عثمان رضي الله عنه، مع أن الصحابة لم يوافقوه على اعتراضه، ورجع رضي الله عنه بعد أن تيقّن من سلامة المشروع العثماني ودقته، وتيقّن من أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمته، بل كانت بإجماع من المهاجرين والأنصار ممن حضر منهم المشروع. "عبد العزيز القارئ".
2 الإصابة "2/ 593".
3 أحمد "3/ 281"، وسبق تخريجه.
4 أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المزربان النبوي، ت سنة 310، تذكرة الحفاظ "2/ 247".
وقال مالك، كان إمام الناس بالمدينة بعد عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس بعده عبد الله بن عمر، وقد أخذ بركابه يومًا ابن عباس، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقبَّل زيد رأسه، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا، توفى سنة نيف وأربعين، ووقف ابن عباس على قبره فقال: هكذا يذهب العلم.
وقال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا، قال ابن جرير الطبري: قيل: إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من الصحابة، إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا1.
1 زيد بن ثابت الأنصاري الخزري البخاري: أبو سعيد - أبو خارجة، الخزرجي البخاري المدني. التاريخ الكبير "3/ 380".
ترجمة معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي:
الإمام المقدَّم في علم الحلال والحرام، شهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله الله عليه وسلم- ومنها العقبة، وبدر، وكان فيها ابن إحدى وعشرين سنة، ولَّاه النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وحديثه بذلك في الصحيح، ولّاه على الجند -بفتح النون- يقضي بينهم، ويعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، ولما وحهه قال له:"بم تقضي"؟ قال: بكتاب الله الحديث، وتقدَّم1، وهو ممن كسر آلهة بني سلمة.
وفي الصحيح أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم2، وفيه أيضًا:"اقرأوا القرآن على أربعة" 3 وعدّه منهم، وقال فيه أبو نعيم في الحلية: إمام الفقهاء، وكنز العلماء، وكان من أفضل شباب الأنصار حلمًا وحياء وسخاء وجمالًا، وكان مجاب الدعوة.
وروى عنه عمر وأبو موسى وغيرهما من أعلام الصحابة، قال فيه عمر:
1 سبق تخريجه.
2، 3 البخاري "6/ 229، 230"، ومسلم "7/ 148"، واللفظ المذكور عند مسلم من حديث ابن عمر "7/ 149"، وسبق.
عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر. وفي حديث الترمذي مرفوعًا:"أعلمهم بالحلال والحرام معاذ" 1، وخطب عمر فقال: من أراد الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني.
قال شهر بن حوشب2: كان أصحاب رسول الله إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له، وكان ابن عمر يقول: حدثونا عن العاقلين العالمين، معاذ وأبي الدرداء. وقال فيه ابن مسعود: إنه كان أمَّة قانتًا لله حنيفًا، وفسَّر الأمة بالذي يعلِّم الخير ويؤتم به، والقانع: المطيع لله، قال: وكذلك كان معاذ. ولاه عمر بعد أبي عبيدة بن الجراح على الشام، فمات بإثره. اخترمته المنية شابًّا عن نيف وثلاثين سنة عام "19" تسعة عشر في طاعون عمواس3.
1 سبق تخريجه.
2 مولى أسماء بنت يزيد بن السكرة، أبو سعيد الشامي، روى عن مولاته وابن عباس وعائشة وأم سلمة وجابر وغيرهم، ت سنة 100، خلاصة الخزرجي "169".
3 معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي: الإصابة "6: 136"، والاستيعاب "3/ 1402"، وأسد الغابة "4/ 376".
ترجمة أُبَيّ بن كعب الأنصاري الخزرجي النجاري:
أبو المنذر، شهد العقبة الثانية، وبدرًا، وغيرها، وفيه قال عليه السلام فيما رواه الترمذي:"أقرؤكم أُبَيّ" 1، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره الله أن يقرأه عليه، قال: قلت: يا رسول الله: سماني الله لك؟ قال: "نعم"2. فقرأ عليه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بالتاء جمعيًا3.
1 الترمذي "5/ 664"، وتقدَّم تخريجه.
2 متفق عليه. البخاري "5/ 45"، ومسلم "7/ 150".
3 لفظ الصحيح: $"إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذي كفروا" البخاري "5/ 45"، ومسلم "7/ 150"، وفي الترمذي "5/ 665"، وأنه قرأ فيه: أن ذت الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية من يعمل خيرًا فلن يكفره، وقرأ عليه: $"ولو أن لابن آدم واديًا من مالٍ لابتغى إليه ثانيًا ولو كان له ثانيًا لابتغى له ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب". قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أما ما جاء به المصنف من أنه قرأ عليه آية يونس فخطأ، ولكن أخرج الحاكم في مستدركه "3/ 304" عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبزي عن أبيه عن أُبَيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت عليّ سورة وأمرت أن أقرئكها" قال: قلت: أسميت لك؟ قال: "نعم"، قلت: -أي الراوي- لأبي: أفرحت بذلك يا أبا المنذر؟ قال: وما يمنعني والله -تعالى وتبارك- يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} .
وهو من كُتَّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو أوّل من كتب له بعد الهجرة، وهو من فقهاء الصحابة وعلمائهم، وهو أوّل من كتب في آخر المكاتب وكتب فلان بن فلان، وكان له مصحف يقرؤ عليه، وحُرِقَ زمن عثمان، روى عنه عمر، وعبادة بن الصامت، وغيرهما من كبار الصحابة، وكان عمر يسميه سيد المسلمين، ويسأله عن المعضلات، ويتحاكم إليه إذا وقع خلاف بينه وبين الصحابة، وناهيك بهذا المرتبة رجل يرضى عمر بحكمه، وقال مسروق1: كان ثلاثة من الصحابة يدعون قولهم لقول ثلاثة: ابن مسعود يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى لقول علي، وزيد بن ثابت لقول أُبَيّ بن كعب.
توفى في خلافة عمر سنة "19"، وقيل في خلافة عثمان قبل موته بجمعة2.
1 تقدمت ترجمته.
2 أُبَيّ بن كعب الأنصاري الخزرجي النجاري: ترجمته في الإصابة "1/ 27"، والاستيعاب "1/ 65"، وأسد الغابة "1/ 49".
ترجمة أبو موسى عبد الله بن قيس:
الأشعري، الكوفي، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، واستعمله النبي -صلى الله عليه وسم- على زبيد وعدن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة، فافتتح الأهواز وأصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة بطلب من أهلها، فتفقّه به أهلها، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، كان من القراء أحسن الناس صوتًا ونغمة، ممن يحسن القراءة ويجودها.
قال فيه عليه السلام: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود" 1، وكان
1 متفق عليه: البخاري في فضائل القرآن "6/ 241"، ومسلم في المساجد "2/ 193"، ولفظهما: $"لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".
عمر إذا رآه يقول له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، وهو الذي فقَّه أهل البصرة وأقرأهم، وأوصى عمر: لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقرّوا الأشعري أربع سنين، قال فيه علي -كرم لله وجهه: صبغ في العلم صبغة.
وهو أحد الستة الذين انتهى العلم إليهم كما قال الشعبي1، وأحد قضاة الإسلام الأربعة، قال ابن المديني2: قضاة الأمة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وروى البخاري عن الحسن البصري3: ما أتى البصرة راكب خير لأهلها من أبي موسى4. توفي سنة نيف وأربعين أو نيف وخمسين5.
1 ترجمته سبقت.
2 علي بن عبد الله بن جعفر السعدي أبو الحسن المديني البصري، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثالث، وانظر تاريخ بغداد "11/ 158"، تهذيب التهذيب "7/ 349".
3 الحسن بن أبي الحسن -سيار أو يسار- البصري، مولى زيد بن ثابت، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني، وانظر تهذيب الأسماء للنووي "1/ 161"، وحلية الأولياء "2/ 131".
4 لم أجده في البخاري، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه "2/ 245".
5 أبو موسى: عبد الله بن قيس: لسان الميزان "3/ 328".
ترجمة أبو الدرداء عويمر بن عامر الأنصاري:
الخزرجي، أسلم يوم بدر، وشهد المشاهد كلها، وآخى عليه السلام بينه وبين سلمان، فكانا من الزُّهَّاد العباد، وهو معدود من الفقهاء العقلاء الحكماء في هذه الأمة. قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه حكيم هذه الأمة" 1، وهو من الأربعة الذين أوصى معاذ أن يلتمس العلم عندهم: أبو الدرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام.
وقال فيها أبو ذر: ما حملت ورقاء ولا أظلت خضراء أعلم منك يا أبا الدرداء. وقال فيه معاوية: إنه من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الداء.
وقال فيه القاسم بن محمد2: إنه من الذين أوتوا العلم، ومن حكمه
1 ذكره ابن حجر عن شريح بن عبيد -أرسله- عن النبي صلى الله عليه وسلم، الإصابة "4/ 748".
2 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة، ت سنة 107هـ، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني بإيجاز، وانظر الجرح والتعديل "ق2/ 118"، ووفيات الأعيان "1/ 418".
المأثورة في وصف الدنيا: إنها دار كَدَر، ولن ينجو منها إلّا أهل الحذر، ولله فيها علامات يسمع به الجاهلون، ويعتبر بها العاملون، ومن علامته فيها: أن حفّها بالشهوات، فارتطم فيها أهل الشبهات، ثم أعقبها بالآفات، فانتفع بذلك أهل العظات، ومزج حالها بالمثونات، وحرامها بالتبعات، فالمثري فيها تعب، والمقل فيها نصب. تولَّى قضاء دمشق في خلافة عمر أو عثمان، وقال ابن أبي الضياف التونسي1 في تاريخه: إن عمر ولّاه قضاء المدينة أيام خلافته، توفي سنة نيف وثلاثين2.
1 أحمد بن أبي الضياف التونسي أبو العباس، وزير ومؤرخ، تقدَّم في دولة المشير أحمد باي بتونس، ت سنة 1291هـ، الأعلام "135".
2 أبو الدرداء: عويمر بن عامر الأنصاري: مسند أحمد "5/ 94، 60/ 440"، طبقات ابن سعد "7/ 391"، وطبقات خليفة "95، 303"، التاريخ الكبير "7/ 76"، الجرح والتعديل "7/ 26"، المستدرك "3/ 336"، الاستبصار "125، 127"، الاستيعاب "4/ 1646"، تاريخ ابن عساكر "13/ 336/ 1"، أسد الغابة "6/ 79"، سير النبلاء "2/ 335"، كنز العمال "13/ 550"، شذارات الذهب "1/ 39".
ترجمة عبادة بن الصامت الأنصاري:
الخزرجي، أحد النقباء، شهد العقبات الثلاث وبدرًا والمشاهد كلها، من أعلام الصحابة وقضاتهم، وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، وهو أوّل من تولَّى قضاء فلسطين، ووقع خلاف بينه وبين معاوية في الصرف، وتقدمت قصته معه، ووقف معاوية يومًا عند المنبر فقال: حدثني عبادة فاقتبسوات منه، فهو أفقه مني، وله مع معاوية قصص متعددة تدل على قوة شكيمته في دين الله، وقيامه بالأمر بالمعروف، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وروى عنه كبار من الصحابة والتابعين، كأنس، وجابر، وغيرهما.
وهو ممن جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن سعد، توفي سنة نيف وثلاثين، أو نيف وأربعين1.
1 عبادة بن الصامت الأنصاري: أبو الوليد الأنصاري الخزرجي: الثقات "3/ 302"، أسد الغابة "3/ 160"، تجريد أسماء الصحابة "1/ 294"، الإصابة "3/ 624"، المصابح المضيء "1/ 85"، الجرح والتعديل "6/ 95"، تقريب التهذيب "1/ 395"، الاستيعاب "2/ 807"، الوافي بالوفيات "16/ 816"، سير النبلاء "2/ 5"، النجوم الزاهرة "1/ 21".
ترجمة عمار بن ياسر:
أبو اليقظان، العنسي1، المهاجري، حليف بني مخزوم، من السابقين الأولين، ممن عذِّب في ذات الله، كانت عليه السلام يمر به وهو يعذَّب هو وأمه، فيقول:"صبرًا آل ياسر" 2 وماتت أمه من ذلك التعذيب صابرة، شهد بدرًا والمشاهد كلها، قال عليه السلام:"إن عمارًا مليء إيمانًا إلى مشاشته" 3 وهو أحد أعلام الصحابة وفقائهم، ومن النجباء الأربعة عشر، استشهد في صفين عن تسعين سنة، وكان من حزب علي -رضي الله عن الجميع، عجبًا لصلابته في الدين، حتى شهد القتال في وقعتي الجمل وصفين وهو ابن تسعين، قال فيه عليه السلام:"عمَّار تقتله الفئة الباغية"4.
ومناقبه جمَّة رحمه الله، ولنمسك عمَّا وقع منه ضد عثمان، فذلك عن اجتهاد قيامًا بما رآه لصلاح أمته -رحمه الله5.
1 قال المؤلف رحمه الله: العنسي: بفتح المهملة وسكون النون، وعمَّار كشداد صيغة مبالغة، وياسر بكسر السين.
2 ذكره في الإصابة "7/ 713".
3 أخرجه النسائي في الإيمان "8/ 97"، وابن ماجه في المقدمة "1/ 52".
4 متفق عليه: البخاري في الصلاة "1/ 115"، ومسلم في الفترة "8/ 158".
5 عمار بن ياسر: مسند أحمد "4/ 262، 319"، طبقات ابن سعد "3/ 1/ 176"، التاريخ الكبير "7/ 25"، التاريخ الصغير "1/ 79، 84، 85"، والجرح والتعديل "6/ 389"، حلية الأولياء "1/ 139، 143"، والاستيعاب "8/ 225"، سير أعلام النبلاء "1/ 406"، تهذيب التهذيب "7/ 408"، والإصابة "7/ 64"، شذارت الذهب "1/ 45"، العبر "1/ 25، 38".
ترجمة حذيفة بن اليمان واسمه حسيل:
العبسي1 الكوفي، حليف بني عبد الأشهل، من الأنصار، من السابقين الأولين، صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، أعلمه بما يكون من الحوادث والفتن، شهد أحدًا وما بعدها، واستشهد أبوه بها، روى مسلم عنه، أن كفار قريش أخذوه هو وأباه، فقالو: إنكم تريدون محمدًا، يعني وهو في
1 قال المؤلف رحمه الله: العبسي -بالباء الموحدة تحت، وحذيفة وحسيل مصغران أهـ.
بدر، فقلنا: لا نريد إلّا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصر فنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال:"أنصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"1.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، والموجود له في كتب الحديث ينيف عن المائة حديث، وكان عمر يسأله عن الفتنة، وولّاه المدائن، فبقي بها إلى أن مات، وله أيادٍ في الإسلام بسيفه وعلمه، فقد فتح الدينور، وماسبذان، وهمدان، والري2، وهو الذي أشار على عثمان بنسخ المصاحف، وجمع الناس على مصحف واحد وتحريق ما سواه، وهذه خدمة للفقه تذكر فتشكر، كان عمر ينظر إليه في حضور جنائز المنافقين، فمن تخلَّف عن جنازته لم يشهدها عمر، قال فيه أبو الدرداء لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، كما في الصحيحين3، توفي سنة "36" ست وثلاثين4.
1 أخرجه مسلم "5/ 176".
2 مدن مشهور، انظر معجم البلدان "2/ 545"، "3/ 116"، "4/ 410"، "4/ 41".
3 البخاري في فضائل ابن مسعود "5/ 35"، ولم أجد في مسلم.
4 حذيفة بن اليمان واسمه حسيل: ترجمته في الإصابة "2/ 44"، والاستيعاب "1/ 334"، وأسد الغابة "1/ 390".
ترجمة أبو ذر الغفاري جندب 1 بن جنادة:
في معالم الإيمان2 عنه أنه قال: صلليت قبل الإسلام بأربع سنين، قال له عبد الله بن الصامت3: من كنت تعبد؟ قال: إله السماء، أتوجه حيث وجهني الله.
والذي في صحيح مسلم بثلاث سنين، وفي رواية فيه: سنتين4قبل
1 قال المؤلف رحمه الله: جندب -بضم الجيم والدال وبفتح الدال أيضًا، وجنادة -بفتح الجيم وتشديد النون- هذا أشهر الأقوال في اسمه، واسم أبيه، وقد غلبت عليه الكنية أ. هـ.
2 معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، لعبد لرحمن الأنصاري الدباغ، ت سنة 696هـ.
3 عبد الله بن الصامت الغفاري البصريّ، أخذ عن عمِّه أبي ذر وعمر وعثمان. خلاصة الخزرجي "201".
4 مسلم "7/ 155".
مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتوجه حيث يوجهني ربي: أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، الحديث.
من السابقين الأولين للإسلام، كان خمس الإسلام لأنه أسلم بعد أربعة، وقيل: بعد ثلاثة، وقصة إسلامه في الصحيحين1، وهاجر إلّا أنه بعد بدر وأحد، ولم يتيسر له شهودهما، ولا شهود الخندق، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم"2.
وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحه في السماء إلّا ذكرنا معه علمًا، وهو أول من حيي النبي صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، وهي السلام عليكم، وذلك لما دخل عليه ليسلم، وروى ابن عبد البر عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" 3، وقال فيه علي -كرم الله وجه: إنه وعاء مليء علمًا ثم أوكيء عليه.
قالوا: وكان يوازي ابن مسعود في العلم، ولذلك كان عمر ألحقه بأهل بدر في العطاء، وقال أبو ذر: كان قوتي علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله، وحكي عنه في معالم الإيمان4 أنه قال: إني أقربكم مجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فقد سمعته يقول:"أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة مَنْ خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها" ، وإنه والله ما منكم من أحد إلّا وقد تشبث منها بشيء غيري.
وكان بالشام، وهو ممن نشر فيه العلم والدين، وشكاه معاوية لعثمان؛ لأنه كان يرى وجوب التصدق5 بما زاد على القدر الضروري مما تقوم به الحياة، فقد
1 البخاري "5/ 59"، ومسلم "7/ 152".
2 أخرج الترمذي عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم عليه السلام
…
الحديث" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي بعض هذا الحديث فقال: "أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام" "5/ 669".
3 الترمذي "5/ 669"، وابن ماجه "1/ 55".
4 انظر التعليق في الصفحة السابقة.
5 قال المؤلف رحمه الله: رأي أبي ذر هذا هو أصل المذهب الاشتراكي السائد اليوم في =
روى أبو يعلي بإسنادٍ فيه ضعف عن ابن عباس: أن أبا ذر كان يحدث ويقول: لا
= أوروبا، وكان الإسلم في ابتدائه على هذا المذهب، فكان مالهم كله لله ولرسوله، لا يملكون شيئًا لمكان الضرورة والقلة الداعية لذلك، وكانت مصلحة الدعوة للدين ونشره وإظهاره تدعو للاستعانة باموالهم وأنفسهم، فكانت أموالهم وأنفسهم كلها لله، يتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها كيف يشاء، فقد أمرهم بالهجرة فهاجروا من مكة، وخرجوا عن مالهم وأولادهم، وفارقوا من بقي على الشرك من أزواجهم، وآخى بين المهاجرين أولًا في مكة، ثم آخى بينهم وبين الأنصار في المدينة، فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالكعس، وفي مسلم عن أبي سعيد: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منها في فضل، ومن ذلك ما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الارض، وفيه أيضًا: نهي أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ، وفيه أيضًا:"من كانت له أرض فليزرعها، أو ليرزعها أخاه ولا يكرها"، وفي لفظ البخاري:" فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه" ، فهذا هو أصل الاشتراكية المعتدلة. لكن الجمهور على ان ذلك قد نسخ بجعل الإرث للقرابة ومن يستحقه في كتاب الله، وبفرض جزء من المال معين وهو الزكاة لا يجب على مسلم غيره، وتقررت الملكية الناسخة للاشتراكية، لكن أبو ذر لا يرى نسخ الحكم، وكان يلبس مثل ما كان يلبس مملوكه، كما يدل لذلك حديث الصحيح، ولهذا أنكر عليه معاوية، وبسبب ذلك خرج من الشام إلى الربذة إلى أن مات بها رحمه الله*.
* قال فضيلة الشيخ عبد العزيز القارئ: هذا مما سبق التنبيه عليه، والمؤلف هنا أعوزه الحذر وفارقه التحقيق، ونحن نأخذ عليه أمرين في عجالته هذه: أولهما: أن أبا ذر رضي الله عنه لم يوافقه معظم الصحابة على اجتهاده في فهم آية الكنز، وعلى رأسهم الخليفتان الراشدان عثمان وعلي، ولذلك لم ينكر أحد على عثمان لما نفاه إلى الربذة، ولعل مكمن الخطأ في اجتهاده رضي الله عنه أنه أراد أن يحمل الأمة على أمر لما يلزمها بها لشارع الحكيم، إذ لم يلزم الإسلام أحدًا أن يوزع فضول ماله على الناس، وإنما أوجب عليه حقًّا معلومًا من ماله هو الزكاة، فمتى أداها طاب له ما بقي من ماله، ولم يعد كنزًا، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال:"ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز" رواه أبو داود "2/ 95"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق، فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك فرض المواريث لتكون لمن بعدكم
…
الحديث" أبو داود "2/ 126".
وأما ادعاء المصنف أن أموال المسلمين في ابتداء الإسلام كانت كلها بيد الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف بها كيف يشاء، فإنها كانت كذلك ولكن لا على سبيل المصادرة والتأميم، وإنما كان يندبهم =
يبين عند أحدكم دينار ولا درهم إلّا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم. فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر، وروى الطبري أن جعل يقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوي تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك. رأى معاوية أن ذلك داع للفتنة فوجه عليه عثمان، ثم كان في الربذة منتبذًا الخلق زاهدًا عابدًا إلى أن مات، وفي مسلم1 عن الأحنف بن قيس قال: قلت لأبي ذر: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم وتصيب منهم؟ قال: لا وربك لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله. ومن فتياه ما في مسلم أيضًا أن الأحنف بن قيس سأله: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه، ولما حضرته الوفاة لم يوجد في تركته ما يكفَّن به إذ كان يتصدق بعطائه كله، وكان في فلاة من الأرض هو وزوجته فقط، فجاءت سيَّارة فقال لهم: لو كان لي ثوب أو لامرأتي لم أكفن إلا فيه، وإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا، وكانوا من أهل بدر كلهم، ولم يكن فيهم إلا من قارب بعض ذلك إلا فتى من الأنصار: قال يا عم، أنا أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبي وفي عبئتي، من غزل أمي، قال أنت تكفنني، وكانت وفاته بها سنة "31" إحدى وثلاثين أو اثنين وثلاثين2.
= ويحبب إليهم الأنفاق لحاجة المسلمين في أول الإسلام، ولكن دون أن يلزم أحدًا، فالملكية الخاصة لم يمس مبدؤها بأي حكم ناسخ أو منسوخ، والأمثلة التي أوردها المصنف لا تساعده على دعواه؛ لأنها أحكام لها ظروف معروفة لدى أهل العلم، والكلام فيها مفصّل في كتبهم.
ولهذا نأخذ عليها الأمر الثاني: وهو أن اجتهاد أبي ذر رضي الله عنه لم تكن فرصة مناسبة لربطها "بالاشتراكية" من جهتين؛ أولاهما: ما بينها من أنه كان اجتهادًا مرجوحًا، وثانيهما: أنه ليس لأحد كائنًا من كان أن يخلط بين "النظام الرباني الإسلامي" وبين الأنظمة البشرية والأفكار الوضعية، فإن فعل أحد ذلك فقد جنى على شرع الله؛ لأنه يحمله حينئذ أوزار تلك الأنظمة وعيوبها ونواقصها، ولذلك لا أدري أكان المصنف في محاولته هذه التوفيق بين الاشتراكية والإسلام على بصيرة بما وصلت إليه الاشتراكيات، والغاية التي انتهت إليها وهي "الاشتراكية الماركسية"، والتي تقوم على أصول منها: الجدلية التاريخية أو التفسير المادي للتاريخ، وإنكار الأديان والأخلاق، وسائر الروابط الإنسانية، وحتمية الصراع بين الطبقات، وأن هذه "الهلوسات" الماركسية كلفت البشرية كثيرًا من الضحايا والمأسي حتى الآن.
1 مسلم "3/ 77".
2 أبو ذر الغفاري: جندب بن جنادة: ترجمته في الإصابة "7/ 125"، والاستيعاب "1/ 252"، وأسد الغابة "1/ 301".
ترجمة سلمان الفارسي أبو عبد الله:
يقال سلمان بن الإسلام، وسلمان الخير، أصله من أبناء أساروة فارس، من أصبهان أو من رام هرمز، ترك مهده وخرج يطلب الدين الصحيح، فتنصَّر أولًا، ثم تهوَّد ثانيًا، فأُسِرَ فتناولته أيدي الرق، إلى أن أسلم، قيل: شهد بدرًا، وقيل: أول مشاهده الخندق، هو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ الخندق للدفاع، وشهد ما بعدها، وهو من أعلام الصحابة ومن زهادهم السبعة الذين هم: عمار، وبلال، وصهيب، وأبو ذر، وخباب، والمقداد، الذين لا يحيط بفضائلهم كتاب، وقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات الكتاب كما في الاستيعاب1، وخبر إسلامه غريب ذكره في الشمائل2 وغيرها. جعل عمر له خمسة آلاف خراجًا، فكان يتصدق بها، ويأكل من كد يده، يعمل الخوص في حال كونه أميرًا على المدائن، وكان لا يتخذ بيتًا، بل يستظل بالشجر، أو بجدار المسجد، جاء صاحب له يومًا فقال: أردت أن أبني لك بيتًا يكنك، فأبى، فبقى به حتى قال له: إني أعرف البيت الذي تريد. قال له: وكيف؟ قال: يكون سقفه إذا وقفت ملاصقة رأسك، وإذا اضجعت كان جداره ملاصقًا لرجليك.
فقال: نعم، فعند ذلك بني له بيت قصب بتلك الصفة، وما كان له إلّا عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، ولم يكن يقبل من أحد شيئًا، هذا أمير المدائن عاصمة الفرس، فهكذا كان ولاة المسلمين، وهذا سر تقدمهم وسرعة انتشار دينهم ومبادئهم، وفيه. قال عليه السلام "لو كان الدين بالثريا لناله رجال من فارس"3،
1 آيات العقاب من سورة الأنعام، روى لنا سبب نزولها سعد بن أبي وقاص، وأخرج حديثه مسلم "7/ 127".
2 أخرجه أحمد في مسنده "5/ 438، 441".
3 أخرجه مسلم عن أبي هريرة "7/ 191"، ولفظه:"لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس" أو قال: "من أبناء فارس" وله: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء، ووضع يده على سلمان" رضي الله عنه.
وكان له مجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه أيضًا:"أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، ومقداد، وسلمان رضي الله عنهم" 1، وقال فيه علي: علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت. وقال فيه أيضًا: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم. توفى سنة "36" نيف وثلاثين2.
1 أخرجه ابن ماجه "1/ 53".
2 سلمان الفارسي أبو عبيدة: ترجمة سلمان في الإصابة "3/ 141"، والاستيعاب "2/ 134"، وأسد الغابة "2/ 328".
3 تقدم تخريجه.
ترجمة أبو عبيدة بن الجراح القرشي الفهري:
أحد العشرة المبشرة بالجنة الذين كانوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب ووراءه في الصلاة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها، من السابقين الأولين، ومن قوادهم الفاتحين. فاتح الشام ومبيد دولة الروم منها، قال فيه عليه السلام:"لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" 1، وأراد أبو بكر أن يبايعه يوم السقيفة بالخلافة إذ قال الصحابة: رضيت لكم أحد هذين الرجلين. له ولعمر، وقال عمر لما وصل عنده للشام: كلنا غيَّرَتْنَا الدنيا غيرك يا أبا عبيدة، إذ لم يجد عنده في منزله شيئًا، ولا ما ينام عليه سوى كسوته وسرجه وسلاحه، ولذلك قال عند وفاته: لو كان أبو عبيدة حيًّا لأوصيت له بالخلافة. فذاك مما يدل على علمه وفضله، ومن فتاويه لما وجهه صلى الله عليه وسلم رئيس سرية الخبط، وخرجت لهم حوت العنبر: نحن رسل رسول الله، وفي سبيل الله، فكلوا منها فأكلوا، ولما قدموا وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتواه، وقال:"هل معكم منه شيء وأكل"2. وهو الذي قال لعمر لما قدم الشام وأراد الرجوع من الطريق لأجل ما بلغه من الطاعون: أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة3. وذلك دالّ على جلالته عند عمر فمن دونه، وقالت عائشة: أحب أصحاب رسول الله إليه أبو بكر، ثم عمر، ثم أبو عبيدة. وفد ابنه معاذ بعد موته حيث خطب الناس فقال: إنكم فجعتم برجل ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط أقل حقدًا، ولا أبر صدرًا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياء للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه. اتفقوا أنه مات في طاعون عمواس عام "18" ثمان عشرة4.
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 متفق عليه. البخاري في الطب "7/ 169"، ومسلم في السلام "7/ 29".
4 أبو عبيدة بن الجراح القرشي الفهري. ترجمته في الإصابة "3/ 586"، والاستعياب "4/ 171"، وأسد الغابة "3/ 804".
ترجمة مصعب بن عمير القرشي العبدري:
أحد السابقين الأولين، ممن حُبِسَ في ذات الله، هاجر الهجرتين، شهد بدرًا واستشهد في أحد، وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، كان من قراء الصحابة وعلمائهم، أرسله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة ينشر الدين ويعلمهم الفقه، فعلمهم وأسلم على يده كثير، وهو أول من أقام جمعة في الإسلام بالمدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وكان بمكة ذا رفاهية ونعمة، ولكن زهد وتقشّف بعد الهجرة، فلما مات لم يوجد عنده سوى نمرة غطّوا بها جسده وبقي رجلاه غطوهما بالإذخر -رحمه الله1.
1 مصعب بن عمير القرشي العبدري: التاريخ الصغير "1/ 21، 25"، الجرح والتعديل "8/ 140"، والعبَر "1/ 5".
ترجمة سالم بن معقل مولى أبي حذيفة بن عتبة القرشي:
فارسي الأصل، من السابقين الأولين، أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إمام المهاجرين الأولين في مسجد قباء وفيهم أبو بكر وعمر، وناهيك برجل يؤمهما في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم1، وكان أكثرهم قرآنًا، وتقدَّم قوله عليه السلام:"خذوا القرآن عن أربعة" وذكر منهم سالمًا2، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فقال:"الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك" 3، وقال فيه عمر لما حضرته الوفاة: لو كان حيًّا ما جعلتها شوري. وكان يفرط في الثناء عليه، شهد بدرًا فما بعدها، وكان بيده راية المهاجرين يوم اليمامة فقطعت يده اليمنى، فأخذها باليسرى فقطعت أيضًا، مات هو ومولاه فيها، وجد رأس أحدهما عند رجل الآخر، ذلك سنة "12" اثني عشرة4.
1 أخرجه البخاري في الأذان "1/ 168".
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه ابن ماجه بلفظ: "الذي جعل في أمتي مثله""1/ 425"، والبزار بلفظ:".. الذي جعل في أمتي مثله" مجمع الزوائد "9/ 300".
4 سالم بن معقل مولى أبي حذيفة عن عتبة القرشي. ترجمته في الإصابة "3/ 13"، والاستيعاب "2/ 567"، وأسد الغابة "2/ 245".
ترجمة سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي:
سيدهم، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق، وأصيب فيه بأكلحه فبقى مريضًا إلى أن حكم في بني قريظة إذ نزلوا على حكمه، فحكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، لغدرهم وخيانة عهودهم، فقال له -عليه اسلام:"حكمت فيهم بحكم الله" 1، وذلك دليل صوابية اجتهاده، له فضائل جمة في نفع الإسلام وصدق مبداه وثابته في مواطن كثيرة، ومات بأثر الحكم المذكور رحمه الله، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"اهتزل لموته عرش الرحمن" 2، 3.
1 متفق عليه: البخاري في فضائل سعد بن معاذ "5/ 44"، ومسلم في الجهاد "5/ 160".
2 متفق عليه: البخاري "5/ 44"، ومسلم "7/ 150".
3 سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي. انظر ترجمته سعد في الإصابة "3/ 74"، والاستيعاب "2/ 602"، وأسد الغابة "2/ 296".
ترجمة عثمان بن مظعون القرشي الجمحي:
أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وهو من عبّاد الصحابة وفقهائهم ومجتهديهم، ومن اجتهاده ما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. وفي رواية مسلم: أراد أن يتبتّل فنهاه. الحديث1، وهو الذي ردَّ على لبيد بن ربيعة حين قال: وكل نعيم لا محالة زائل. بقوله: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. فقام سفيه منهم فلطم عينه فاخضرت2، وهو ممن حرّم الخمر في الجاهلية، فكان لا يشربها، وقال: لا أشرب شرابًا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدني مني ويحملني على أن أنكح كريمتي. شهد بدرًا ومات في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بها من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم3.
1 متفق عليه: البخاري "7/ 5"، ومسلم "4/ 129".
2 ذكر القصة في الإصابة.
3 عثمان بن مظعون القرشي الجمحي: أبو السائب القرشي. التاريخ الكبير "6/ 210"، البداية والنهاية "3/ 66، 92، 99"، معجم الثقات "303"، التاريخ الصغير "1/ 20، 42"، العبر "1/ 4"، تنقيح المقال "2/ 7803"، الموضوعات "1/ 156".
ترجمة جعفر بن ابي طالب صنو علي رضي الله عنهما:
من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، حضر فتح خيبر، فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحًا، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر"1. نشر الدين في الحبشة، وعلى يده أسلم النجاشي وبعض من أسلم هناك، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خليفة أمير جيش مؤتة بحدود الشام، غزا فيها الروم، قاتل حتى قطعت يداه على راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن عقر فرسه لئلَّا تفر به، وليعلم جيشه أنه لا مفر، وهو أول من عقر في الإسلام، وهذا من اجتهاده رضي الله عنه، وجدت فيه نحو تسعين جراحة ما بين صدره ومنكبه وما أقبل منه، وهذه الغزاة من أعجب ما سطره التاريخ للإسلام، كان المسلمون نحو ثلاثة آلاف خاضوا بحرًا من جيش الروم يتجاوز مائة ألف، وهي فاتحة المعارك بين الإسلام والروم، وأول النصر عليهم للإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنِّيه أبا المساكين لحبه لهم وإحسانه إليهم، وقال له: "أشبهت خلقي وخلقي" 2 كما في الصحيح. وقال فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر. فكان يرى أفضليته حتى على الخلفاء، وهو مذهب كثير من المحدثين، أن الذين ماتوا في حياته عليه السلام دونه، وشهد عليهم أفضل الصحابة على الإطلاق، كانت وقعة مؤتة سنة ثمان 3.
1 قدوم جعفر في فتح خيبر في الصحيح، وأما هذا اللفظ فرواه الطبراني عن أبي جحيفة، وفي سنده أنس بن مسلم، قال الهيثمي، لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ورواه الطبراني أيضًا عن الأعمش وهو مرسل، مجمع الزوائد "9/ 271".
2 البخاري "5/ 24".
3 جعفر بن أبي طالب صنو علي رضي الله عنهما. الإصابة "1/ 485". والاستيعاب "1/ 242".
ترجمة زيد بن حارثة الكلبيّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وحِبُّه ووالد حِبِّه أسامة، كان وصيف خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبته له، وجاء والده وعمه من بلدهما يطلبان فداءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيَّره فاختار رسول الله دون أبويه، وهو أول من سبق للإسلام على ما قال الزهري وسيلمان بن يسار1 وغيرهما، هاجر وشهد بدرًا، قال ابن عمر: ما كنا ندعوا زيدًا إلا زيد بن محمد، حتى نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} 2 رواه في الصحيح3، ولم يذكر أحد في القرآن باسمه من الصحابة سواه في قصة زينب بنت جحش التي كانت زوجته فطلقها، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سورة الأحزاب، وكان صلى الله عليه وسلم يؤمّره على الجيوش، وأمّره على جيش مؤته، وكان حعفر خليفته، ويا لها من منقبة، فقاتل حتى قتل قبل جعفر، قالت عائشة: ما بعث رسول الله سرية هو فيها إلا أمَّره عليها، ولو بقي لاستخلفه، وقال فيه:"أنت مولاي ومني وأحب الناس إلي"4. وفي البخاري: "إن كان لخليقًا للإمارة ومن أحب الناس إلي" 5. ومن فقهه أن أحد اللصوص أكرى له بغلًا من الطائف، ثم مال به إلى شعب وأراد أن يقتله، فاستمهله أن يلصي فصلَّى ركعتين ودعى بقوله: يا أرحم الراحمين. فأرسل الله له من خلصه منه من الملائكة6، 7.
1 الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب إمام الحفاظ، ت سنة 124هـ، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب""9/ 445"، وتذكر الحفاظ "1/ 102".
وسليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ت سنة 108هـ، وقد ترجم لهما المؤلف في القسم الثاني.
2 الأحزاب: 5.
3 متفق عليه: البخاري في تفسير سورة الأحزاب "6/ 145"، ومسلم في فضائل زيد "7/ 131".
4 أخرجه أحمد من حديث أسامة "5/ 204"، وابن سعد، وقال ابن حجر: إسناده حسن، الإصابة "2/ 601"، وفي البخاري في الصلح "3/ 242"، عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد:"أنت أخونا ومولانا".
5 متفق عليه: البخاري "5/ 29"، ومسلم "7/ 131".
6 ذكرها ابن عبد البر بإسناده إلى الليث بن سعد.
7 زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإصابة "2/ 598"، وفي الاستيعاب "2/ 542"، وأسد الغابة "2/ 224".
ترجمة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي:
من السابقين الأولين، أسلم بعد أربعة، هو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، هاجر الهجرتين، صلى للقبلتين، ورجع من الحبشة هو وزوجه وأخوه وبنته مع جعفر بن أبي طالب، شهد عمرة القضية فما بعدها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوليه؛ إذ كان من سادات قريش وأعيانهم، استعمله على صدقات مذحج، وأمَّره أبو بكر على مشارق الشام في الردة، استشهد في أجنادين أو يوم مرج الصفر1.
1 خالد بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي: القرشي الأموي. تقريب التهذيب "1/ 214"، تهذيب التهذيب "3/ 94"، تهذيب الكمال "1/ 355"، الكاشف "1/ 269"، الجرح والتعديل "3/ 1500"، الأعلمي "17/ 128"، التاريخ الكبير "3/ 152".
ترجمة خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي:
من السابقين، شهد بدرًا وأسر في سرية الرجيع، فبيع وقتلته قريش صبرًا بمكة، وهو القائل.
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
…
على أن شقٍّ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
ولما خرجوا ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين، ثم قال: لولا أن تروا أنَّ ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أوّل من صلى ركعتين عند القتل، وهذا من اجتهاده رضي الله عنه، وكان هذا سنة ثلاثة هجرية1.
1 خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي. ترجمته في الإصابة "2/ 262"، والاستيعاب "2/ 440"، وأسد الغابة "2/ 103".
ترجمة عبد الله بن جحش الأسدي القرشي:
من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وأخته زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه عليه وسلم، هو أول قائد للمسلمين ساق الجيوش، ولواؤه أوّل لواء عقد، ومن اجتهاده في قسم الغنيمة أخماسًا، فجعل الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسّم أربعة أخماس في الغانمين من قبل أن يفرض ذلك، فنزل بعد ذلك:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 1، شهد بدرًا واستشهد يوم أحد رحمه الله، وانقطع سيفه يوم أحد فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عرجرنًا فصار سيفًا، وقد بيع بمائتي دينار، اشتراه بغا2 التركي، ومن اجتهاده أنه أحد الثلاثة الذي استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر، هم عبد الله، وأبو بكر، وعمر3.
1 الأنفال: 41.
2 ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمته.
3 عبد الله بن جحش الأسدي القرشي: ترجمته في الإصابة "4/ 35"، والاستيعاب "3/ 877"، وأسد الغابة "3/ 131".
ترجمة حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ترجمة حمزة بن عبد الملطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأخوه من الرضع، من السابقين الأولين، وممن أعزّ الله بهم الإسلام، هاجر مع رسوله عليه السلام، وشهد بدرًا فأبلى فيها بلاء حسنًا، وأحدًا كذلك، وفيها استشهد، ومثَّل به المشركون أقبح مثلة، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال:"والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم" 1 فأنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 2، وهذا من الاجتهاد أيضًا بلا شك، وحمزة هو سيف الله، وسيد الشهداء، ومن قواد المسلمين، قيل: هو أول قائد، ورايته أول راية عقدت في الإسلام، وقيل: أول رياة عقدت في الإسلام راية عبيدة بن الحرث، قيل: إن حمزة أفضل مسلم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم3.
1 أخرجه الدراقطني "4/ 118".
2 النحل: 126، 127.
3 حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترجمته في الإصابة "21/ 121"، والاستيعاب "1/ 369"، وأسد الغابة "2/ 46".
ترجمة سيدتنا فاطمة بنت مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأشبه الناس به خُلُقًا وخَلْقًا، وأحب الناس إليه، وإلى أمته، سيدة نساء العالمين، ويكفي أن يقال في ترجمتها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي فضل وأي شرف وأي فخر بعد هذا، لكن ترجمة فضلها وعقلها وأدبها وشعرها وخطبها وجودها وفقهها خُصَّت بالتآليف، وانظر خطبها في كتاب "بلاغات النساء"1، من فقهها رضي الله عنها، أوصت عليًّا أن يغسّلها، فهي أول امرأة غسَّلَها زوجها في الإسلام، وأقره الصحابة على ذلك، فكان إجماعًا، وهو مقدَّم على ما يقتضيه القياس من كون الزوج بعد وفاتها صار أجنبيًّا لانصرام العصمة، وأوصت أن يجعل عليها قبَّةً2 تحمل فيها لئلَّا ترى، وهي أول من فُعِلَ بها ذلك فرقًا بين النساء والرجال سترًا لهن2، ولم يعقب النبي صلى الله عليه وسلم إلا منها، ولم يبق بعده من بنيه سواها، توفيت بعد بثلاثة أو ستة أشهر، وهي أول لحوقًا به عليه السلام، كما أخبرها بذلك3.
1 بلاغات النساء: تأليف أحمد بن طيفور الخراساني، ت سنة 280، طبع بمصر سنة 1236هـ.
2 قال المؤلف رحمه الله: سأل قاضي دانية أبو عمر أحمد بن حسين الشيخ أبا عمران الفاسي عالم أفريقيا لما توجّه في سفارة من الموفق صاحب دانية إلى المعز بن باديس عن مائة مسألة، من جملته هذه وهي: لم خصت المرأة بوضع قبة على نعشها واستمر عليه عمل الأمة من الصدر الأول إلى الآن. وقد كانت تدفن ليلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في حياتها لا يلزم إخفاء شخصها بل ستر جسدها؟ فأجاب أبو عمران: إنها لم تملك من أمراها شيئًا، فلذلك جعل لها أتمَّ الستر. وأجاب السائل بأن علة ذلك أنها لما حُمِلَت على الأعناق وتعيَّن عينها، زيد في سترها حتى لا يعلم طولها من قصرها، وسمنها من هزالها، وهي في حياتها مختلطة بغيرها لم تتعين. نقله في المدارك في ترجمته الأول.
2 أما أنها أوصت عليًّا بأن يغسّلها فنقله ابن عبد البر في الاستيعاب. وانظر كلام الحافظ ابن حجر عليه في الإصابة "8/ 57"، وفي مسند أحمد أنها رضي الله عنه اغتسلت قبل موتها، وأوصت ألا يكشفها أحد "6/ 461"، قال الهيثمي: فيه من لم أعرف، وروى نحوه الطبراني بإسناد منقطع. مجمع الزوائد "9/ 211".
3 سيدتنا فاطمة بنت مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ترجمتها في الإصابة "8/ 53"، والاستيعاب "4/ 1893"، وأسد الغابة "5/ 519".
ترجمة خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الخطمي:
بفتح فسكون، من السابقين الأولين، شهد بدرًا وما بعدها، كسر أصنام بني خطمة، ومن اجتهاده أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا فأنكره البائع، فجاء خزيمة وشهد بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"كيف شهدت بما لم تشهد"؟ فقال: ائتمناك على خبر السماء، فكيف لا نصدقك في هذا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين خصوصية له، وهذا من فقهه واجتهاده الصائب -رضي الله عنه1، ولما جمعوا المصحف لم يجدوا آية الحرص إلّا معه، كما في البخاري2، مات بصفين مع عليّ -رضي الله عنه3.
1 أبو داود في الأقضية "3/ 308"، والنسائي في البيوع "7/ 226".
2 في البخاري في تفسير سورة التوبة "6/ 90"، وفيه أيضًا في جمع المصحف "226" أنه وجد معه آية من الأحزاب:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .
3 خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الخطمي. التاريخ الكبير "3/ 205"، ودائرة المعارف الأعلمي "17/ 169"، البداية والنهاية"7/ 310".
ترجمة خالد بن الوليد القرشي المخرومي
…
ترجمة خالد بن الوليد القرشي المخزومي:
سيف الله، أحد أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، أسلم بين الحديبية وخيبر، ولم يزل من حين أسلم يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيادة الجيوش، شهد معه الفتح، وهو الذي كسر صنم العزّى، ومن اجتهاده أن بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغميصا فقتل ناسًا قالوا: صبأنا -أي أسلمنا- ولم يحسنوا النطق بالشهادة، فلم يستصوب فعله، ووداهم عليه السلام من مال المسلمين وعذر اجتهاده، وقال عليه السلام:"اللهم أني أبرأ إليك مما فعل خالد" 1 والقصة في الصحيح، وله مشاهد وفتوح في الحياة النبوية وبعدها، وما كسرت له راية، وعلى يده أسس الله دعائم الإسلام بعد تضعضعه بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أخضع أهل الردة، وقتل مسليمة الكذاب، ومالك بن نويرة، ومن أبى من دفع الزكاة، وأخمد فتنة ثورة العرب، وفتح كثيرًا من بلاد الشام، فهو فاتح دمشق وغيرها، ولما حضرته الوفاةقال: لقد شهدت مائة زحف وما في جسدي موضع شبر إلّا وفيه ضربة أو طعنة، أو رمية، ثم أنا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
توفي سنة "21" إحدى وعشرين2.
1 تقدم تخريجه.
2 خالد بن الوليد القرشي المخزومي: ترجمته في الإصابة "2/ 427"، وأسد الغابة "2/ 93".
ترجمة عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي:
أحد قواد الإسلام في البعوث والسرايا، ومن النقباء، وشهد بدرًا وما بعدها، وكان هو الخليفة الثاني بعد جعفر بن أبي طالب في سرية مؤتة، فاستشهد بعد الرئيسين قبله، كان من شعراء الصحابة، ينافح عن رسول الله بسنانه ولسانه، ومن فقهه: سئلت امرأته بعد موته عن صنيعه فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلّى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين، لا يدع ذلك. قالوا: وكان أول خارج للغزو وآخر قافل، ومن ذلك أيضًا ما نزل:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} 1، قال عبد الله بن رواحة: علم الله أني منهم، فأنزل الله:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2 وهذا تمسك بالعموم حتى يرد المخصص، ومن ذلك أنه أنشد بين يدي رسول الله عند دخوله مكة:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تأويله
ضربًا يزيل الهمام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر، فقال:"خلّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه عليهم أشد من وقع النبل" 3، ومن ذلك ما في الزهد لأحمد عن أنس: كان ابن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعالى نؤمن بربنا ساعة. الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة" 4، وقال أبو الدرداء: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحارّ الشديد، وما في القوم صائم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة5.
ومن ذلك أنه مشى ليلة إلى أمته فجامعها، وفطنت امرأته فلامته، فجحد والحال أنها عاينت، فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن فالجنب لا يقرؤه، فقال:
1 الشعراء: 224.
2 الشعراء: 227.
3 أخرجه النسائي "5/ 159".
4 أحمد في المسند عن أنس بن مالك "3/ 265".
5 متفق عليه: البخاري "3/ 44"، ومسلم "3/ 145".
شهدت بأن وعد الله حق
…
وأن النار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء حق
…
وفوق العرش رب العالمين
وتحمله ملائكة غلاظ
…
ملائكة الإله مسومين
فقالت: صدق الله وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه، قال ابن عبد البر: رويناها من وجوه الصحاح1.
1 عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي: مسند أحمد "3/ 451"، طبقات ابن سعد "6/ 2/ 79"، تاريخ خليفة "86-87"، والتاريخ الصغير "1/ 23"، الجرح والتعديل "5/ 50"، حلية الأولياء "1/ 118-121"، والاستيعاب "6/ 171"، ابن عساكر "9/ 99/ 2"، أسد الغابة "3/ 234"، كنز العمال "13/ 449"، وشذرات الذهب "1/ 12".
ترجمة أسامة بن زيد بن حارثة، حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه:
تقدَّم نسبة أبيه، تربّى أسامة في بيت رسول الله ومع أولاده، وكان يجعله في حجره، هو وسبطه الحسن، ويقول:"اللهم إني أحبهما فأحبهما" 1 وكفى بهذا شرفًا، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة، وولّاه على جيش عظيم فيه أبو بكر وعمر، فمات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه فأنفذه أبو بكر، وتكلَّموا فيه لما تولاه، فخطب النبي قبيل وفاته وقال:"إن يتكلموا فيه فقد تكلموا في أبيه قبله، وإن كان لخليقًا للإمارة، وايم الله، إن كان لأحب الناس إلي، وايم الله إن هذا لها لخليق -يريد أسامة، وايم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده، فأوصيكم الله به فإنه من صالحكم" رواه مسلم2، وكفى بهذا ثناء، كان عمر يجله كثيرًا، وإذا لقيه قال له: السلام عليك أيها الأمير، ويقول له: لا أدعوك إلّا به ما عشت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأنت علي أمير، وفضَّله على ولده في العطاء، جعل له خمسة آلاف، ولولده ألفين. وقال: أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وهو أحب إليه منك، له مائة وثمانية أحاديث كما في سيرة الشامي3، وكان أسامة ممن اعتزل الفتنة، وتوفي آخر أيام معاوية4.
1 البخاري "5/ 32".
2 متفق عليه: البخاري "5/ 29"، ومسلم "7/ 131".
3 تقدم.
4 أسامة بن زيد بن حارثة، حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه: ترجمته في الإصابة "1/ 49"، والاستيعاب "1/ 75"، وأسد الغابة "1/ 64".
ترجمة أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي
…
ترجمة أبو سعد الخدري سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي:
من صغار الصحابة، استصغر بأحد فلم يشهدها لكونه كان ابن ثلاث عشرة، واستشهد بها أبوه، وشهد ما بعدها من المشاهد، وهو أفقه صغار الصحابة كما قال حنظلة بن أبي سفيان1 عن أشياخه، ومن أكثرهم حديثًا.
ومن الحفاظ المتقنين الفضلاء العلماء العقلاء، وأخباره تشهد بذلك، وهو من الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلموا بالحق إذا رآه أو علمه" 2، قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت.
ومن فتياه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجعل على رقية رجل لدغته عقرب، وكان الجعل رءوسا من الغنم، ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أمضى فتواه وقال:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" 3، توفي سنة نيف وستين أو نيف وسبعين4.
1حنظلة بن أبي سفيان الأموي المكي، أخذ عن طاوس وسالم والقاسم ومجاهد، ت سنة 151، خلاصة الخزرجي 96.
2 أحمد في المسند "3/ 44".
3 تقدم تخريجه.
4 أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي. ترجمته في الإصابة "3/ 78"، والاستيعاب "2/ 602"، وأسد الغابة "2/ 289".
ترجمة عمرو بن العاص القرشي السهمي:
أسلم مع خالد بن الوليد، وهو أحد القواد المشهورين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، بعثه صلى الله عليه وسلم في سرايا قائدًا، من جملته سرية ذات السلاسل، وتحت إمرته أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ومن اجتهاده ما في الموطأ: أنه أصبح جنبًا فتيمم وصلّى بهم وهم خمسمائة، فلما قدموا وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" أتصلي إمامًا وأنت جنب" ولم يأمرهم بالإعادة1، فدلّ على صحة صلاتهم مع كراهة، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم على عمّان، فلم يزل بها إلى الوفاة النبوية، حضر فتوح الشام، وهو الذي فتح مصر والإسكندرية، وبدأ في فتوح أفريقيا، ففتح طرابلس سنة "22"، وهو من عقلاء العرب ودهاتهم، وبدهائه خرجت الخلافة من يد علي بن أبي طالب وتولاها معاوية2، فهو ممن أسس الدولة الأموية الكبرى، مات بمصر سنة نيف وأربعين عن تسعين سنة3.
1 تقدَّم تخريجه.
2 هذه عبارة غير محققة، فالخلافة أولًا لم تخرج من يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى استشهد، وثانيًا إنما آلت الخلافة بعده إلى معاوية رضي الله عنه بعدة عوامل وأسباب، كان من أهمها تنازل الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نوّه به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:"ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" أخرجه البخاري "5/ 32"، "عبد العزيز القارئ".
3 عمر بن العاص القرشي السهمي: أبو عبد الله، مات سنة 43، مسند أحمد "4/ 202"، طبقات ابن سعد "4/ 254"، تاريخ البخاري "6/ 303"، والمستدرك "3/ 452"، تاريخ الطبري "4/ 557"، جامع الأصول "9/ 103"، وأسد الغابة "4/ 115"، تاريخ الإسلام "2/ 235"، البداية والنهاية "4/ 263"، والمغازي "2/ 741"، شذرات الذهب "1/ 53".
ترجمة أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي الخزرجي
4:
فارس رسول الله، شهد أحدًا فما بعدها، ومن فقه في الحياة النبوية صيده وهو حلال، وأطعم منه المحرمين، فأكل بعضهم دون بعض، فأجاز صلى الله عليه وسلم فتواه5. روى عنه أبو سيعد الخدري فقال: أخبرني من هو خير مني. توفي سنة نيف وخمسين6.
1 تقدَّم تخريجه.
2 هذه عبارة غير محققة، فالخلافة أولًا لم تخرج من يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى استشهد، وثانيًا إنما آلت الخلافة بعده إلى معاوية رضي الله عنه بعدة عوامل وأسباب، كان من أهمها تنازل الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نوّه به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:"ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" أخرجه البخاري "5/ 32"، "عبد العزيز القارئ".
3 عمر بن العاص القرشي السهمي: أبو عبد الله، مات سنة 43، مسند أحمد "4/ 202"، طبقات ابن سعد "4/ 254"، تاريخ البخاري "6/ 303"، والمستدرك "3/ 452"، تاريخ الطبري "4/ 557"، جامع الأصول "9/ 103"، وأسد الغابة "4/ 115"، تاريخ الإسلام "2/ 235"، البداية والنهاية "4/ 263"، والمغازي "2/ 741"، شذرات الذهب "1/ 53".
4 قال المؤلف رحمه الله: ربعي -بكسر الراء وسكون الباء الموحدة، والسلمي بفتحتين.
5 تقدَّم تخريجه.
6 أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري السلمي الخزرجي: ترجمته في الإصابة "7/ 327"، والاستيعاب "1/ 289"، وأسد الغابة "5/ 274".
ترجمة قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي:
عقبي، بدري، شهد المشاهد كلها، وهو الذي أصاب سهم حدقته يوم أحد حتى تعلقت بالعرق، فأرادوا قطعها، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فدفعها بيده حتى وضعه بيده موضوعها، ثم غمزها براحته وقال:"اللهم اكسها جمالًا" فكانت أحسن عينيه وأحدها نظرًا، وما مرضت بعد1، كان من فضلاء الصحابة، وكان أخا أبي سعيد الخدري لأمه.
كان أبو سعيد في سفر، ولما قدم قدَّموا له لحم أضحية بعد ثلاث، فقال: لا أذوقه حتى أسأل أخي قتادة: فأتاه وسأله، فأخبره بأن النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث نسخ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في ذلك، والقصة في الصحيح2، ومن فقهه أنه بات يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يقوم الله بها، فسمعه أبو سعيد الخدري، وكان يتقالهّا، أي: يعدها قليلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنها تعدل ثلث القرآن" والقصة في الصحيح3، وكانت وفاته سنة نيف وعشرين4.
1 ذكره ابن حجر في الإصابة وبين طرفة "5/ 417".
2 البخاري "7/ 133".
3 البخاري "6/ 223".
4 قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي: ترجمته في الإصابة "5/ 416"، والاستيعاب "3/ 1274"، وأسد الغابة "4/ 195".
ترجمة أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أمية:
أسدية، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد، وتوفي هناك فهاجرت للمدينة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. كانت من الفقيهات الحافظات السيدات الكريمات المحسنات، ومن اجتهادها المصيب في الزمن النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها عندما تمَّ الصلح بينه وبين كفار قريش في الحديبية متغيرًا لما أمر الصحابة أن يتحللوا من إحرامهم وينحروا هديهم، فتوانو إذ لم يستحسنوا الصلح ورأوا القتال أفضل، فأشارت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وينحر هديه، فإنهم لا محالة يقتدون به، ففعل1، وهذا من كمال عقلها إذ فهمت أنهم استصعبوا
1 ذكره الحافظ في ترجمتها في الإصابة.
التحلل من النسك قبل استيفاء المناسك، وأن البيان بالفعل أقوى من القول، فكان الأمر كما فهمت.
وفي صحيح مسلم عن ابنها عمر بن أبي سلمة، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ قال: "سل هذه" لأم سلمة، فأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك1.
الحديث، ولها أقوال وآراء في الفقه مشهورة، لها ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثًا، توفيت سنة "59" تسع وخمسين، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاةً رضي الله عنهن جميعًا2.
1 أخرجه مسلم في الصوم "3/ 137".
2 أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أمية: ترجمتها في الإصابة "8/ 150، 221"، والاستيعاب "4/ 1920، 1939"، وأسد الغابة "5/ 650، 588"، وفي الطبعة المغربية، بنت أبي خزيمة وهو خطأ.
ترجمة أم المؤمنين زينب بنت جحش
…
ترجمة أم المؤمنين زينبت بنت جحش:
هي التي تولى الله تزويجها لرسوله في آية الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} 1، كانت صوّامة قوامة، كثيرة الإحسان والصدقة، تعمل بيدها دباغة الجلود وتخرزها، وتبيع وتتصدق على الأيتام والأرامل، كان خراجها اثني عشر ألفًا تتصدق به كله، فبلغ ذلك عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فبعث لها بألف درهم تستبقيها، فتصدقت بها أيضًا، فعلت ذلك في العام الأول، ثم قالت: اللهم لا يدركني هذا المال من قابل فإنه فتنة. ممن فقهها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومًا يقسِّم الفيء في رهط من المهاجرين، فتكلَّمت في ذلك، فانتهزها عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" خل عنها فإنها أواهة" 2 ولما حضرتها الوفاة سنة "20" عشرين قالت: إني أعددت كفني، وإن عمر سيبعث إلي بالكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم أن تتصدقوا بحقوي فافعلوا، فكفنوها في كفن عمر وتصدّقوا بكفنها. قالت فيها عائشة: لم تكن امرأة خيرًا منها في الدين وأتقى لله وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبذلًا لنفسها في العمل الذي تتصدق وتتقرّب إلى الله3.
1 الأحزاب: 37.
2 ذكره الحافظ في ترجمتها في الإصابة.
3 أم المؤمنين زينب بن جحش الأسدية: ترجمتها في الإصابة "7/ 667"، والاستيعاب "4/ 1849"، وأسد الغابة "5/ 463".
صناعة التوثيق في العهد النبوي:
غير خفي أن التوثيق من مستتبعات الفقه، وهاك مثالًا مما كان عليه التوثيق في العهد النبوي:
روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن الجارود، وابن منده بإسناد حسن1، ولفظ ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبّاد بن ليث صاحب الكرابيسي، حدثنا عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداد بن خالد بن هوذة: ألا نقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: بلى، فأخرج لي كتابًا فإذا فيه: $"هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبئة، بيع المسلم للمسلم" وأورده أبو الحسن الطوسي2 في الأحكام، و"الغائلة": قال سعيد بن أبي عروبة3: الإباق والسرقة والزنا: "الخبثة" بكسر الخاء وبالمثلثة هو: أن يكون من قوم لا يحل سبيهم، وقيل: سوء الخلق، وقوله:"بيع المسلم" الأشهر فيه النصب أي كبيع المسلم.
وفي أبي داود4: عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب قال: نسخها في عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب5: "بسم الله الرحمن
1 خبر كتاب العداء بن خالد بن هوذة: أخرجه البخاري تعليقًا في البيع "3/ 76"، والترمذي "3/ 511"، وابن ماجه "2/ 756:، وليس في النسائي.
2 لم أعرفه.
3 اسم مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري الحافظ العلم، أخذ عن الحسن والنصر بن أنس حديثًًا واحدًا، وأبي التياح ومطر الوراق، ت سنة 156 هـ. خلاصة الخزرجي 141.
4 أبو داود في الوصايا "3/ 117".
5 في السنن عبد الحميد بن عبد الله بن عمر، وقال الخزرجي في الخلاصة، عبد الحميد بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر المدني، روى كتاب صدقات عمر. خلاصة الخزرجي 222.
الرحيم، وهذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله، وابن السبيل، لا جناح على من ولهيا أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متأثل مالًا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، وإن شاء وليٌّ ثمغ اشترى من ثمره فهو للسائل والمحروم، وإن شاء وليٌّ ثمغ اشترى من ثمره رقيقًا لعمله. وكتب معيقيب1.
وشهد عبد الله بن الأرقم2، وزاد فيها لما حضرته الوفاة:"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين إن حدث بي حدث، أن ثمغا وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة التي بخيبر ورقيقة، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذي القربى، ولا حرج عى وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه". فانظر صورة ما كان عليه التوثيق من فصاحة واختصار مفيد جامع، الأصل الذي بني عليه التوثيق، وتفرّع عنه هو آية البقرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} الآية3.
انتهى القسم الأول من كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، ويليه القسم الثاني.
أوله: الطور الثاني للفقه طور الشباب.
1 لعله معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، كان على بيت المال لعمر بن الخطاب. انظر ترجمته في الإصابة "6/ 193".
2 عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقام القرشي الزهري، كان على بيت المال أيام عمر. انظر ترجمته في الإصابة "4/ 4".
3 البقرة: 282.
القسم الثاني: من الفكر السامي
مدخل
…
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
القسم الثاني من الفكر السامي:
في الطور الثاني للفقه وهو طور الشباب؛ حيث صار الفقه شابًّا قويًّا كاملًا سويًّا، وذلك بعد الوفاة مدة قرنين إلى آخر القرن الثاني، إذ أصوله كملت في الزمن النبوي وكثير من فروعه، ولم يبق إلّا التفريع والاستنباط بالاجتهاد المطلق ثم المقيد قبل شيوع التقليد في العلماء.
وفي هذا العصر امتدَّ الإسلام وكثرت الفتوح، واتسعت المملكة الإسلامية من الهند إلى الأندلس، واختلطت بأمم كثيرة دخلت فيه أفواجًا كفارس والروم، ودخلت الحضارة والرفه الفارسي والرومي للعرب، فكثرت النوازل، وظهر الفقهاء المفتون والقضاة العادلون، فصار للفقه مكان واعتبار؛ إذ فتحت الأقطار ومصِّرت الأمصار واتسعت بالإسلام الديار، عصر التمدن العربي والتقدم الإسلامي، فنزلت النوازل وظهرت جزئيات النصوص التي كانت كامنة بين العموم والخصوص، فاجتهد الفقهاء واستنبطوا الآراء وأسَّسوا المبادئ وقعَّدوا وأطلقوا.
ورووا السن وفسَّروا القرآن الكريم فعمَّموا وخصَّصوا وقيَّدوا وأطلقوا.
واستعانوا عليه بالآثار فجمعوها وفحصوها، وانقتدوا ما انتقدوا منها، وبينوا ما يصلح للدلالة وما فيها قادح، ومارسوا كيفية اندراج الجزئي في الكلي، والخاص تحت العام، وقاسوا لنظيره والشبيه على شبيهه، وصيروا هذه الأصول علومًا وصناعات تحتاج لمزيد الممارسات، لتنضبط بذلك الفقه وينتظم
أمر الاجتهاد الذي يتوقّف عليه تقدم الأمة وصون حقوقها.
كل المجتهدين كان يقصد غاية واحدة، وهي استنباط أحكام الوقائع من القرآن والسنة على ما يقتضيه روح التشريع الإسلامي متوخِّين الوصول إلى مراد الشارع، لا قصد لواحد منهم سوى هذا، لكنهم قد تنوعت أفكارهم ومبادئهم في كيفية الوصول إلى هذه الضالة المنشودة، كما سنورد لك بيانه.
ففي هذا العصر بلغ الفقه غايته، وأدرك أوان الشباب وترعرع، فأصبح شابًّا قويًّا غضًّا طريًّا، يتناول الفقيه أحكام الفروع من أغصان الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لم تذبل نضرته بالتقليد المحض وسرد الفروع مسلَّمة كما تسرد الأعمال يوم العرض، بل ازدهى ثمر ثمره الغض إذ كان النمو، وقوته تزداد كمالًا بالاجتهاد، وحرية الفكر مطلقة العنان لكل الأفراد، ولم يكن حجاب التقليد سدًّا حيينًا بين العلماء وبين الكتاب والسنة كما هو في متأخر الصعور التي لم يبق عند أهلها لتلاوة القرآن نفع إلّا على أصحاب القبور، ومنعوا انتفاع الأحياء من فهمه، والاستطلاع على عجائب علمه، بل كان أصحاب القرنين الأولين يستصبحون بمصباح السنة والكتاب ويسيرون بمعيارهما، لا حائل، ولا مانع، فلا ينال إذ ذاك لقب عالم إلا المجتهد، وما كان القليد إلّا للعوام، ولهذا بقي من اصطلاح الفقهاء أن المقلد عامي ولو عاش في العلم مائة عام.
ففي هذه العصر أصبح الفقه علمًا عظيمًا وكنزًا مهمًّا جسيمًا، فامتدت فروعه وتنوعت أبوابه وفصوله ونضج واستوى، وألفت فيه مصنفات عظام يفتخر بها الإسلام، جامعة بين الفرع وأصلها، وافية بالمقصود كله في مدة لا تبلغ قرنين، مع أن دولة الرومان التي هي أرقى دولة قبل الإسلام ما ضبطت شريعتها إلّا بعد ما مضى من أيامها ما ينيف عن ثلاثة عشر قرنًا.
وهذا مما لم يتفق لغير الإسلام من الأمم ذوات الشأن وذلك لأمرين: متانة أصولة الشرعية وأحكامها لكونها بأمر إلهي، ونباهة العرب ونهضتهم التي بهرت العالم في كل باب طرقوه، ونشاطهم الذي لم يشبه ملل ولا كلل في الاعتناء بالعلوم وتدوينها، لا سيما الفقه الذي هو قانونهم الأساسي وزمام قضائهم، وصراط العدل الذي لا حياة لأمة دونه، مع شدة تمسكهم بالدين وتعظيمهم
للقرآن لأنه كلام رب العالمين.
ولنبدأ بزمن الصحابة الذي هو نحو مائة سنة من لدن وفاته صلى الله عليه وسلم، إلى آخر القرن الأول، نعم بوفاة معاوية انقرضت الخلافة من الصحابة رضي الله عنهم، وأصبحت في التابعين، أما ابن الزبير الذي تولّى بعده في مكة والعراق ومصر فإنه لم تتمّ له الخلافة مع قصر مدته، وكونه من صغار الصحابة المتقاربين في الرواية مع كبار التابعين؛ إذ جلّ مروياتهم عن الصحابة الكبار.
واعلم أن عصر الصحابة عصران: عصر الخلفاء، وهو ثلاثون سنة من ولاية أبي بكر إلى تنازل الحسن بن علي لمعاوية، والعصر الثاني عصر معاوية وبني أمية إلى آخر المائة الأولى.
وقد روى البخاري وغيره عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد" 1، وهو عبارة عن انخرام القرن، وأن كل من كان حيًّا تلك الساعة لا يزيد على مائة سنة منها وكذلك وقع، فإن آخر الصحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، ولد عام أحد، وأثبت مسلم وابن عدي2 صحبته، وهوآخر من مات من جميع الصحابة على الإطلاق، توفي سنة مائة وقيل عشر ومائة، ولذا اعتبرنا آخر القرن الأول آخر عصر الصحابة تقريبًا، وعن عبد الله بن مسعود مرفوعًا:"تدور روحى الإسلام لخمس وثلاثين أو لست وثلاثين أو لسبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا" قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: "مما مضى" رواه أبو دواد3.
1 متفق عليه: البخاري في العلم "1/ 39"، ومسلم في فضائل الصحابة "7/ 186".
2 عبد الله بن عدي الجرجاني أبو أحمد صاحب الكامل.
3 أبو داود في الفترة "4/ 98".
تاريخ إجمالي لعصر الخلفاء من الصحابة:
بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بويع أبو بكر الصديق بإجماع الصحابة إلّا من شذَّ، فقام بالأمر أكمل قيام، وكان بعض العرب ارتدَّ وبعضهم منع الزكاة، فأجبر الكل على الرجوع إلى الجادة بقوة إيمان المؤمنين، وثباته وحكمته، وجمع الكلمة وأزال كل خلاف داخلي، ثم شرع في فتوح الشام والعراق، وجمع القرآن في المصحف بإشارة من عمر، وذاك أهم أصول الفقه، توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وثلثة أشهر وثمانية أيام.
وعهد بالخلافة لعمر:
فوقع إجماعهم عليه أيضًا، وتبع خطته في الفتح والعدل والشورى، توفي بعد عشر سنين وستة أشهر ونصف من ولايته شهيدًا، بعدما أوصل الإسلام من نهر مرو في الشرق إلى طرابلس الغرب في أفريقيا، وتقدَّم لنا في ترجمته تنظيماته لدولة الإسلام، ويأتي في اجتهاده شيء آخر.
وتولى بعده بإجماع من الصحابة عثمان بن عفان الأموي.
فزادت الفتوح شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، وبقي في الخلافة اثنتي عشرة سنة غير عشرة أيام.
وهو الذي عدَّد نسخ القرآن في المصاحف وفرَّقه على عواصم الإسلام كما يأتي، ووقعت حركة ثورية، في شطر أيامه الأخير بسبب جعله الولايات في بني أمية، وظهور بعض الظلم من بعضهم بغير شعور منه لكبر سنه، فتألَّب بنو هاشم ضدهم، كما تألّبت جماعات شريرة سرية من الفرس واليهود حسدوا الإسلام
الذي أخرج أمرهم من يدهم واستولى على ملكهم، وكان رئيسهم عبد الله بن سبأ اليهودي، فاجتمعوا من العراق ومصر بالمدينة، وحاصروه بداره إلى أن قتلوه ظلمًا رحمه الله.
وتولَّى بعده علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة ابنته عليها السلام.
واختلفت عليه الصحابة فثار عليه أولًا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، والتفّوا حولها في البصرة مطالبين بدم عثمان؛ حيث أن قتلته انضمّوا لعلي في جملة من بايعه، فتوجّه علي إلى الكوفة، وجرَّد سيف فأخضعهم وسكَّن فتنتهم، ورجعت عائشة للمدينة، واستشهد طلحة والزبير -رحمهما الله، وكان للكل في ذلك رأي يعذر به، والمجتهد إذا أخطأ كان له أجر واحد.
كما ثار معاوية في الشام مطالبًا بدم عثمان أيضًا، ومعه عمرو بن العاص وكثير من الصحابة، فوقعت وقائع صفين في حدود الشام والعراق، وانجلت عن فوز معاوية وتضعضع علي وحزبه.
وثار عليه الخوارج من حزبه فوقع الانشقاق عليه من أهل جبيشه وشيعته بسبب التحيكم الذي كان معاوية طلبه، وساعده علي بطلب من حزبه، وقبوله التحكيم مع كونه الإمام الشرعي، فشلٌ في السياسة وقبولٌ للخلع حقيقة كما لا يخفى، لذلك لما اجتمع الحكمان في دومة الجندل وهما أبو موسى الأشعري من جهة علي، وعمرو بن العاص من جهة معاوية، أعلن أبو موسى حكمه بعزل علي ومعاوية معًا وتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب طبق ما أعلم به هو عمرو بن العاص في السر، لكن عمرو سكت ولم يصرّح له بقبول ولا ردّ، وإن راجعه أولًا وطلب منه تولية ولده عبد الله، فلم يقبل أبو موسى متعللًا بأنه اشترك معه في حرب صفين، غير أنه لما نطق عمرو بن العاص بحكمه أعلم بعزل علي، ولكن أقر معاوية، وحصل تشاجر بين الحكمين، ثم ذهب عمرو للشام وبايع معاوية
وبايعه الناس، ولم يزل أمره في ازدياد وعصبيته في قوة، وتفرّق أصحاب عليٍّ ثلاث فرق:
فرقة ضده وضد معاوية وهم الخوارج، ينقمون على عليٍّ التحكيم، وعلى عثمان أثرته لأهل بيته بالولايات حتى تسبَّب عن ذلك صيرورة الخلافة إلى ملك وعصبية، وعلى معاوية ما كان له العصبية، ويرون أن الخلافة تكون شوريّة النظر فيها لعقلاء الأمة، لا تتعين في بيت ولا شخص، ولا يعترفون بالسلطة الشخصية، وهؤلاء يردون الأحاديث الورادة من طريق عثمان وعلي ومعاوية ومَنْ كان مِنْ حزبهم، كما يردون أقوالهم في الفقه ولا يعملون إلا بقليل من السنة، ولهم أقوال فقهية ومسائل على مقتضى مبدئهم؛ يجوزن الخروج عن الأئمة لمجرد الفسق، بل يكفرون بالمعاصي. وفرقة شيعة علي المتغالون فيه وفي أهل بيته، حتى وإن منهم من وصفه بالنبوءة، ومنهم من قال بألوهيته، وهؤلاء لا يقبلون إلّا ما ورد عن علي وآل بيته من أحاديث وفقه ويردون سواها، ولهم فقه مخصوص بهم، ووضعوا أحاديث كثيرة تؤيد مذهبهم، وهؤلاء أكثر كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم، وأكثرهم كفار روافض. الفرقة الثالثة: هم الجمهور الذين كانوا مع علي ومعاوية ثم معاوية بعده، وهم الذين تمسّكوا بالسنن الصحيحة، وفضحوا كذب الكذابين، ومحَّصوا الحق وذبُّوا عن الشريعة حتى أبقوها سالمة لم تؤثر عليها خيالات الضالين ولا انتحال المبطلين.
وبقي أمر معاوية يشتد إلى أن قُتِلَ علي في الكوفة غدرًا بعد أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام.
وبويع لولده الحسن سبط الرسول.
ثم تنازل بعد ستة أشهر، واجتمعت الكلمة لمعاوية، وبايعه الكافّة في ريبع الأول سنة إحدى وأربعين، هذا زمن الخلافة التي هي أشبه بجمهورية مؤقتة بوفاة الرئيس الذي قال فيه عليه السلام فيما رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم، عن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا:
"الخلافة ثلاثون سنة ثم ترجع ملكًا"، ثم يقول سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرة، وعثمان اثنتي عشرة سنة، وعلي ستة1.
وروى الدرامي عن أبي عبيدة ومعاذ مرفوعًا: "إن هذا بُدِئ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم ملكًا عاضًّا، ثم يكون جبرية وعتوًّا وفسادًا في الأرض" الحديث2.
وروى أحمد والبيهقي عن النعمان بن بشير مرفوعًا: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله، ثم تكون ملكًا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن كون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث انظر المشكاة وشرحها3.
وقد بقى معاوية ملكًا تعضدة عصبية بني عبد شمس إلى وفاته سنة ستين، مدة عشرين سنة، فهذا زمن خلافة الصحابة، أما زمن وجودهم فيعتبر ممتدًا إلى آخر المائة الأولى، ويأتي إجمال تاريخ بقيته.
1 الترمذي في الفترة "4/ 503"، وقال: حديث حسن، وأبو داود في السنة "4/ 211"، وأحمد في مسنده "2205"، ولم أجده في النسائي.
2 وراه الدرامي في الأشربة من سننه "2/ 39"، عن أبي عبيدة بن الجراح، وروي عن معاذ وابن عباس. انظر مجمع الزوائد "5/ 189".
3 أحمد "4/ 273"، ورواه البزار والطبراني، قال الهيثمي: رجاله ثقات "5/ 189".
الفقه زمن الخلفاء الراشدين:
الخلفاء كان أمرهم شورى بينهم كما أمر الله في القرآن، وكان نظامهم دستوريًّا، ودستورهم الأساسي هو الفقه، فكان الفقه مدار سياستهم وروح حياتهم وبه تدبير ملكهم، وبصيانة الحقوق والوقوف عند حد الشريعة كانت حركة الإسلام سريعة حتى عمَّ لمشارق والمغارب كما سبق.
فكان الفقه زمن الخلافة أعظم مكانة مما هو عليه الحقوق عند الأمم المتمدنة الآن، كان الفقهاء هم أصحاب الشورى، وبيدهم التدبير وزمام كل أمر، ولا يصدر أمر قليل أو جليل إلّا بوفق الشريعة وعلى مقتضى الحق الذي لا مرية فيه، وللأمة منتهى ما يتصور من السيطرة والرقابة على متابعة الخلفاء لنصوص الشريعة وإشارة الفقهاء، وتحري اتباع الحق والواضح، والمحجبة البيضاء، ولم يثبت في تاريخ عربي ولا أجنبي انتفاد منتقد لهم بظلم أو سوء تصرف، بل اعترف الكل بأن عدلهم وحسن سلوكهم وصراحة طريقتهم هي التي أقادت لهم نواصي الأمم حتى ثُلَّت عروش ملوكها وخُرِّبَت دور دولها، لتبنى بها عظمة الإسلام، المتعشقين لعدله ونزاهة حكامه وخلفائه وعفتهم ورفقهم وتمشيهم خلف أوامر شرعهم لا يعدونه، وكانت نصوص الشريعة غضَّة طرية لم يدخلها كثرة التأويلات وتمحلات الفهوم المتكلفة.
كما أن حالة الإسلام الاجتماعية زمن الخلفاء لم يدخلها رفه كبير ولا ميل إلى الشمم والبذخ والملاذ والسفاسف التي ينشأ عنها تشغيب الأحكام وكثرة النوازل التي هي منشوء التأويلات، ولا سيما في زمن الخلفاء الأربعة، وبالخصوص زمن الاثنين الأولين، فإن عمر لما استقضاه أبو بكر مكث سنة لم يحضره خصمان متداعيان.
ولما وفد ذو الكلاع أحد ملوك اليمن على أبي بكر بثياب فخرة وتاج وبرود
وحلي وألف وصيف، ورأى زي أبي بكر ورثاثة ثيابه مع الهيبة التي آتاه الله، نبذ ذلك كله وتشبه بالخليفة، وقضية الهرمزان لما أوفدوه أسيرًا على عمر، فوجده نائمًا في المسجد دون حارس ولا شرطي، وقال له: عدلت فأمنت فنمت. معلومة، ولهذا لم يتغيّر الفقه عن سذاجته كثيرًا إلّا بعد ذلك1.
كان أبو بكر إذا نزلت به نازلة ولم يجدها في صريح كتاب الله أو سنة رسول الله جمع الفقهاء واستشارهم، روى أبو عبيد2، في كتاب "القضاء" عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه شيئًا قضى بها وإلا، فإن علم شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علم نبينا. فإن أعياه جمع رءوس الناس وخيارهم واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة يسأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.
وعن شريح3 أن عمر كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاء ما ليس كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر، ولا أرى التأخير إلّا خيرًا لك4.
وعن عبد لله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإن الله قد قدَّر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض فيه بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاء ما ليس في كتابه الله ولم يقض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقض بما قضى به الصالحون، ولا يقل لي إني خائف وإني أرى، فإن الحرام بيِّنٌ والحلال بيِّنٌ، وبين ذلك أمور متشبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك5. خرج هذه الآثار الدرامي.
وانظر تاريخ الخلفاء تجده مملوءًا بالقضايا الدالة على ما سبق.
1 الساذج معرب: ساده، وهو يقصد بعده عن التكلف، لكن اللفظة غير لائقة.
2 القاسم بن سلام الهروي.
3 ابن الحارث أبو أمية القاضي الكوفي في المشهور.
4 الدرامي "1/ 55".
5 الدارمي: "1/ 54".
تحليق الناس لدرس العلم في المسجد:
إن إلقاء المسائل بحيث يكون واحد يلقي والناس يسمعون على هيئة الدرس قد بدأ في عصر الصحابة، فقد حلّق أبو هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما، كما قال ابن ناجي في ترجمة أبي محمد بن التبان من "معالم الإيمان" رادًّا على ما زعمه ابن التبان المذكور من كون ذلك بدعة بالإجماع، قال: ولا أعرفه "يعني الإجماع" لغيره.
قلت: وأول من قصَّ على الناس تميم الداري في خلافة عمر كما في الإصابة، على أن اجتماع الصحابة على نبي الله في المسجد النبوي كان للفقه والدين، وقد قالت عائشة رضي الله عنها، إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يسرد الحديث كسردكم هذا، ولكن كان يقول كلامًا فاصلًا، وكان يعيد الكلمة ثلاثًا لتفهم عنه، هذا هو المعروف من سيرته عليه السلام في الصحاح وغيرها، نعم المبتدع هو حفظ الدرس والتكلف فيه والتصنع والاحتفال في إلقائه لما فيه من رياء وسمعة وشهوة خفية، وعليه يحمل ما حكاه ابن التبان من الإجماع.
أمثلة من اجتهاد الخلفاء رضي الله عنهم
اجتهاد أبي بكر
…
أمثلة من اجتهاد الخلفاء رضي الله عنهم:
اجتهاج أبي بكر:
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر واستلَّ سيفه وقال: مَنْ قال إن محمدًا قد مات ضربت عنقه، فجاء أبو بكر وخطب قائلًا: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، واستدلّ بالقرآن:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} فزال الخلاف1.
تحيروا فيمن يتولّى أمر المسلمين بعده، حيث لم يوص لأحد بعينه نصًّا، فذهبوا لسقيفة بن ساعدة، فقال الأنصار: منا أمير ومن قريش أمير، فخطب أبو بكر وقال: إنا لا ننكر فضلكم ونصرتكم، ولكن الله قدمنا عليكم، فقال: للمهاجرين والأنصار، وقام عمر وأبو عبيدة واستدلَا على أحقية أبي بكر بالخلافة كتابًا وسنة بما هو معلوم، وبالقياس أيضًا، قالَا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، قاسا إمامة الدنيا على إمامة الدين، وبايعاه فبايعه الناس وزال الخلاف2.
قالوا: أين ندفن رسول الله، فقال أبو بكر في المحل الذي قُبِضَ فيه، واستدلّ على ذلك بالسنة، فأذعنوا وزال الخلاف3.
1 البخاري في فضائل الصديق "5/ 8".
2 نفس المصدر.
3 الترمذي في الجنائز "3/ 329"، عن عائشة، وفي سنده عبد الرحمن بن أبي بكر الميكي، قال الترمذي: يضعف من قبل حفظه، وقال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، فرواه ابن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا.
قلت: رواه ابن ماجه في الجنائز "1/ 520"، وفي سنده الحسين بن عبد الله الهاشمي، ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم وقال النسائي: متروك.
قالوا: كيف نصلي عليه، قال: تدخل كل طائفة وتصلي وتخرج، فأذعنوا وزال الخلاف1.
طلبت مولاتنا فاطمة ميراثها من أبيها، والعباس ميراث ما بقي، فروى أبو بكر وغيره حديث:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة" وحكم بأنه مخصَّص لآية الميراث فزال الخلاف2.
منع فريق من العرب الزكاة فأراد أبو بكر قتالهم، وخالفه عمر، فاستدلّ أبو بكر بقياسهم على من امتنع من الصلاة، فزال الخلاف وقاتلهم وجمع الكلمة3.
قال عمر: نجمع القرآن فخالفه أبو بكر، وقال: شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع لقول عمر لما فيه من المصلحة، ولأن النبي -صلى الله عليه ومسلم- كان يكتب كتابه كل ما ينزل، فغاية ما في جمعه حفظه، فأذعن وزال الخلاف4.
نزلت بأبي بكر نازلة الجدة التي جاءت تسأل ميراثها، فقال لها: لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولكن سأسأل الناس، فخرج وسأل الصحابة: أيكم سمع من رسول الله شيئًا في الجدة؟ فقال المغيرة بن شعبة: نعم، أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس، فقال له: أيعلم ذلك غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صدق، فأعطاها السدس5.
ومن اجتهاده السديد لما حضرته الوفاة أوصى بالخلافة لعمر، وذلك أنه رأى أنه صاحب الحل والعقد، فله أن يولي من ظهرت له أهليته، ذلك على توليته أهل الحل والعقد له نفسه، أو قاسه على رعاية الماشية وحفظ الأمانة، فقد روى
1 ابن ماجه في الجنائز "1/ 520"، وفي سند الحسين بن عبد الله المذكور آنفًا.
2 متفق عليه: البخاري في الخمس "4/ 96"، وفي الفرائض "8/ 185"، ومسلم في الجهاد "5/ 155" وفي الحديث أن فاطمة رضي الله عنها هجرت أبا بكر رضي الله عنه حتى ماتت بسبب هذه المسألة، فقول المؤلف أن الخلاف زال، غير محقق.
3 متفق عليه: البخاري في الزكاة "2/ 131"، ومسلم في الإيمان "1/ 38".
4 البخاري في فضائل القرآن "6/ 225".
5 الترمذي "4/ 419"، وأبو داود "3/ 121"، وابن ماجه "2/ 909".
مسلم عن عبد الله بن عمر أنه دخل على أبيه حين احتضر فقال: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها، أرأيت قد ضيّع، فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي، فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر عملت أنه لم يكن ليعدل برسول الله -صى الله عليه وسلم- أحدًا، وأنه غير مستخلف1.
فابن عمر كأبي بكر قاس رعاية الناس على رعاية الغنم والإبل، لكن عمر فرّق ببيهما بما رأيت، ورأى أن النبي عليه السلام لما لم يستخلف، ففي الأمر سعة، فقدَّم السنة على القياس.
ولا يقال: إن هذا ليس بقول ولا فعل ولا تقرير حتى يقال فيه سنة، لأنا نقول: إن بعض الأصوليين يقول: إن الترك هو من قبيل الفعل، على أنه إنما استدلَّ بالترك على جواز الترك، وأن ما دلَّ عليه القياس من الوجوب غير لازم، وأن فعل أبي بكر إنما كان اختيارًا لأحد شقي الجائز لمصلحة رآها والله أعلم.
1 مسلم في الإمارة "6/ 5".
اجتهاد عمر
مدخل
…
اجتهاد عمر:
وكان عمر كأبي بكر يجمع علماء الصحابة الماهرين في النوازل ويستشيرهم ويأخذ بمرويهم، فإن لم يجد فبرأي أغلبهم؛ لأن ديننا منبيٌّ على الشورى، قال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2 ففي البخاري أن القراء كانوا أصحاب مجالس عمر ومشارواته، كهولًا كانوا أو شبابًا، وأن الحر بن قيس كان منهم3.
وفي مسلم أن نافع بن الحارث، يعني: الخزاعي، لقي عمر بعسفان، وكان عمر
1 آل عمران: 159.
2 الشورى: 38.
3 البخاري في تفسير الأعراف: "6/ 76".
يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى.
قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب اقوامًا ويضع به آخرين"1.
ولا تظن أن القرّاء كقراء زماننا يحفظون وقلما يفهمون، فكيف يجتهدون، بل كانوا أهل اللسان، ومعرفة باللغة غريزية، فيفهمون من مغامز القرآن ما لا يفهمه أمهر علماء الوقت.
فمن آراء عمر في صلاة تروايح رمضان، وليس له فيها إلّا جمع الناس عليها في المسجد بإمام واحد، وإلّا فالنبي صلى الله عليه وسلم حضَّ على قيام رمضان بقوله:"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه" 2، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقومه في المسجد، فلما رآهم اجتمعوا عليه خاف أن يفرض عليهم، فلم يعد للخروج إليهم، ولما أمن ذلك بموته عليه السلام ندبهم عمر إلى الاجتماع، فليست بدعة شرعية بل لغوية فقط3.
ومن مجتهداته مسائل ميراث الجد، والعول، وضرب الجزية على أهل السواد بأرض الفرس، وتنظيم بيت المال للمسلمين، وتدوين الدواوين، وجعل التاريخ من الهجرة، ومثل هذين أخذهما عن الروم والفرس، لما كان له من الفكر الواسع فلم يكن يأنف من أخذ ما فيه مصلحة عن غيره من الأمم، ولو كانت كافرة، وجعل الأرزاق للجند على اختلاف4 مراتبهم في السابقية، وجليل
1 مسلم في فضائل القرآن "2/ 201".
2 متفق عليه: البخاري في الإيمان "1/ 17"، ومسلم في صلاة المسافرين "2/ 176".
3 فعل عمر في صلاة التروايح، أخرجه البخاري في الصوم، باب فضل من قام رمضان "3/ 85"، ومالك في الموطأ في كتاب الصلاة في رمضان.
4 قال المؤلف رحمه الله: مخالفًا في ذلك ما رآه أبو بكر من التسوية فيه محتجًّا بأنه لا يجعل العطاء ثمنًا لأعمالهم التي عملوها لله، وقال عمر: والله الذي لا إله إلا هو، ما أجد أحدًا إلّا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أجد أحق به من أحد إلّّّّّا عبد مملوك، وما أنا إلّا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل وتلاده في الإسلام، والرجل وغناءوه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، فرتَّب العطاء لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكل واحدة اثنا عشر ألف درهم في السنة، ومثلها العباس، ثم =
الأعمال، إلى غير هذا، كل ذلك كان يستشير فيه أعلام الصحابة ويطبقه على نصوص القرآن والسنة والاستنباط، فما اتفق عليه جمهورهم أمضاه، وصار فقهًا مسلمًا، فيحفظه من حضر ويبلغه لمن غاب.
أمثله ذلك:
روى أبو بكر بن أبي شيبة1 عن رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليَّ به. فجاء زيد فلما رآه عمر قال: أي عدو نفسه، قد بلغت أن تفتي الناس برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، ولكن سمعت من أعمامي حديثًا فحدَّثت به من أبي أيوب، ومن أُبَيّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليَّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل؟ قال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه عن رسول الله شيء، فقال عمر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: ما أدري.
فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا وشاروهم فأشار الناس أن لا غسل إلّا ما كان من معاذ وعلي، فإنهما قال: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فقال عمر: هذا وأنتم من أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافًا، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد أعلم بهذا من شان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك إلّا أوجعته ضربًا.
صح من الجزء الأول عدد 24 أعلام الموقعين2.
=لمن شهد بدرًا خمسة آلاف، وألحق بهم الحسن والحسين، وأربعة آلاف لمن لم يشهدها، وكان أسلم إذا ذاك، وألحق بهم أسامة بن زيد حب رسول الله، وابن حبه، وثلاثة آلاف لأبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة، وابن عمر وطبقتهما، ألفين لمن دونهم، وثمامائة لأهل مكة، وأربعمائة إلى ثلاثمائة لسائر الناس، ولنساء المهاجرين والأنصار من ستمائة إلى مائتين، وفرض لأمراء الجيش وحكام القرى من سبعة آلاف إلى تسعة آلاف، وفرض للصبيان من عشرة إلى مائتين على اختلاف أسنانهم، وأبلغ رزق معاوية إلى ألف دينار في السنة أكثر من رزق الخليفة نفسه، لما رأى من المصلحة في ذلك.
1 أخرجه أحمد في مسنده "5/ 115"، والطحاوي في معاني الآثار "1/ 35"، وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر في سنن الترمذي "1/ 187".
2 "1/ 56" ط. الكليات الأزهرية 1388 هـ.
أعمال عمر في تنظيم المالية:
كان عمر لما فتحت العراق وغيرها، رأى أن لا يقسِّم الأرض بين الفاتحين غنيمة، بل يجعلها وقفًا قائلًا لهم: كيف بمن يأتي من المسلمين يجد الأرض قد قسِّمت وورثت عن الآباء ما هذا برأي. يعني: والله تعالى يقول في بيان من يأخذ الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية2.
ولا يتصور بقاء شيء لمن يأتي بعدهم إذا قسمت الأرض على الغانمين، فأكثروا عليه وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء قوم ولأبناء أبنائهم لم يحضروا.
وقال عبد الرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج الذين بها إلّا ما أفاء الله على المسلمين، يعني: فهي داخلة في مفهوم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية3. فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك.
فقالوا: استشر، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا، فقال ابن عوف: تُقسم كما سبق، وقال عثمان، وعلي وطلحة وابن عمر: توقف. فأرسل إلى عشرة
1 الحشر:" 8.
2 الأنفال: 41.
من الأنصار، خمسة أوس وخمسة خزرج، من كبرئهم وأشرافهم، وقال لهم: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي معكم من كتاب الله ينطق بالحق، فوالله إن كنت نطقت بأمر أريده، ما أريد به إلا الحق.
قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين، قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقتسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بُدَّ لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بُدَّ لها أن لا تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضين والعلوج.
فقالوا جميعًا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
فقال: قد بان لي الأمر، وقرّر إبقاء الأرض بأيدي أهلها وضرب الخراج عليهم.
وهذا من سداد الرأي، وقد سكت المخالفون اتباعًا للرأي الغالب، وعند ذلك نفَّذ رأيه، فوجَّه مندوبين من قبله مسحا أرض السواد فبلغت "36000000" ستة وثلاثين مليونًا جريبًا، وظَّف عليها الخراج مقادير معينة من الدراهم والأطعمة حسبما رآه المندوبان، من درهمين إلى عشرة دراهم على الجريب، فجريب الشعير درهمان، وجريب الكرم والنخل عشرة دراهم، وفي رواية ثمانية فقط، وجريب الحنطة أربعة دراهم أو درهم وقفيز، وجريب الخضر ثلاثة، وجريب الرطبة والسمسم والقطن خمسة دراهم، وجريب القصب يعني قصب السكر
ستة دراهم، وقد بلغت جباية السواد قبل وفاة عمر بعام مائة مليون درهمًا، وهذا من رأيه الصائب، انظر كتاب الخراج لأبي يوسف، والجريب ستون ذراعًا بذراع الملك في مثلها.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إن ذراع الملك يزيد على الذراع السوداء بخمس أصابع وثلثي إصبع، فتكون ذراعًا وثمنًا وعشرًا، وعليه فيكون الجريب نحو: اثني عشر مائة مترًا مربعًا، وبهذا تعلم أن ما كان يؤدى على الأرضين غير مجحف ولا مضرٍّ بأهلها1.
ومن اجتهاد عمر أنه كتب إليه أبو موسى الأشعري أن تجارًا من قِبَلِنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحسابه، وروي أن منبج قوم من أهل الحرب وراء البحر كتبوا إلى عمر: دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا.
فشاور عمر الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه به، فكانوا أوّل من عُشِّر من أهل الحرب، وبعث زياد بن جدير الأسدي على عشور العراق والشام، فصار ذلك سنَّة في المرور بأموال التجارة خاصة، وما يرد منها من الحرب وأهل الذمة سبيله سبيل الخراج، أما ما يرد من المسلمين فسبيله سبيل الصدقات، ولذلك إذا قال المسلم: قد أديت زكاة هذا المال الذي في يدي، صُدِّق بيمينه2.
هذا ما أحثه عمر في نظام المالية عن احتهاد موفق.
1 راجع في هذا الموضع، الخراج لأبي يوسف، الأموال لأبي عبيد، الخراج للدكتور محمد ضياء الدين الريس، منهج عمر بن الخطاب في التشريع للدكتور محمد بلتاجي.
2 الخراج لابي يوسف "69"، والأموال لأبي عبيد "534".
عمله في القضاء:
كان عمر من أنفذ الصحابة بصيرة في الفقه والاجتهاد في القضاء، موفقًا مسددًا، أو هو أمهر مجتهدي الأمة وأكثرهم توفيقًا وتسديدًا، ومن فقهه العظيم كتابه إلى أبي موسى الأشعري وهو قاضٍ من قِبَلِه في البصرة ونصه:
"أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، آس بين1، 2 الناس في وجهك وعدلك ومجلسك3، 4، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادَّعى5، 6، واليمن على من أمكر.
والصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا7، 8، ولا يمنعك قضاء قضيت9، 10 بالأمس فراجعت فيه عقلك وهُدِيت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل11، 12.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أشبهها بالحق.
1، 2 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين بإسقاط لفظ: بين.
3، 4 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين: في مجلسك ووجهك وقضائك.
5، 6 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين: على المدعي.
7، 8 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين بعد قوله: حلالًا: ومن ادعى حقًّا.
غائبًا أو بينة، فاضرب له أبلغ في العذر وأجلى للعلماء، ولا يمنعك.. إلخ.
9، 10 قال المؤلف رحمه الله: لفظ الإعلام. قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه، فإن الحق قديم لا يبلطه شيء ومراجعة الحق
…
إلخ.
11، 12 قال المؤلف رحمه الله: لفظ الإعلام بعد قوله في الباطل: والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربًا عيله شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنينًا في ولاء أو قربة، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلّا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والنكر عند الخصومة أو الخصوم "شك أبو عبيد يعني روايه" فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شأنه الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلّا ما كان خالصًا، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله. قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر. قال: لا.
واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلّا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعماء.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالأيمان والبينات.
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحَّت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله، فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام. بنقل القاضي الباقلاني في إعجاز القرآن1.
وهذا الكتاب كافٍ في معرفة سعة مدارك عمر في الفقه والتشريع وأحكام الضوابط، وفيه التنصيص على أصول مهمة كقياس الشبه، وتقديم الكتاب على السنة، ثم هي على الرأي، ولذلك خصّ بالشرح، وشرحه في أعلام الموقعين بنحو ثلاثة أسفار فانظره تر ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استنبطت كيفية القضاء وأحكامه، قال في أعلام الموقعين: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه عليه.
وتقدَّم نصّ ما كتب به إلى قاضيه بالكوفة شريح، كما تقدَّم لنا زيادته في حد الخمر، مما يدل على أنه لم يكن يرى أن كل شيء تعبدي، ولا يستحسن الجمود في الأحكام، بل يتبع المصالح وينظر للمعاني التي هي مناط التشريع رضي الله عنه، وقد أسلفنا في ترجمته تنظيمات وأعمالًا أخرى لهذا الخليفة العظيم، وبالجملة فعمر سيد أهل الفقه والاجتهاد والتقوى في هذه الأمة، ولم يلحقه في ذلك أحد.
قال ابن خلكان في ترجمة الثوري: يقال كان عمر في زمانة رأس الناس، وبعده عبد الله بن عباس في زمانه، وبعده الشعبي، وبعده سفيان الثوري. ومع هذا
1 أخرجه الدراقطني من طريقين في سننه "4/ 206".
كله فقد كان أكثر الناس إنصافًا لمن هو دونه، وأكثر المفتين والأمراء انقيادًا للحق علي أي لسان ظهر، لا يستنكف من إظهار الإنصاف واعتراف بالقصور، وهو في الحقيقة كمال وفضل، وانصياع للحق، فقد خفي عليه توريث الزوجة من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن سفين الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يورِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها1.
وخفي عليه أن المجوس تكون لهم ذمة، وتؤخذ منهم الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر2.
وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض، فكان يردّهن حتي يطهرن ثم يطفن، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع3، وكان يفاضل بين الأصابع في الدية حتى بلغته السنة بالتسوية فرجع إليها4، وكان ينهى عن متعة الحج ثم رجع لما بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها5.
وأعجب من هذا أنه نهى عن التسمّي بأسماء الأنبياء، مع أن محمد بن مسلمة من أشهر الصحابة، وأبا أيوب وأبا موسى، حتى أخبره طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فرجع6.
ومثل ذلك ما وقع فيه في الوفاة النبوية في قوله: من قال إن محمدًا قد مات ضربت عنقه، ولما سمع من أبي بكر تلاوة قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} الآية قال: والله كأني ما سمعتها7.
1 أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح "4/ 426".
2 سبق تخريجه.
3 في فتح الباري "3/ 380" ما يفيد أنه رضي الله عنه لم يرجع عن رأيه في هذه المسألة، إنما الذي ثبت رجوعه ابنه عبد الله.
4 انظر نيل الأوطار "7/ 75".
5 ادّعاء المؤلف أن عمر رضي الله عنه رجع عن نهيه من متعة الحج غير محرر، انظر التعليق.
6 لم أجد هذا الأثر، لكن في مجمع الزوائد "8/ 48" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن محمد بن طلحة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه محمدًا.
"7 حديث عائشة في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه في المغازي "6/ 17"، وليس فيه ذكر مقالة عمر هذه، وأخرجه ابن ماجه "1/ 520"، وأحمد "6/ 220"، وفي روايتهما أنه رضي الله عنه قال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم.
ومنع من زيادة المهور على خمسمائة درهم صدقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، حتى احتجّت عليه امرأة بقوله تعالى:{وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية. قال: كل أحد أفقه منك يا عمر حتى النساء1، فهذا عمر الذي وافق ربه في بضعة عشر موضعًا، وهو سيد الفقهاء والمجتهدين، وهو من المحدثين الملهمين، وقع له مثل هذا ولا غضاضة عليه في ذلك.
ومع إنصافه مَنْ دونه لا يعظم امرؤ أمامه في الحق، فإنه يواجهه به ولا يبالي، ففي الصحيح أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فجلس، فقال له: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: ما هو إلّا أن سمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال له: والوضوء أيضًا، ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل يوم الجمعة2، فلم تمنعه جلالة عثمان الذي هو أجلّ الناس بعده إذ ذاك من الإنكار عليه على رءوس الأشهاد.
ومع علمه الواسع خرج من الدنيا وهو يشكو جهل ثلاثة أحكام، ويتمنى أن لو عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ميراث الجد، والكلالة، وأبواب من الربا، والحديث في الصحيح وقد خطب بذلك على الملأ قبيل وفاته رحمه الله3.
1 أما نهي عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور فروه أبو داود "2/ 235"، والترمذي "3/ 413"، والنسائي "6/ 96"، وابن ماجة "1/ 706" وأحمد "1/ 40، 48"، كلهم عن أبي العجفاء السلمي قيل اسمه هرم بن نسيب، وثقه ابن حبان والدراقطني، وقال البخاري: في حديثه نظر، قلت: ورواه أيضًا الحاكم عن سعيد بين المسيب. المستدرك "3/ 175"، أما زيادة إنكار المرأة على عمرو احتجاجها بآية النساء فرواها الخطيب البغدادي بإسناده عن مسروق بن الأجدع. الفقه والمتفقه "1/ 141، 142 " ط. دار إحياء النبوية "1395هـ" وذكرها القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} "5/ 99".
2 متفق عليه: البخاري "2/ 2"، ومسلم "3/ 2".
3 مسلم في الفرائض "5/ 61".
اجتهاد عليٍّ رضي الله عنه
1:
تقدَّمت لنا بعض أحكام وفتاو وقعت منه في الزمن النبوي واستصوبها عليه السلام، وكفى دليلًا على موفقيته في الاجتهاد، شهادته له عليه السلام بقوله:"أقضاكم عليّ" 1، ومن قضاياه الشهيرة عند الفقهاء ذكرها الزرقاني في الفرائض في الفريضة المنبرية أنه كان على المنبر يخطب وهو ييقول: الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعًا، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المعاد والرجعى.
فوقف سائل وقال: زوجة وأبوان وابنتان، كيف نقسم التركة؟ فأجاب على البديهة: صار ثمنها تسعًا، في محفله العظيم من غير تأمل ولا تردد، ثم استرسل في خطابه. وقضاياه كثيرة، وكم من قضية ردَّ فيها على عمر بن الخطاب فيرجع لرأيه إنصافًا ووقوفًا مع الحق، وبعض ذلك مذكرو في كتاب "الطرق الحكمية" لابن القيم فانظره، ومنها قضية المجنونة التي أمر عمر برجمها لأنها وضعت لستة أشهر، فردَّ عليه عليٌّ وقال: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} 2 وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3 فيؤخذ منها معًا أن أقلَّ الحمل ستة أشهر، وقال له: إن الله رفع القلم عن المجنون. فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر، وأصلها في الصحيح، فهو أول من تفطّن لدلالة الاقتران وهو الجمع بين الدليلين واستخراج مدلولٍ من مجموعهما لا يدل عليه الواحد منهما بانفراده، ولذا كان لا يمضي أمرًا في المسائل ذات الشأن إلّا بعد مشاورته لما هو معروف من باعه وغزارة علمه.
ومن اجتهاده ما رواه حمَّاد بن سلمة عن حميد بن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة وأراد سفرًا، فأخذه أهل امرأته فجعلها طالقًا إن لم يبعث نفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلمَّا قدم خاصموه إلى عليّ فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردَّها عليه4. فظاهر الأثر أنه كان يحكم
1 كان ينبغي تقديم اجتهاد عثمان رضي الله عنه لسلك الجادة.
2 سبق تخريجه.
3 الأحقاف: 15.
3 البقرة: 233، وقضية المجنونة أخرجها البخاري تعليقًا "8/ 852"، ومالك من بلاغاته في الموطأ "2/ 825".
4 انظر أعلام الموقعين "4/ 98".
بعدم لزوم الطلاق لمن حلف أو عاقد على شرط، وبه تمسّك الظاهرية وبعض الحنابلة، قال ابن حزم في "المحلى": اليمين بالطلاق لا يلزم سواء برَّ أو حنث، ولا يقع به طلاق إلّا كما أمر الله، ولا يمين إلّا كما شرع الله تبارك وتعالى على لسان رسوله.
قال: فهؤلاء علي بن أبي طالب، ولا يعلم له مخالف من الصحابة، وشريح1، وطاووس2، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه عنهما، لا يقضون بالطلاق على من حلف فحنث3، قال في "أعلام الموقعين": وممن روي عنه ذلك عكرمة مولى ابن عباس4.
قال: ومن تأمَّل المنقول عن السلف وجد منه ما هو صريح في عدم وقوع الطلاق، وهو عكرمة، وطاووس، وظاهر فقط وهو المنقول عن عليّ وشريح، وصريح في التوقف وهو ابن عيينة5، وأما الصريح في الوقوع فلا يؤثر عن صحابي واحد إلّا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط كالمنقول عن أبي ذر، بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق، ولهذا ذهب إليه أبو ثور6.
وقال: القياس أن الطلاق مثله إلّا أن تجتمع الأمة عليه، فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع، قال: وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق، وهو ظنهم أن الإجماع على الوقوع مع اعترافهم أنه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضي الوقوع، ثم أطال في تقوية ذلك فانظره في عدد "366" من السفر الأخير7.
قلت: أثر علي الذي ذكره معلوم، فإن حمَّاد بن سلمة لم يحتج به البخاري، وحميد والحسن مدلسان، ومراسيل الحسن كالريح فهو ضعيف، وحجة جمهور الأئمة القياس الصحيح على اليمين، وأن من التزم شيئًا منها لزمه كالإقرار، والطلاق تعلّق به حق المرأة كي تزول عنه سيطرة الرجل، فقياس الطلاق على
1 ابن الحارث أبو أمنة القاضي الكوفي.
2 ابن كيسان.
3 أعلام الموقعين "4/ 98".
4.
... البربري أبو عبد الله المدني.
5 سفيان.
6 إبراهيم بن خالد أبو ثور البغدادي.
7 "4/ 98".
اليمن، وعلى الإقرار صحيح خلافًا لابن القيم والله أعلم. وأما قول ابن القيم: إنه لا يؤثر عن صحابي، فيرده ما في الموطأ في ما جاء في يمين الرجل بطلاق ما لم ينكح بلاغًا عن عمر وابنه وابن مسعود إذا حلف الرجل بطلاق امراة قبل أن ينكحها، ثم أثم أن ذلك لازم له إذا نكحها1.
فيفهم منه أنه إذا كان نكحها يلزمه اليمين، من باب أحرى إلّا على رأي ابن حزم الذي ينكر القياس الأحروي، وهو غاية الشذوذ، وابن القيم نفسه من المنكرين عليه، قال القفال2 موجهًا قول الشافعي: إن أقوال الخلفاء حجة إلّا عليًّا؛ لأنه لما آل إليه الأمر خرج إلى الكوفة، ومات كثير من الصحابة الذين كان الثلاثة يستشيرونهم، كما فعل الصديق في مسألة الجدة، وعمر في مسألة الطاعون، فكان قول كل من الثلاثة قول كثير من الصحابة يخلف علي. نقله المحلي3 في مبحث قول الصحابي.
1 الموطأ في كتاب الطلاق "2/ 584"
2 لعله محمد بن علي الشاشي أبو بكر القفال.
3 جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي. شارح جمع الجوامع في الأصول.
اجتهاد عثمان رضي الله عنه:
كان عثمان ذا قدم راسخة في الاجتهاد والفتوى، وقضاياه أيضًا مشهورة في الصحاح وغيرها.
فهو الذي رأى جمع الناس على مصحف واحد بحرف واحد وترتيب واحد، وترك بقية الحروف السبعة سدًّا للذريعة وتوحيدًا للكلمة وقطعًا للنزاع في القرآن1، فوقع إجماعهم على ذلك، ثم عدَّد منه نسخًا وفرقه في عواصم الإسلام، وحرق ما سواه إلّا مصحف ابن مسعود، أبى حرقه، فأغضى عنه فتركه الناس بعد2.
وهو الذي امر بزكاة الدين على منبر، فانقعد الإجماع السكوتي على ذلك، والقصة في الموطأ3، وهي الأصل الذي اعتمد الفقهاء في زكاة الديون.
وكان أعلم الصحابة بالمناسك، وكان ابن عمر بعده في ذلك، وهو الذي رأى توريث المبتوتة في مرض الموت معاملة للزوج الذي بتها بنقيض قصده فوافقه الصحابة4.
ومن فتاويه ما رواه مالك أن ضوال الإبل كانت في زمن عمر إبلًا مرسلة تناتج لا يمسها أحد5. لحديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني، أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرفها سنة، ثم أعرف عفاصها ووكاءها، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه" فقال: فضالة الغنم؟ قال: "خذها فإنما هي
1 لم يترك عثمان رضي الله عنه شيئًا من الأحراف السبعة الثابتة في العرضة الأخيرة، وما ذكره المؤلف وإن كان قد ذهب إليه عدد من الأئمة إلّا أنه باطل، انظر التعليق المتقدم.
2 سبقت الإشارة إلى معارضة ابن مسعود لمشروع العثماني وتحقيق المسألة.
3 الموطأ "1/ 253".
4 الموطأ في كتاب الطلاق "2/ 571".
5 الموطأ في الأقضية "2/ 759".
لك أو لأخيك أو للذئب" ، قال: فضالة الإبل؟ فقال: "مالك ولها معها حذاؤها حتى يلقاها ربها" حتى إذا كان زمن عثمان أمر بمعرفتها وتعريفها ثم تباع، فإن جاء صاحبها أعطي ثمنها1.
وهذا أخذ منه بالمصالح المرسلة، مع أنها في مقابلة النص السابق؛ لأنه رأى الناس مدوا أيديهم إلى ضوال الإبل، فجعل راعيًا يجمعها ثم تباع بالمصلحة المرسلة العامة، وهذا من حجج مالك في ذلك، على أن مالكًا لا يأخذ بها مع وجود نص يخالفها.
ومن فتاويه أن تقصير الصلاة أيام الحج ليس من النسك بل هو لأجل السفر، فمن كان متأهلًا بمكة فلا قصر عليه، فكان عثمان يتمم الصلاة لما له من الأهل بمكة، وخالف في ذلك رأي من قبله من الخلفاء2.
وله فتاوٍ وآراء في الاجتهاد كثيرة، وكيف لا وهو من الخلفاء الذين قال فيهم عليه السلام:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي" الحديث3، وإن كان عثمان لم يكن من المكثرين فقهًا ولا تحديثًا، لكنه ذو سداد في الاجتهاد، وترجمته شهيرة رضي الله عنه، وقد يجمع الصحابة ويشاورهم في الأمور الهامة، فقد استشار عليًّا في حد الوليد لما شهدوا عليه بالشرب بحده أربعين4، وقضاؤه في بعض الأمر دون شورى هو الذي كان من جملة أسباب الثورة ضده كما يُعْلَم من التاريخ، وتقديم عليّ -كرم الله وجهه- في الفقه عليه لا يلزم منه التقديم في غيره، فتلك مزية لا تقتضي التفضيل.
وقد اشتهر في زمن الخلفاء عدد من الصحابة بل والتابعين بالفقه والافتاء:
1 حديث زبد بن خالد الجهني: متفق عليه، البخاري "3/ 163"، ومسلم "5/ 133".
2 رواه أحمد في مسنده "1/ 62"، وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم، انظر تعليق الشيخ أحمد بن شاكر على المسند "1/ 443" ط. دار المعارف، ونيل الأوطار "3/ 211".
3 أبو داود "4/ 201"، والترمذي "5/ 44"، وابن ماجة "1/ 16".
4 الذي استشار عليًّا في حد الخمر هو عمر رضي الله عنه، كما جاء في الموطأ "2/ 842"، أما حد الوليد بن عقبة ففي مسلم "5/ 126"، وفيه: أن عثمان أمر عليًّا أن يجلده، وليس فيه أنه استشاره، فجلده عليّ أربعين.
من اشتهر بالفتية من الصحابة والتابعين، زمن الخلفاء:
ترجمة عائشة، وحفصة:
فمنهم عائشة الصديقية:
بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلم نساء الأمة التي روت لنا شطر الدين، ملأت فتاويها كتب الصحاح، بل العالم الإسلامي شرقًا وغربًا.
وكان كبار الصحابة وأعلامهم يستفتونها ويرجعون لرأيها، وكانت تناظر علماءههم وترد عليهم، فكم من مرة ردَّت على أبي هريرة وعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم، ولم لا، وهي أحب أزواج الرسول إلى الرسول، حضرته سفرًا وحضرًا، بل شاهدت وعلمت ما لم يطَّلع عليه غيرها، وكان لها الرأي الصائب في الفتوى والاستنباط، حافظة لأشعار العرب وأيامهم.
وقد قال فيها عروة بن الزبير: لم يكن أحد أعلم بقضاء ولا فرائض ولا بأيام الجاهلية، ولا بطب ولا شعر من عائشة رضي الله عنها.
وهي أحد المكثرين للحديث النبوي، جاوزوا الألف العارفين بالسنة والفقه. وترجمتها واسعة لا يسعها هذا المحل، توفيت سنة "57" سبع وخمسين، ولاشتهار فتاويها زمن الخلفاء وإحرازهم لمقامٍ عظيم زينا هذا العصر بترجمتها، وإلا فهي بالعصر قبله أحق1.
حفصة بنت عمر بن الخطاب:
أم المؤمنين رضي الله عنها، لها نحو ستين حديثًا ترويها عن زوجها الرسول عليه السلام، ولها فتاوٍ مذكورة في كتب الحديث، ومن اجتهادها ما في صحيح مسلم عن أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار
1 عائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق: الكنية أم المؤمنين، أم عبد الله، التيمية: الثقات "3/ 323"، أسد الغابة "7/ 188"، أعلام النساء "3/ 9"، والاستيعاب "4/ 1881"، الإصابة "8/ 16"، تجريد أسماء الصحابة "2/ 286"، تقريب التهذيب "2/ 606"، تهذيب الكمال "3/ 387"، حلية الأولياء "2/ 43"، طبقات ابن سعد "8/ 39"، والنجوم "1/ 150".
إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد" قالت: بلى يا رسول الله، فانتهزها، فقالت: "وإن منكم إلا واردها" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} " 1، تمسكت بعموم الوعيد فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المخصَّص وهو إرشاد إلى أصل مذهب أهل السنة، وأن عمومات الوعيد مخصَّصة خلافًا للمعتزلة.
كانت صوامة قوامة، كما قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين طلَّقها وأمره برجعتها فردها2، وهي التي ائتمنها عمر على المصحف حين حضرته الوفاة، توفِّيت سنة إحدى وأربعين، وكانت كاتبة قارئة، ولها مصحف رضي الله عنها غير المصحف المذكور3.
1 مريم: 72، والحديث أخرجه مسلم في فضائل أصحاب الشجرة "7/ 169".
2 سبق تخريجه.
3 حفصة بنت عمر بن الخطاب: ترجمة حفصة في: الإصابة "7/ 581"، والاستيعاب "4/ 811"، وأسد الغابة "5/ 435".
ترجمة أنس، أبي هريرة:
أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري:
خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البخاري أنه شهد خيبر وهو مراهق، وشهد ما بعدها، وهو أحد المكثرين الذين تجاوزت أحاديثهم الألف، من حفّاظ الصحابة وأعلامهم، وكيف لا يكون كذلك وقد خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين في زمن التعليم؛ إذ كان ساعة استخدامه ابن عشر سنين، مات سنة تسعين أو بعدها، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة1.
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر:
أسلم عام خيبر، وفيه هاجر، وشهدها، من أعلام الصحابة الذين حفظوا سنة رسول الله وشريعة الإسلام، له خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، فهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، قال البخاري:
1 أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري: ترجمة أنس في الإصابة "1/ 126"، والاستيعاب "1/ 108"، وأسد الغابة "1/ 127".
روى عنه من الثقات الحفاظ ثمانمائة نفس، فانتشر حديثه؛ إذ كان غالب مقامه بالمدينة، وكان مقصد الطلاب من الآفاق، ونقل عن أبي هريرة فتاوٍ وأحكام مذكورة في كتب الحديث والسير، فهو معدود من المفتين والفقهاء، وإن لم يكن مكثرًا في الفقه بل في الرواية، خلافًا لمن زعم من الحنفية أنه ليس من الفقهاء، ولا يضر الشمس أن لا يراها عليل.
وكان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة إذا عنَّ له سفر، توفي سنة "59" تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة1.
1 أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر: ترجمة أبي هريرة في الإصابة "4/ 316"، والاستيعاب "4/ 176"، وأسد الغابة "5/ 315"، والمغني "6365".
ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص السهميّ القرشي:
أسلم قبل أبيه، وكان من عبّاد الصحابة وعلمائهم وحفاظهم، له سبعمائة حديث، وقد ضاع كثير من علمه بمقامه بمصر التي لم تكن دار طلب العلم إذ ذاك، مع اشتغاله بالسياسة مع أبيه، وما دخلت السياسة في شيء إلّا أفسدته، قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فالقه فاسأله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا. الحديث في الصحيحين1.
وعن أبي هريرة: إني أكثرهم حديثًا إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب2. توفي سنة "65" خمس وستين3.
1 متفق عليه: البخاري ط1/ 36"، ومسلم، واللفظ له "8/ 60".
2 سبق تخريجه.
3 عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي: طبقات ابن سعد "2/ 373"، "4/ 261"، "7/ 494"، التاريخ الكبير "5/ 5"، المعرفة والتاريخ "1/ 251"، والجرح والتعديل "5/ 116"، والمستدرك "3/ 525"، الحلية "1/ 283"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 281"، تاريخ الإسلام "3/ 37"، تذكرة الحفاظ "1/ 39"، تهذيب التهذيب "2/ 169".
ترجمة أبي أيوب، أم المؤمنين ميمونة، سعد بن أبي وقاص:
أبو أيوب الأنصاري الخزرجي النجاري:
عقبي بدري، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبداره نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إلى أن بني منزله الشريف، وكان يأكل طعامه. له فتاوٍ وأقوال فقهية، معدود من أعلام الصحابة ومفتيهم، ورى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسين حديثًا، وتوفي سنة "52" اثنين وخمسين، ودفن خارج القسطنطينية غازيًا، وقبره بها معروف بهذا العهد1.
أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية:
آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وفيها نزلت:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} .2 الآية، وهي التي عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، كما في الصحيح، فقيل: إن ذلك خصوصية له، وقيل له ولغيره، مزيد كلام في الموضوع، توفيت سنة نيف وأربعين، وقيل غير ذلك3.
سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي:
سابع سبعة في الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد قواد الإسلام وفوارسه المشهورين، وبطل القادسية، مبيد دولة الفرس، ومؤس الكوفة وفاتح العراق، هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد بدرًا وما بعدها، لها مائتا حديث وخمسة عشر حديثًا، وهو أحد الستة الذين جعل عمر الخلافة شوى بينهم، توفي سنة خمس وخمسين بعد ما كان اعتزل الفتنة في بيته مدة حرب علي ومعاوية4.
1 أبو أيوب الأنصاري الخزرجي النجاري: في الإصابة "7/ 26"، والاستيعاب "4/ 1606"، وأسد الغابة "5/ 143".
2 الأحزاب: 50.
3 أم المؤمنين: ميمونة بنت الحارث الهلالية: الإصابة "8/ 126"، والاستيعاب "4/ 1914"، وأسد الغابة "5/ 550".
4 سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي: الإصابة "3/ 88"، والاستيعاب "2/ 606"، وأسد الغابة "2/ 290".
ترجمة سعيد بن زيد، الزبير بن العوام:
سعيد بن زيد العدوي القرشي:
ابن عم عمر بن الخطاب وصهره على أخته، كما أن عمر صهره على أخته، أسلم قبل عمر، وهو سبب إسلام عمر، فقد أسلم في بيته، كان من المهاجرين الأولين، لم يشهد بدرًا، ولكن ضُرِبَ له بسهم فيها، وشهد ما بعدها، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولم يدخله عمر في ستة الشورى الذين جعل الخلافة بينهم لقرابته منه، كما رواه الطبري، أراد أن لا تصير الخلافة وراثية، بل تبقى شورية انتخابية بتمام الحرية، توفي سنة نيف وخمسين1.
الزبير بن العوام الأسدي القرشي:
حواريّ النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمته، أحد العشرة المبشرين بالجنة، هاجر الهجرتين، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أوّل من سلَّ سيفًا في سبيل الله.
والحواريون في الإسلام اثنا عشر رجلًا وهم: حمزة، وجعفر بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون، والعشرة ما عد سعيد بن زيد، والزبير أحد لستة الذين جعل عمر الخلافة شورى بينهم، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهو أحد المحظوظين، والأغنياء المشهورين الذين نفعوا الإسلام بمالهم وأمانتهم وصدقاتهم وبرهم.
له ثمانية وثلاثون حديثًا، توفى سنة "36" ست وثلاثين غدرًا بوادي السباع قرب البصرة، زمن حرب علي وعائشة2.
1 سعيد بن زيد العدوي القرشي: الإصابة "3/ 103"، والاستيعاب "2/ 614"، وأسد الغابة "2/ 306".
2 الزبير بن العوام الأسدي القرشي: الإصابة "2/ 553"، والاستيعاب "2/ 510"، وأسد الغابة "2/ 196".
ترجمة طلحة بن عبيد الله، جابر بن عبد الله، عتبة بن غزوان
…
ترجمة طلحة بن عبد الله، جابر بن عبد الله، عتبة بن غزوان:
طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي:
ثامن من أسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الشوريين، لم يشهد بدرًا لعذر، فضُرِبَ له بسهم، وأبلى بلاءًا عظيمًا، وفدى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقد تعرَّض بيده لسهم ضربوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت شلاءًا، وهو أحد الأغنياء المحظوظين الذي نفعوا الإسلام بأعمال البر وبالسيف معًا، توفي في وقعة الجمل سنة "36" ست وثلاثين.
وكانت غلته ألف درهم بغلي كل يوم، وكان جوادًا عظيمًا يضرب بجوده المثل حتى سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم طلحة الفياض، وطلحة الجود1.
جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي:
شهد العقبة الثانية، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، من علماء الصحابة وحفاظهم المكثرين، له ألف حديث وخمسمائة وأربعون حديثًا، وكانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي سنة "78"، ثمان وسبعين، عن أربع وتسعين وقد كُفَّ بصره2.
عتبة بن غزوان المازني:
كان سابع ستة في الإسلام، في السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وصلى للقبلتين، شهد بدرًا وغيرها، وهو الذي أسَّسَ البصرة زمن عمر وكان واليها، وخطبته فيها شهيرة، أشار لها في الشمائل، وفي الاستيعاب ومنها:
كنت سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نأكل إلّا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليطرح كما تطرح الشاة أو البعير، وما منا من أحد إلّا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجربون الأمراء بعدنا
…
إلخ. توفي سنة "17" سبعة عشر3.
1 طلحة بن عبد الله التيمي القرشي: ترجمة طلحة في: الإصابة "3/ 5296"، والاستيعاب "2/ 264"، وأسد الغابة "3/ 59"، الجمع بين رجال الصحيحين رقم "859".
2 ترجمة جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي: أبو عبد الله -أبو عبد الرحمن- أبو الحمد، ت سنة 73، السلمي الأنصاري.
تصحيفات المحدثين: "657"، التاريخ الكبير "2/ 207"، تراجم الأخبار "1/ 217"، التاريخ الصغير "1/ 21، 115، 161، 190، 193"، العبر "1/ 41، 193"، الأعلمي "14/ 220".
3 عتبة بن غزوان المازني: ثقات "5/ 250"، التاريخ الكبير "6/ 520"، الطبقات الكبرى "2/ 11"، "3/ 556"، "4/ 362"، البداية والنهاية "7/ 49"، تنقيح المقال "7727"، العبر "1
ترجمة بلال، عقبة بن عامر:
بلال بن رباح الحبشي:
مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمين نفقته، أوّل من أسلم من العبيد ومن الحبشة، ممن عذبته قريش في ذات الله على حجر مكة في الظهيرة وهو يبرّد لظاها بقوله: أحد أحد، حتى اشتراه منهم أبو بكر وأعتقه، من زهّاد الصحابة وعبّادهم، شهد بدرًا والمشاهد كلها، ثم سكن دمشق غازيًا ومعلمًا.
قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وامتنع من الأذان بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرَّةً قدم فيها المدينة، فلما أذّن علا الضجيج والبكاء فلم يتمها، توفي سنة "20" عشرين2.
عقبة بن عامر الجهني:
الصحابي المشهور، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وروى عنه جماعة من الصحابة كابن عباس، كان قارئًا، أحد مَنْ جمع القرآن، وله مصحف على غير تأليف عثمان، وكان عالمًا بالفرائض والفقه، شاعرًا فصيح اللسان، كاتبًا بليغًا، تولى مصر زمن معاوية، وحضر فتوح الشام وأفريقية وغيرها، ومن كلامه في صحيح البخاري: تعلّموا قبل الضانين. يعني: الذين يتكلمون بالظي. توفي سنة "58" ثمان وخمسين3.
1 بلال بن رباح الحبشي: الإصابة "1/ 362"، والاستيعاب "1/ 178"، وأسد الغابة "1/ 206".
2 عقبة بن عامر الجهني: الإصابة "4/ 520"، والاستيعاب "3/ 1073"، وأسد الغابة "3/ 417".
ترجمة عقبة بن عمرو، عمران بن حصين، معقل بن يسار:
عقبة بن عمرو الأنصاري الخززجي:
أبو مسعود البدري، شهد العقبة وبدرًا على ما قال الزهري وأحدًا وما بعدها، سكن الكوفة واستخلفه عليٌّ عليها بعد خروجه لصفين، وهو معدود من أعلام الصحابة وفقهائهم. توفي سنة أربعين1.
عمران بن حصين الخزاعي أبو نجيد -مصغرًا:
أسلم أيام خيبر وشهد غزوات، وكان من علماء الصحابة وفقهائهم وقضاهم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثلاثين حديثًا، بعثه عمر ليفقِّه أهل البصرة، ثم استقصاه زياد بها، ثم استعفى فأعفاه، قال ابن سيرين: لم يكن تقدَّم على عمران أحد من الصحابة ممن نزل البصرة.
وهو ممَّن اعتزل الفتنة، توفي سنة "52" اثنين وخمسين2.
معقل بن يسار المزني أبو علي:
من أهل بيعة الرضوان، وممن استقصاه النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق3، روى أربعة وثلاثين حديثًا، روى عنه عمران بن حصين وغيره، نزل البصرة، وهو الذي حفر ترعة هناك يقال لها وادي معقل بأمر عمر.
1 عقبة بن عمرو الأنصاري الخزرجي: أبو مسعود البدري، الإصابة "4/ 524"، والاستيعاب "3/ 1074"، وأسد الغابة "3/ 419".
2 عمران بن حصين الخزاعي أبو نجيد: أبو نجيد الخزاعي صاحب رسول الله: مسند أحمد "4/ 426"، التاريخ "ابن معين""436"، طبقات ابن سعد "4/ 287"، طبقات خليفة "106، 187"، التاريخ الكبير "6/ 408"، أخبار القضاة "1/ 291، 292"، الجرح والتعديل "6/ 296"، المستدرك "3/ 470"، سير النبلاء "2/ 508"، والعبر "1/ 57"، مجمع الزوائد "9/ 125".
3 سبق تخريجه.
4 معقل بن يسار المزني أبو علي: الإصابة "6/ 184"، والاستيعاب "3/ 1433"، وأسد العابة "4/ 398".
ترجمة أبي بكرة الثقفي:
أبو بكرة 1 نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي:
صحابي جليل، أول من نزل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم من الطائف عند حصاره له، فكنَّاه أبا بكرة لذلك، له مائة واثنان وثلاثون حديثًا، من علماء الصحابة، قال الحسن البصري: لم يسكن البصرة أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمران بن حصين وأبي بكرة، وكان ممن اعتزل الفتنة، توفي سنة "51" إحدى وخمسين1.
1 قال المؤلف رحمه الله: بكرة بفتح الباء، وسكون الكاف، ونفيع مصغر، وكلدة بثلاث فتحات.
2 أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي: مولى الرسول، صحابي، نفيع ويقال نافع بن الحارث بن كلدة، وهال ابن مسروح، أبو داود -أبو بكرة السبيعي: الأعمى الوارمي الكوفي النخعي القاضي.
تقريب التهذيب "2/ 303"، تهذيب "10/ 470"، تهذيب الكمال "3/ 1423"، الكاشف "3/ 208"، لسان الميزان "7/ 413"، التاريخ الصغير "8/ 2"، الضعفاء الكبير "4/ 306".
التابعون الذين اشتهروا بالفتوى أيام الخلفاء الراشدين وقريبا من ذلك
ترجمة القاضي
…
التابعون الذين اشتهروا بالفتوى أيام الخلفاء الراشدين وقريبًا من ذلك:
شريح القاضي:
منهم:
أبو أمية شريح بن الحارث الكندي 1:
مخضرم، استقصاه عمر على الكوفة، ثم عليّ من بعده، ولم يزل قاضيًا حتى زمن الحجاج مدة ستين سنة، وقال ابن خلكان: مدة خمس وسبعين، لم يتعطّل فيها سوى ثلاث سنين، امتنع فيها من الحكم في فتنة ابن الزبير، ثم استعفى الحجاج فأعفاه، ولم يقض بين اثنين إلى أن مات، وهذه مدة طويلة في الحكم لم يكن مثلها لقاضٍ بعده.
كان من جلة العلماء وأذكى العالم، سبب تولية عمر إياه أن عمر اشترى فرسًا من رجل على سوم فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا، فقال الرجل: إني أرضى شريحًا العراقي. فقال شريح: أخذته صحيحًا سليمًا فأنت له ضامن حتى ترده صحيحًا سليمًا، فأعجبه حكمه فوجَّهه قاضيًا وأوصاه قائلًا: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن لك في كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك.
قال الشعبي: كان أعلم الناس بالقضاء، وكان أيضًا شاعرًا فصيحًا، وتقدَّم بعض ما كتب به عمر إليه2، كان يناظر الصحابة، وقد رجع عليّ إلى رأيه في بعض المسائل، وحكم يومًا بميراث أم الوليد لوالده مستدلًا بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 3، فكتب إليه ابن الزبير وهو يرد عليه ويأمره يجعل الميراث لمولاها، فلم يرجع عن قضائه وقال: أعتقها جنين بطنها. رواه الطبري في آخر الأنفال من تفسيره.
ونزاهته وفضله شهير، توفي سنة "80" ثمانين، وقيل: سنة "87" سبع وثمانين، عن مائة سنة، وقيل غير ذلك4.
1 قال المؤلف رحمه الله: الكندي: بكسر الكاف وسكون النون نسبة إلى كندة، قبيلة من قحطان.
2 في ترجمة عمر.
3 الأنفال: 75.
4 أبو أمية شريح بن الحرث الكندي: القاضي الكندي: دائرة الأعلمي "20/ 48".
ترجمة علقمة النخعي، مسروق:
علقمة بن قيس النخعي:
فقيه العراق، مخضرم، تفقَّه على ابن مسعود، وكان أنبل أصحابه، قال قابوس1: أدركت ناسًا من الصحابة يسألونه ويستفتونه، مات سنة "61" إحدى وستين، عن تسعين سنة2.
مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي:
الإمام القدوة، روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وغيرهم، هو راوية عمر، والناقل للكثير من فقهه وقضاياه، كان أعلم بالفتوى من شريح وكان يستشيره، توفي سنة "63" ثلاث وستين3.
1 ابن أبي ظبيان.
2 علقمة بن قيس النخعي: أبو شبل النخعي الكوفي، مات سنة 60، أو 61، 70، بعد 42 سنة.
معجم طبقات الحفاظ "129"، تاريخ الثقات "339"، تاريخ بغداد "12/ 296"، تذكرة "1/ 48"، شذرات الذهب "1/ 586"، طبقات ابن سعد "6/ 75"، الحلية "2/ 98"، النجوم "1/ 175"، تراجم الأحبار "3/ 63" تبصير المنتبه "3/ 985".
3 مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفيّ، أبو عائشة الهمداني الوادعي الكوفي: توفي سنة 62. تقريب التهذيب "2/ 242"، تهذيب التهذيب "10/ 109"، تهذيب الكمال "3/ 1320"، الكاشف:"3/ 136"، الخلاصة "3/ 21"، الأنساب "13/ 427، 424"، تراجم الأحبار "3/ 330"، جامع المسانيد "2/ 550"، الحلية "2/ 95"، العبر "1/ 68"، الأعلمي "274/ 241".
ترجمة الأسود النخعي، عبد الرحمن بن غنم، أبي إدريس الخولاني، عبيدة السلماني:
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي:
مخضرَم، أحد الفقهاء الكبار، أخذ عن ابن مسعود وغيره، وعنه إبراهيم1 وغيره، وثَّقه ابن معين وغيره، توفي سنة "74" أربع وسبعين2.
عبد الرحمن بن غنم الأشعري:
قيل: إن له صحبة، بعثه عمر إلى الشام ليفقِّه الناس، وقال ابن عبد البر: أفقه أهل الشام، وعليه تفقّه التابعون بها، توفي سنة "78" ثمان وسبعين3.
أبو إدريس الخولاني عائذ الله:
قاضي أهل الشام، ومن أشهر أعلامها، توفي سنة "80" ثمانين4.
عبيدة -بالفتح- بن عمرو السلماني 5:
مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق قادمًا إلى المدينة، أخذ عن عليّ وابن مسعود وغيرهما، قال ابن عيينة: كان يوازي شريحًا في القضاء والعلم، وكان قاضيًا لعلي، فقال له يومًا: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بيعهن، فقال له عبيدة: رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة، مات سنة "72" اثنين وسبعين6.
1 ابن يزيد النخعي.
2 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي: حلية الأولياء "2/ 102"، وتذكرة الحفاظ "1/ 48"، وتهذيب التهذيب "1/ 342".
3 عبد الرحمن بن غنم الأشعري الشافعي الأشعري: صاحب معاذ، توفي سنة 78، أو 98. در السحابة "786"، تقريب التهذيب "1/ 494"، تهذيب التهذيب "6/ 250"، تهذيب الكمال "2/ 810"، الكاشف "12/ 18"، الخلاصة "2/ 148"، المعرفة والتاريخ "2/ 309"، الثقات "5/ 78"، التاريخ الصغير "1/ 190"، تراجم الأحبار "2/ 424"، البداية والنهاية "9/ 26".
4 أبو إدريس الخولاني عائذ الله: حلية الأولياء "5/ 122"، وتذكر الحفاظ "1/ 53"، وتهذيب التهذيب "5/ 85".
5 قال المؤلف رحمه الله: عبيدة كنطيحة مكبره.
6 عبيدة بن عمرو السلماني: أبو عمرو، أبو مسلم السلماني- الكوفي - الهمداني- المرادي، أسلم ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، مات قبل سنة 70، أو 72 أو بعدها. شذرات الذهب "1/ 78"، طبقات ابن سعد "6/ 62"، طبقات القراء "1/ 498"، العبر "1/ 89"، اللباب "1/ 552"، التاريخ لابن معين "3/ 387"، تقريب التهذيب "1/ 547"، تهذيب التهذيب "7/ 84"، تهذيب الكمال "2/ 898"، الكاشف "2/ 242"، الخلاصة "2/ 207"، تراجم الأحبار "3/ 17، 93".
ترجمة سويد بن غفلة، عمرو بن شرحبيل، عبد الله بن عتبة:
سويد بن غفلة الجعفي الكوفي 1:
أحد كبار التابعين وأعلامهم، قَدِمَ المدينة حتى نفضت الأيدي من دفنه عليه السلام، روى عن الخلفاء الأربعة، وهي فضيلة عظمى، توفي سنة "80" ثمانين2.
عمرو بن شرحبيل الهمدني:
أبو ميسرة الكوفي، روى عن عمر وعلي وغيرهما، مات قديمًا3.
عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي:
أبو عبيد الله، له رؤية قال ابن سعد، كان ثقة فقيهًا، مات سنة "74" أربع وسبعين4.
1 قال المؤلف رحمه الله: سويد مصغر، وغفلة بفتحتين، والجعفي بضم الجيم.
2 سويد بن غفلة الجعفي الكوفي: تهذيب التهذيب "4/ 278".
3 عمرو بن شرحيل الهمداني: أبو ميسرة - الهمداني الكوفي.
طبقات ابن سعد "6/ 106"، طبقات خليفة "ت1069"، تاريخ البخاري "6/ 341"، الجرح والتعديل القسم الأول المجلد الثالث "237"، الحلية "4/ 141"، تهذيب الكمال ص"1040"، تاريخ الإسلام "3/ 56"، تذهيب التهذيب "3/ 100" غاية النهاية "ت2453"، الإصابة "ت6488"، تهذيب التهذيب "8/ 456".
4 عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: تراجم الأحبار "4/ 624"، تهذيب التهذيب "5/ 311".
ترجمة عمرو بن ميمون، زر بن حبيش، الربيع بن خيثم:
عمرو بن ميمون الأودي:
أبو يحيى الكوفي، أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له صحبة، روى عن عمر ومعاذ، قال الذهبي في كتاب العلو: من كبار علماء الكوفة، حج مائة حجة وعمرة، وثَّقه ابن معين، واتَّفق عليه الستة، مات سنة "74" أربع وسبعين1.
زر بن حبيش -مصغر- الأسدي الكوفي:
مخضرم، روى عن الخلفاء عدا أبا بكر، وعن العباس وغيرهم، وثَّقه ابن معين، أخرج له الستة.
توفي سنة "82" اثنين وثمانين2.
الربيع بن خيثم:
بمعجمة مفتوحة فياء تحتية فمثلثة مفتوحة، الثوري الكوفي، مخضرم، كان لا ينام الليل كله، قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك، توفي سنة "64" أربع وستين3.
1 عمرو بن ميمون الأودي: طبقات ابن سعد "6/ 117"، طبقات خليفة "ت1050"، تاريخ البخاري "6/ 367"، الحلية "4/ 148"، تاريخ عساكر "13/ 322"، أسد الغابة "4/ 134"، تاريخ الإسلام "3/ 197"، النجوم "1/ 195"، سير النبلاء "4/ 158"، العقد الثمين "6/ 417"، تهذيب التهذيب "8/ 109"، الاستيعاب "ت1959".
2 زر بن حبيش الأسدي الكوفي: أبو مريم - الأسدي الكوفي القاضري، توفي سنة 81، 82، 83: تقريب التهذيب "1/ 259"، تهذيب الكمال "1/ 428"، تهذيب التهذيب "3/ 321"، الخلاصة "1/ 358"، جامع المسانيد "2/ 456"، الكاشف "1/ 321"، العبر "1/ 95"، نسيم الرياض "3/ 147"، تراجم الأحبار "1/ 447"، البداية والنهاية "9/ 66"، سير النبلاء "4/ 166".
3 الربيع بن خيثم: تهذيب التهذيب "3/ 242".
ترجمة عبد الملك بن مروان، الأسود بن هلال:
عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي:
الخليفة المشهور، مجدد الإسلام ووحدته، كان قبل خلافته معدودًا من الفقهاء المشار إليهم بالفتوى كما في أعلام الموقعين، وقال ابن سعد: كان قبل الخلافة من النساك.
توفي سنة "86" ستة وثمانين، وهو تابعي، روى عن أبي هريرة وأم سلمة، وروى عنه الزهري وعروة وغيرهما، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد1.
الأسود بن هلال المحاربي:
أبو سلّام الكوفي، الفقيه الجليل، مخضرم، روى عن عمر ومعاذ والمغيرة وغيرهم، مات سنة "84" أربع وثمانين2.
فهؤلاء المشاهير في كبار التابعين ومن دونهم كثير.
1 عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي: أبو الوليد الأموي المدني القرشي الدمشقي، مات سنة 86. در السحابة "793"، التحفة اللطيفة "3/ 90"، الثقات "5/ 120"، التاريخ الكبير "5/ 429"، تقريب التهذيب "1/ 532"، تهذيب التهذيب "6/ 422"، تهذيب الكمال "2/ 862"، الخلاصة "2/ 180"، التاريخ لابن معين "3/ 375"، الميزان "2/ 664"، سير النبلاء "4/ 246"، دائرة الأعلمي "21/ 269"، العبر "1/ 518" فهرس.
2 الأسود بن هلال المحاري: تهذيب التهذيب "1/ 342".
ما تمّيز به فقه عصر الخلفاء الراشدين:
أولًا: بنزول نوازل لم تنزل في العهد النبوي، فأظهروا أحكامًا بالاستنباط، وذلك تابع لاتساع دائرة الإسلام، ودخول كثير من الأمم فيه، وابتداء عصر التمدُّن العربي، فكان الفقه تابعًا لذلك، فبذلك ابتدء التوسع في التفريع والاستباط.
ثانيًا: فروعهم التي فرَّعوها كانت أقل من فروع مَنْ بعدهم لزيادة توسع دائرة الأمة بعدهم، ثم لعدم فرضهم الصور العقلية كي يجتهدوا في استنباط أحكامها، وإ نما استنبطوا حكم ما ينزل من النوازل بالفعل، كما كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يرون أن فرض الصور واستنباط أحكامها من التمحل في الدين وضياع الوقت النفيس.
ثالثًا: أن السياسة كانت تابعة للفقه، ولم يكن الفقه تابعًا للسياسة، كما وقع في الأزمان المتأخرة؛ لأن الأمة كانت شورية دستورية، فمهما نزلت نازلة فزعوا إلى الشورى، فلم تصدر الفتوى والحكم إلّا عن تبصر وحكمة، ولذلك قلَّّما يبقى الخلاف.
بخلاف الزمن النبوي الذي كان الخلاف فيه معدومًا، وبخلاف عصر مَنْ بعدهم الذي كثر فيه الخلاف لانعدام الشورى في غالبه، فمجلس أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ كان مجلس تشريع وفقه واستنباط ومشاورة، وخصوصًا الأولان منهم.
رابعًا: كان الفقه في زمن الخلفاء هو دستور الأمة، وللأمة نهاية ما يكون من السيطرة على مراقبة أتباعه وتنفيذ نصوصه، فكان للفقه والفقهاء من السيطرة ما ليس للحقوقيين الآن عند الأمم الراقية كما سبق.
خامسًا: وقوع الإجماع واتفاق الآراء في عصرهم غالبًا للأسباب التي
قدمنا وأهمها الشورى.
ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء بتعذّر الإجماع بعدهم، لافتراق الأهواء بالشيعة والخارجية وفرقهما، ثم بتفرق العلماء والصحابة في الأقطار الشاسعة، فصار الخلاف إذا وقع بعدهم استحكم ولا يزول، لانبنائه غالبًا على سياسة قطر أو عادته، أو مبدأ من مبادئ الفرق وأحوال السياسة، فكل فريق يتعصب لنظريته، وقلَّما يتنازل عنها، فلا تجتمع الكلمة ولا يزول الخلاف؛ إذ ليس المقصود تبين الحق وإظهار حكم الله في مسألة، ولكن هي السياسة، يريدون تطبيق الفقه والدين عليها، وتحوير الفقه لأجلها لا تطبيقها وتحويرها على الفقه.
وذلك لم يكن منه شيء زمن الخلفاء الراشدين، بل كان الفقه أصلًا وحكمًا، والسياسة فرع ومحكومة له.
ومما زاد الدين صيانةً والفقه صراحةً زمن عمر، أنه كان منع المهاجرين وكبار الصحابة الخروج والانتشار في الأقطار التي فتحت، كما رواه الطبري عن الشعبي1، فما كان يسمع لهم في مفارقتهم المدينة إلّا برخصة منه مؤقتة لضرورة، فكانوا أهل شوراه، وبسبب ذلك قلَّ الخلاف وتيسَّر الإجماع في كثير من المسائل، أما عثمان فرخَّص لهم في الانتشار، وبه بدأ الخلاف والنزاع في الدين والسياسة معًا.
ولا ندَّعي أنه لم يقع خلاف زمن الخلافة، وإنما كان قليلًا:
فقد خالف عمر أبا بكر في أشياء، كاسترقاق أهل الردة، فإن أبا بكر استرقَّهم، أما عمر فإنه رأى خلاف ذلك، وبلغ خلافه إلى أن ردَّهن حرائر إلى أهلهن إلّا ما ولدت لسيدها منهن نقض حكم أبي بكر في ذلك، ومن جملتهن خولة الحنفية، أم محمد بن علي، الذي يقال له محمد بن الحنفية.
وخالفه في أرض العنوة؛ إذ قسمها أبو بكر ووقفها عمر، وفي العطاء كان أبو بكر يقسمه سوية، وفاضل فيه عمر على حسب السابقية.
وقد استخلف أبو بكر عمر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وفي الأمر سعة،
1 تاريخ الطبري "4/ 397".
لكن عمر توسَّط فتركها شورى بين ستة، بمعنى أنه أوصى بها لواحد منهم، يسميه خمسة منهم بأغلبية الأصوات.
كما أن عثمان خالف عمر في مسائل، وعليًّا خالفهما في مسائل يطول جلبها، وربما بعضها جملًا اعتراضية إن شاء الله تعالى.
صورة وقوع الخلاف في عهد الخلفاء الراشدين:
وقع ذلك على أنواع:
الأول: أن يسمع صحابي حكمًا في قضية لم يسمعه الآخر فيجتهد برأيه، وهذا على وجوه:
منها: أن يقع اجتهاده وفق الحديث، ففي الصحيحين قضية ذهاب عمر إلى الشام، فسمع بوجود الطاعون وهو بسَرْغ، وأراد الرجوع بالمسلمين، فقال له أبو عبيدة: أتفِرّ من قدر الله، فقال له عمر: لو غيرك قالها، نعم نفِرُّ من قدر الله إلى قدره، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وروى الحديث:"إذا كان في أرض فلا تقدموا عليها" الحديث فحمد الله عمر ثم انصرف1. وروى مثله أسامة، وسعد بن أبي وقاص، وخزيمة بن ثابت، كما في صحيح مسلم2.
ورى الترمذي والنسائي وغيرهما: أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات زوجها ولم يفرض لها صداقها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك.
فاختلفوا إليه شهرًا وألحول فاجتهد برأيه، وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك، ففرح ابن مسعود فرحة لم يفرحها قط3، وكان سيدنا علي يخالفه في
1 متفق عليه: البخاري "8/ 168"، ومسلم "7/ 26".
2 متفق عليه أيضًا: البخاري "7/ 168"، ومسلم "7/ 26".
3 أخرجه الترمذي "3/ 441"، وأبو داود "2/ 237"، والنسائي "6/ 98"، وابن ماجه "1/ 609".
الصداق، ويقول: لا صداق لها، ولا نقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله، قال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، لكن الآية في الطلاق، فقاس عليه الموت، فقدَّم القياس على خبر الواحد كما هو مذهب الحنفية2.
ومنها: أن يكون عند صحابي علم بناسخ لم يكن عند الآخر: كتطبيق اليدين في الركوع، أخذ به ابن مسعود ولم يطَّلع على أنه منسوخ، واطَّلع سعد بن أبي وقاص على ناسخه فرواه، وأخذ به جمهور الفقهاء، والحديثان في الصحيح3.
ومنها: أن يقع بينهم المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن، فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع. منه: ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة كان يرى أنَّ من أصبح جنبًا لا صوم له، أخبرته بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع4.
ومنه حديث البخاري عن هزيل -بالزاي- بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابن ابنة وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًَا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكلمة الثلثين، وما بقي فللأخت.
فأتينا أبو موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم5.
قال ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلّا أبو موسى وسلمان بن ريبعة
1 البقرة: 236".
2 انظر نيل الأوطار "6/ 172".
3 البخاري في الأذان: "1/ 189"، ولم أجده في مسلم.
4 البخاري "3/ 38"، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولكن لفظه.. ".... كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم
…
"، ورواية أخرى: "
…
وهن أعلم"، وبينهما فرق شاسع، وقد حقّق ذلك الحافظ في الفتح فانظره "4/ 103".
5 البخاري "8/ 188".
الباهلي، وقد رجع أبو موسى، ولعل سلمان بن رجع كأبي موسى، وهو مختلف في صحبته، وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان، واستهشد في زمنه، فأخذ أبو موسى باجتهاده قبل البحث عن النص، ويؤخذ منه وجوب الرجوع لخبر الواحد بعد معرفته، وأن حكم الحاكم ينقض إذا خالف نصًّا، إلى غير ذلك.
ومنه ما وقع لعمر حيث قضى في دية الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين ناقة، حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشر عشر، فترك قوله ورجع إليه1.
وكذلك خفي عليه رجوع المستأذن إذا استأذن ثلاثًا، فلم يؤذن له، حتى أخبره به أبو موسى، وأبو سعيد وأُبَيّ بن كعب، كما في الصحيح2، وتقدَّمت أمثلة من هذا الباب في آخر اجتهاد عمر.
ومنها اختلاف أبي بكر وعمر في مانعي الزكاة، هل يقَاتَلون أم لا، لقوله عليه السلام:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" الحديث، أخذ عمر بعمومه، فقلب أبو بكر الحجة التي هي هذا الحديث نفسه على عمر، ورأى قياسهم على من امتنع من الصلاة فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة3.
وقتال الممتنعين من الصلاة كان معلومًا لعمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الأذان كفَّ عن القتال وإلا قاتل، وقال في المتخلفين عن الجماعة:"لقد هممت أن أحرّق عليهم بيوتهم" 4، وتحرق البيوت اعتادوا أن يكون في القتال، ولا يهم صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز، ودلّ تسليم عمر لقياس أبي بكر أن القياس يخصِّص العموم، ويؤيد أبا بكر ظاهر القرآن أيضًا، قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 5، فجعل إيتاء الزكاة شرطًا في عصمة الدم،
1 انظر نيل الأوطار "7/ 57".
2 متفق عليه: وسبق تخريجه.
3 روى المناقشة أبو هريرة وحديثه في البخاري في الزكاة "2/ 131"، ومسلم في الإيمان "1/ 38".
4 متفق عليه: البخاري في الأذان "1/ 158"، ومسلم في المساجد "3/ 123".
5 التوبة: 11.
والأخوة في الدين، ومفهومه أن مانعها ليس كذلك، وفي الآية الأخرى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1، ثم ظهر حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما بزيادة:"ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، كما في الصحيح2، ولم يكن عمر يعلم هذه الزيادة، ولو علمها ما بقي محل للنزاع، ولو علمها أبو بكر ما استدل بها، فما وقع في النسائي من طريق أنس بإثباتها في مجادلتها غير محفوظ3، والمحفوظ ما في الصحيحين، وعلى ثبوتها أمارتان، فيكون دليلًا لمن أجاز من الأصوليين اجتماع دليلين على مدلولواحد؛ لأنهما أمارتان، ولمن أجاز اجتماع القياس والنص الموافق له.
ومنها: أن يبلغه الحديث ويجد له معارضًا من القرآن بحسب اجتهاده فيطعن فيه، ومنه ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة الثلاث، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردّ شهادتها، وقال: لا نترك كتاب الله، أعني: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} 4 لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت لها النفقة والسكنى5.
وقالت عائشة: لا خير لها في ذكر هذا الحديث.
وفي مسلم قالت فاطمة: يا رسول الله، أخاف أن يقتحم علي. قال:"أخرجي" 6، وفي البخاري عن عائشة: كانت في مكان وحش فخيف عليها7، وقالت فاطمة: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 8، أي: أمر يحدث بعد الثلاث9، فتبيَّن أن الآية في تحريم الإخراج، والخروج إنما هي في الرجعية وصدقت، وهكذا هو في الآية
1 التوبة: 5.
2 متفق عليه: البخاري "1/ 14"، ومسلم "1/ 39".
3 النسائي "8/ 96".
4 الطلاق: 1.
5 مسلم "4/ 198".
6 مسلم "4/ 197".
7 البخاري: "7/ 74".
8 الطلاق: 1.
9 متفق عليه: البخاري "7/ 74، ومسلم واللفظ له "4/ 197".
الأولى بدليل آخرها وهو: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} 1، غير أن عمر رأى القياس على أصل القرآن القطعي مقدَّمًا على خبر الواحد، لكن ثبت ذلك أيضًا في المبتوتة من الآية الأخرى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 2، وتبيَّن أن صراحة القرآن إنما هي في السكنى دون النفقة، ولذلك أوجب مالك السكنى للمطلقة مطلقًا، والنفقة للرجعية فقط دون البائن جمعًا بين الأدلة، إلّا إذا كانت حاملًا ما لم يمت المطلِّق، فلا نفقة ولا سكنى للرجعية في التركة لإرثها بخلاف البائن، فالسكنى لها دين في التركة، وتنقطع الحامل بالوضع أو الموت أو بلوغ أقصى الحمل.
ومن هذا المعنى حكم عثمان بأن المختلعة لا عدَّة عليها، وإنما تستبرأ بحيضة، ذاهبًا إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، محتجًا بأن زوجة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت منه أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربَّص حيضة واحدة كما في النسائي والترمذي وحسنه3، وفي الترمذي أيضًا أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمرت أن تعتدَّ بحيضة. قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة4، ولعله يشير إلى ما رواه ابن سعد أن الذي أمرها عثمان في حصاره سنة خمسة وثلاثين5، أما من لا يرى تخصيص القرآن القطعي بالخبر الظني بل تقديم القرآن عليه، ويرى أن الخلع طلاق، فيفتي بلزوم العدة وهو مذهب المالكية، وهذا من المسائل التي قدَّم فيها مالك ظاهر القرآن، ورآه قادحًا في خبر الآحاد ويعضده حديث:"أتردين عليه حديقته" قالت: نعم، قال:"فطلقها طلقة واحدة" 6، ومهما كان طلاقًا لزمت العدة لقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 7.
ومن ذلك ما رواه الشيخان أن عمر كان يرى التيمم بدلًا عن الوضوء لا الغسل، فالجنب لا يتيمم، فروى عنده عمار بن ياسر أنه كان في سفر فأصابته جنابة
1 الطلاق: 6.
2 الطلاق: 2.
3 أخرجه الترمذي في الطلاق "3/ 482"، وأما رواية النسائي فليس فيها أنه أمرها أن تتربص حيضة واحدة "6/ 140"، والحديث أصله في الصحيح. البخاري "7/ 60".
4 الترمذي "3/ 482".
5 طبقات ابن سعد.
6 أخرجه البخاري في الطلاق عن ابن عباس "7/ 60".
7 الطلاق:1.
ولم يجد ماء فتمعَّك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كان يكفيك تفعل هكذا، وضرب بيده الأرض، فمسح وجهه ويديه" فلم يقبل منه عمر، وقال له: نوليك من ذلك ما توليت1.
ولم ينهض عنده حجة تقاوم ما رآه من أن الملامسة في آية التيمم الملاعبة التي هي من نواقض الطهارة الصغرى، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلَّ وهم القادح فأخذوا به.
النوع الثاني: أن لا يوجد نص فيختلفوا في الاجتهاد، كالزوج العبد إذا طلق الحرة طلقتين، قال عثمان، وزيد بن ثابت: لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره اعتبارًا بحال الزوج، وخالفهما عليٌّ فقال: لا تحرم حتى يطلقها ثلاثًا اعتبارًا بحال الزوجة، وترجّح الأول؛ لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح.
وقد يُستدل للثاني بأن الله وضع عن الرقيق نصف العذاب، وهذا زيادة عذاب فلا يقاس على الحد2.
ومنه فتوى عثمان بإرث الزوجة من الزوج الذي طلق في مرض الموت ولو انتقضت العدة، وروي عن عمر تقييده بما لم تنقض العدة.
النوع الثالث: اختلافهم في استعمال اللغة، فقد أفتى ابن مسعود ووافقه عمر بأن المطلقة لا تخرج من عدتها إلّا إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، وأفتى زيد ابن ثابت بخروجها بمجرد ما تحيض، فالأول مبني على أن القرء في الآية الطهر، والثاني: الحيض.
ومن ذلك قول أبي بكر: إن الجد أب، فأنزله في الميراث منزلته في كل الأحوال مستدلًا بنحو قوله تعالى:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} 3، قال البخاري: ولم يذكر أن أحدًا خالفه في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، قال: ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة، يعني: بعده، فرأوا أن إطلاق الأب عليه مجاز، ولو سلمنا بأنه حقيقة فلا يلزم من الإطلاق اللغوي استحقاق
1 متفق عليه: البخاري "1/ 89"، ومسلم "1/ 193".
2 انظر نيل الأوطار "6/ 238".
3 يوسف: 38.
الإرث، والمسألة تراجع في محلها1.
النوع الرابع: اختلافهم في التمسُّك بأصل من الأصول، كتزوج مطلقة في العدة بغير الزوج المطلِّق، فقد حكم عمر بتأبيد الحرمة معاملة له بنقيض القصد، وزجرًا عن مخالفة أمر الله، ومحافظة على النسل، أخذًا بالمصالح المرسلة، وخالفه علي تمسكًا بالبراءة الأصلية، ولا نصَّ في القرآن لواحد منهما، وقد تقدَّم هذا.
كما تقدَّم استحسان عمر جعل الأرض العنوية حبسًا، وإيقاع الثلاث على من تلفَّظ بها في مرة واحدة أخذًا بالمصلح المرسلة2.
وروى الإمام أحمد عن سلامة بنت معقل قلت: كنت للحباب ابن عمرو ولي منه غلام، فقالت لي امرأته: الآن تباعين في دينه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صاحب تركة الحباب"؟ فقالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لا تبيعوها وأعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فائنوني أعوضكم" 3، ففعلوا، فاختلفوا بينهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم أم الولد مملوكة لولا ذلك لم يعوضهم، وقال بعضهم: هي حرة حيث أعتقها، فمن ثَمَّ كان الاختلاف.
فهذه أمثلة من كيفية اجتهاد الخلفاء الراشدين ومخالفة من خالفهم، فهي الأصل الذي حذا حذوه المجتهدين والفقهاء بعدهم، وقد رأيت أن جلّ ما كان يقع من الخلاف يضمحل لمكان الشورى، وتوفر جمهور الصحابة لديهم، فتظهر السنة ويعتمدونها فيضحمل الخلاف، ويعلم ذلك بتتبع كتب الصحاح وممارسة كتب الفقه القديمة كموطأ مالك والمدونة والأم للشافعي ونحوها.
1 البخاري "8/ 188".
2 سبق.
3 أحمد في مسنده "6/ 360".
عصر صغار وكبار التابعين بعد الخلفاء الراشدين إلى آخر المائة الأولى:
فلذلكة تاريخية:
تقدَّم أن الخلافة عام أحد وأربعين أفضت إلى معاوية، فقام بها أحسن قيام، وبموته افترقت الأمة على ولده يزيد الذي عهد له بالخلافة ولم يرضوه، فثار أهل المدينة، ولكن أخضعهم يزيد ونكّل بهم، فمات في وقعتها التي تسمَّى وقعة الحرة كثير من الصحابة من أهل بدر وغيرهم، وكان ذلك مؤثرًا على الفقه أيضًا، وقام سيدنا الحسين في العراق فقتله أيضًا، فحقدت الأمة أجمع على بني أمية بسبب قتل سبط الرسول، وزاد الشيعة تألبًا واحتدامًا، وثار ابن الزبير بمكة وبقي كذلك، ومات يزيد، فتولّى ولده معاوية، ثم مروان بن الحكم بن العاص، ثم ولده عبد الملك الإمام الداهية الفحل الذي به اجتمعت الأمة، ولكن بقوة واستبداد الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أسرف في سفك الدماء وقتل كثيرًا من علماء التابعين، ثم تولّى ولده الوليد بن عبد الملك أعظم ملوك بني أمية، وأوسع ملوك الإسلام ممكلة على الإطلاق، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر ابن عبد العزيز بن مروان، الإمام العدل الذي رجع بالخلافة إلى أصلها وأحييى الشورى، ولكنه عاجلته المنية سنة "101" مائة وواحد.
الفقه زمن معاوية فمن بعده:
إن معاوية لم يؤسس خلافته على ما كانت مؤسسة عليه قبله من رابطة الشورى الحقيقية، بل أسسها على قاعدة العصبية والملك، وهي عصبية فريق من الأمة لا كلها، وذلك الفريق هم بنو عبد شمس من قريش ومواليهم الذين كان معاوية ولَّاهم ثغور الشام ومدنه وأوطنهم إياه، وجعل لنفسه هناك صنائع من غيرهم، والعصبية داعية إلى الأثرة والاستبداد، فتغيَّر الحال عَمَّا كان عليه من قبل، فبعد ما كانت قوة نفوذ الخليفة مستمدَّة من الجامعة الإسلامية قاطبة، ومن عموم الأمة الذي يجب عليه أن يرضيه بالمساوة والمشورة والاشتراك في الرأي، أصبحت مستمدَّة من فريق من الأمة، يجب عليه أن يؤثرهم ويرضيهم ولا عليه في الباقي، فتغيَّر الفقه عمَّا كان عليه من قبل، ولولا فضل معاوية وحسن سياسته لوقع القضاء على الأمة والفقه، إلا أن وقوع الاستبداد أثَّر على الفقه كثيرًا، وإليك مثالًا من ذلك:
كتب مروان إلى أسيد بن حضير الأنصاري وكان عاملًا على اليمامة، بأن معاوية كتب إليه أن الرجل الذي تسرق منه سرقة فهو أحق بها حيث وجدها، فكتب أسيد إلى مروان: إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متَّهم يخيَّر سيدها، فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنه، وإن شاء اتبع سارقه، ثم قضى بذلك أبو بكر وعمر وعثمان، فبعث مروان بكتاب أسيد إلى معاوية، فكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي، ولكني أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ ما أمرتك به، فبعث مروان بكتاب معاوية إلى أسيد فقال: لا أقضي ما وليت بما قال معاوية. رواها النسائي في البيوع1.
ومن تأمَّل هذه القصة يعلم مبدأ الاستبداد في أمر الأمة، وتغيُّر ما كانت عليه
1 النسائي "7/ 275".
الحال من أمر الشوى، وإن كان جلالة أسيد وسابقيته، وبالأخص عصبيته الأنصارية وقفت دون الاستبداد، وفتحت له طريق التصلب في الحق، لكن لو كان والٍ غيره ليس له تلك الحيثية، فإنه يذهب مع التيار الأغلب، وهذا أمر لا شك أنه مؤثر على الفقه، وكلٌّ يعلم أن الاستبداد ماحٍ للاجتهاد موجب للتقليد.
ومن أسباب تغير الفقه تفرُّق الصحابة في الأقطار الإسلامية للفتح والغزو، ثم التعليم والتهذيب والاستيطان للحراسة والرباط، وكل صحابي كان يحضر ويشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحضره غيره، ولا يحضر بقية الأقضية والنوازل، فكان كل واحد يأخذ بما شهده، ويترك ما غاب عنه، فنشأ الاختلاف والمذاهب، وتعدَّدت الروايات عند العراقيين والحجازيين والشاميين واليمنيين والمصريين والخراسانين، وهلمَّ جرا، وتقدَّم أن انتشارهم كان زمن عثمان.
مشاهير أهل الفتوى في هذا العصر من الصحابة رضي الله عنهم:
ترجمة ابن عباس:
هم كثيرون تقدَّم بعضهم بتراجمهم، ويأتي في الترجمة بعد هذه سرد عدد وافر منهم، وهنا نذكر تراجم أربعة منهم مشاهير على سبيل التبرك؛ لتعلم أن هذا العصر كان بهم مزدانًا، وهم أحق أن يقدموا قبل التابعين السابقين، بل الأولان منهم أحق أن يقدَّما على كثير من الصحابة السابقين، كما يعلم من تراجمهم، لكنا تسامحنا في الترتيب، وفي مثل ذلك لا يناقش لبيب.
الإمام أبو العباس عبد الله بن عباس:
فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير بعد عصر الخلفاء ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"1، قال ابن حزم: هو أكثر الصحابة فتيا على الإطلاق.
وقد جمع فتاويه أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن الخليفة المأمون، أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث في عشرين مجلدًا2، وهو عندي أحق من يصدق عليه حديث:"عالم قريش الذي يملأ الأرض علمًا" وإن كان الحديث متكلمًا فيه3، وانظر إلى تلاميذه الذين تخرجوا به: كعكرمة مولاه4، وسعيد ابن جبير، ومجاهد5، وعطاء6، وكريب7 مولاه أيضًا،....
1 متفق عليه: البخاري في الوضوء واللفظ له "1/ 47"، ومسلم في فضائل الصحابة "7/ 158".
2 ت سنة 342 هـ، انظر الأعلام للزركلي "7/ 339".
3 انظر المقاصد الحسنة للسخاوي "1/ 198".
4 عكرمة البربري أبو عبد الله المدني.
5 ابن جبر المكي أبو الحجاج.
6 ابن أبي رباح أبو محمد المكي.
7 ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو رشدين.
وأبي الشعثاء1، وطاوس2، وسعيد بن المسيب، وكثير غيرهم.
كلهم ملأوا الأرض علمًا ونورًا وفقهًا وتفسيرًا، وكانوا صفوة أهل الأرض في زمنهم رضي الله عنهم، وهو معدود أيضًا من المكثرين في رواية الحديث، فقد روى "1660" حديثًا، لكن الذي رواه منها سماعًا "25"، والباقي عن الصحابة، كذا قال البزدوي3، ونوزع في ذلك.
وعلى كل حالٍ فإن جلّ مروياته عن كبار الصحابة كعمر وزيد وأمثالهما، قال ابن عباس: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ بنا نسأل الصحابة، فإنهم اليوم كثير، قال: واعجبًا لك، أترى الناس يحتاجون إليك؟ قال: فترك ذلك وأقلبت أسأل.
قال: إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسَّد رداءي على بابه يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك، هلا أرسلت إلي فآتيك، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش الرجل الأنصاري حتى رأني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فقال: هذا الفتى كان أعقل مني.
ويعد أول من فسَّر القرآن، ولذلك يقال له ترجمان القرآن، وقد فسَّره غيره قبله كعمر وعلي، لكن في زمن ابن عباس بدأ اختلاط اللغة، واحتاج القرآن للمفسِّر، فتكلَّم في ذلك ابن عباس كثيرًا واستعان عليه بكثرة ما روى من السُّنَّة وأشعار العرب الذين نزل بلغتهم، وأظن أنه أوّل من أخذ تفسير القرآن من الشعر العربي وأمثالهم وخطبهم.
وروي عنه تفسير مطبوع بأسانيد معروفة في فهارس العلماء، قال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن بإسناده إلى أحمد بن حنبل، قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا
1 جابر بن زيد الأزدي.
2 ابن كيسان اليماني.
3 فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين، من أئمة الحنفية، ت سنة 482هـ.
ما كان كثيرًا.
قال في فتح الباري: وهذه النسحة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها كثيرًا في صحيحه، وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح، من أول سورة الحج.
فإذا أنصفنا جزمنا بأن ابن عباس هو واضع علم التفسير ومخرجه من العدم، وأول من ألّف فيه قبل مالك وغيره، فهو حَبْر الأمة، وهو ممن ظهر فيه النبوغ العربي في هذا العصر بأكثر معانيه علمًا وفصاحة وكمالًا.
وألمعيته يُضْرَبُ بها المثل، كما قال الحريري في المقالة السابعة: إذًا ألمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إلياس، قال عطاء: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس؛ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من وادٍ واسع، قال مسروق1: إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس، فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس.
قال ابن المديني2: إن ابن عباس وان مسعود وزيد بن ثابت كان لكلٍّ منهم أتباع في الفقه يدون في علمهم وفيتاهم قولهم. نقله السخاوي في شرح ألفية العراقي، وتوفي بالطائف حوالي سنة 68 ثمان وستين3.
1 ابن الأجدع.
2 علي بن عبد الله.
3 الإمام أبو العباس عبد الله بن عباس: مروج الذهب "3/ 370"، وأسد الغابة "3/ 524"، تهذيب الأسماء "1/ 1/ 312"، تاريخ الإسلام "2/ 304"، والعبر "1/ 36"، وتهذيب التهذيب "2/ 265"، ومرآة الجنان "1/ 130"، والبداية والنهاية "8/ 90"، العقد الثمين "5/ 309".
ترجمة ابن عمر:
عبد الله بن عمر بن الخطاب:
من السابقين للإسلام، حتى قيل إنه أسلم قبل أبيه ولم يصح، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق وما بعدها، ولم يقبل في أحد لكونه لم يبلغ خمس عشرة من عمره إذ ذاك.
كان من زهَّاد الصحابة وعبَّادهم وأعلامهم وأجوادهم وعقلائهم، رشحه أبوه لرئاسة الشورى شرفيًا، وجعله فيها مستشارًا، ولم يجعل له صوتًا لئلّا تصيبه الخلافة، فكان فيها رئيسًا منفذًا.
أقام يفتي المسلمين نحو ستين سنة، فلو جمعت فتاويه لكانت مجلدًا ضخمًا، وعلمه وفضله أشهر من أن يذكر.
وهو من المكثرين في الحديث، وقد تخرّج به تلاميذه؛ كولده سالم، ومولاه نافع، وغيرهما، وعن مذهبه في الفقه تفرَّع مذهب المدنيين، ثم مالك وأتباعه كما ترى ذلك في الموطأ والمدونة، على قلة ما كان له من الاستنباط في الفقه؛ إذ كان تعويله فيه على لفظ الحديث، فهو في الرتبة الثانية من حيث الإكثار بعد ابن عباس من أهل هذه الطبقة، وعدّه ابن سلطان1 في شرح المشكاة من أهل الفتوى على العهد النبوي.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس، وقال جابر: ما منا أحد إلّا مالت به الدنيا ومال بها ما خلا عمر وابنه عبد الله، توفي سنة 73 ثلاث وسبعين، عن أربع وثمانين2.
1 الملا علي بن سلطان القاري، ت سنة 1014. الأعلام "5/ 166".
2 عبد الله بن عمر بن الخطاب: الإصابة "4/ 181"، والاستيعاب "3/ 950"،، وأسد الغابة "3/ 227".
ترجمة معاوية بن أبي سفيان الأموي:
الخليفة السادس في الإسلام، بويع البيعة العامَّة عام إحدى وأربعين، وكان إسلامه قبل الفتح، وإنما أظهره في الفتح، وكان من الكتبة الحسبة الفصحاء، حليمًا وقورًا ذا عقل رصين ودهاء مكين، وكفاه أن توصّل به وبجده وسابق القدر للخلافة، مع وجود علي وسعد بن أبي وقاص من أهل الشورى، وابن عمر وأمثالهم، وكان وجيهًا في الإسلام إذ كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وولاه عمر الشام، ثم أقرَّه عثمان، ولم يبايع عليًّا بل حاربه، ثم استقلّ بالخلافة لما تنازل الحسن عنها له، ولمَّ شعث الإسلام وجمع الكلمة بعد الفرقة، وسكَّن الثائرة، وأعاد مجد الإسلام غزوًا وفتحًا وعظمة، عاش عشرين سنة خليفة، وعشرين سنة قبلها واليًا، ثم مستبدًا، ومن فقهه ما في الصحيح عن عكرمة، قلت لابن عباس: إن معاوية أوتر بركعة؟ قال: إنه فقيه1.
وخطب الناس بالمدينة فأمرهم بإخراج صدقة الفطر، وأفتاهم أن يخرجوا من القمح نصف صاع أو صاعًا من شعيرًا أو تمر2، وبه أخذ الحنفية فصارت زكان الفطر تُقوَّم عندهم.
قال ابن عباس: ما رأيت أحدًا أحلى للملك من معاوية، وكان رزقه أيام عمر ألف دينار في كل سنة، فكان رزقه أعظم من رزق الخليفة وغيره بكثير، ومن أقبح ما يذكر في تاريخه سبَّه لعلي -رضي اله عنه، ولولا أنه في صحيح مسلم ما صدقت بوقوعه منه، وما أدري ما وجه اجتهاده فيه، حتى كانت سنة من بعده، والله يغفر له، وليست العصمة إلا للأنبياء.
وهو أوّل من صيَّر الخلافة ملكًا وراثيًّا، وسنَّ السلطة الشخصية في الإسلام؛ إذ جعل ولده ولي عهده، وما كانت قبله إلّا شورى بالاستحقاق، وكان الخليفة شوريًّا مقيدًا، فصار هو مطلقًا، فهو أول من سنَّ الإطلاق وهدم أساس الشورى التي كانت موجودة في الإسلام ولم يتم نظامها، فهدم مبادئ الديمقراطية وأسَّس بيت الملك بعدما كانت خلافة عن الرسول في إقامة العدل بمعونة الشورى، فصيرها عصبية استبدادية في بيت بني أمية، وأمات ما كان في الأمة من حياة الديمقراطية والشورى، وخدَّرها بسطوة الملك والعصبية، فبقيت به نائمة إلى الآن.
وهو الذي أسَّس دولة الأمويين العظمى التي هي أعظم دولة للإسلام في المشرق، وعنها تكونت دولة الأمويين في الأندلس التي هي أعظم دولة إسلامية في الغرب، ونال ذلك بفضله وعلمه وحلمه وفصاحته وجوده وحسن تدبيره وسياسته، ولا تنكر له فتوحات وخدمات في الإسلام رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، توفي سنة "60" ستين3.
1 البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب ذكر معاوية رضي الله عنه "5/ 35".
2 رواه أبو سعيد الخدري، متفق عليه: البخاري "2/ 162"، ومسلم "3/ 69".
3معاوية بن أبي سفيان الأموي: الإصابة "6/ 151"، والاستيعاب "3/ 1416"، وأسد الغابة "4/ 385".
ترجمة عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي:
أول مولود وُلِدَ للمهاجرين بالمدينة بعد الهجرة، فهو من صغار الصحابة، هاجر في بطن أمه، والده ابن عمة رسول الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وربته عائشة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اكتنفته كنانة النبوة.
كان من أعلام الصحابة وفقهائهم ومفتيهم وشجعانهم، دعا لنفسه بعد موت معاوية، ثم بعد موت يزيد بالخلافة، فبايعه أهل الحجاز والعراق ومصر، عدا أهل الشام بايعوا مروان بن الحكم، إلى أن كان ما كان من قتل الحجاج له، واقتحام دخول مكة عنوة، كان صوامًا قوامًا فصيحًا لسنًا إلّا أنه نقصته بعض الخلال الأخلاقية الواجبة في الخليفة؛ كالحلم، والكرم، فتفرّق الناس عنه وخذلوه على فضله وعلمه ومجد آبائه وأمهاته.
ولذا قال مالك: إنه أولى بالأمر من مروان وابنه، فهذه أولوية شرعية، أما الأولية السياسية فهي ما قد علمت1، وكان قتله بالبيت الحرام سنة "73" ثلاث وسبعين، وبقي في الخلافة تسع سنين، وفي الملك ثلاث عشرة سنة، وهو آخر خليفة من الصحابة2.
1 تفريق المؤلف في هذا المقام الأولوية الشرعية والأولوية السياسية مردود، فإن الأولى تتضمن الأخرى، فأبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:$"ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم عليه السلام
…
" الترمذي "5/ 669" لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لائقًا بالإمارة فقال له: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلّا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها" وفي رواية:"إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم" أخرجه مسلم "6/ 7"، ولذلك لم يكتف العلماء في شروط الإمام بالعدالة والعلم حتى تتوفر فيه من الصفات ما تتحق به الأهلية السياسية، وتجد هذا المبحث في الأحكام السلطانية للماوردي، ولأبي يعلى، وفي غيرهما في المراجع. "عبد العزيز القارئ".
2 عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي: أبو بكر، الحميري، الأسدي، المكي، القرشي مات سنة 119، 219، أو 220.
تهذيب التهذيب "5/ 216، 215"، تهذيب الكمال "2/ 682"، تقريب التهذيب "1/ 415"، الكاشف "2/ 86"، الخلاصة "2/ 56"، جامع المسانيد "2/ 515"، تراجم الأحبار "1/ 293، 2/ 278"، الجرح والتعديل "5/ 264"، نسيم الرياض "3/ 539"، الثقات "8/ 341".
مراتب الصحابة في الإكثار من الفتوى:
فأكثرهم على الإطلاق عبد الله بن عباس كما سبق، ويليه خمسة وهم: عمر، وابنه، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وإن كان عمر سيد الفقهاء وسيد أهل الفتوى على الإطلاق، لما له من الموفَّقيّة والمبتكرات في الاجتهاد.
فهؤلاء خمسة من الصحابة في رتبة واحدة من حيث كثرة الفتوى، هكذا نقل الشيخ الطالب بن الحجاج في الأزهار الطيبة، النشر عن ابن جزي -بجيم مضمومة وآخره ياء،1 وقد راجعت قوانين ابن جزي2 فلم أجد فيها ذلك، ولعله تصحيف عن ابن حزم -بالحاء المهملة المفتوحة وفي آخره ميم، ففي أول الإصابة ما نصه: أكثر الصحابة فتوى مطلقًا سبعة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة، فزاد عائشة.
قال ابن حزم: ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم.
قال: ويليهم عشرون: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، معاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، أبو هريرة، أنس بن مالك، عبد لله بن عمرو بن العاص، سلمان الفارسي، جابر بن عبد لله الأنصاري، أبو سعيد الخدري، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، عمران بن حصين، أبو بكرة، عبادة بن الصامت، معاوية بن أبي سفيان، عبد الله بن الزبير، أم
1 محمد الطالب بن حمدون الحاج، ت سنة 1273هـ، ترجم له المؤلف في القسم الرابع.
2 محمد بن أحمد. الدرر الكامنة "3/ 446".
سلمة، ويجمع من فتاوي كل واحد مجلد صغير.
قال: وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفسًا مقلون في الفتيا جدًّا، لا يروى عن الواحد منهم إلّا المسألة والمسألتان والثلاثة، ويمكن أن يجمع من فتياهم جميعهم جزء صغير بعد البحث؛ كأُبَيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد، وغيرهم، وسرد الباقين. وسردهم في أعلام الموقعين فزاد أبا اليسر، وأبا سلمة المخزومي، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبا مسعود البدري، وسعيد بن زيد، والحسن والحسين ابني علي، والنعمان بن بشير، وأبا أيوب الأنصاري، وأبا ذر الغفاري، وأم عطية، وصفية أم المؤمنين، وأم حبيبة أم المؤمنين، وأسامة بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وقرظة بن كعب، ونافعًا أخا أبي بكرة لأمه، وأبا السنابل بن بعكك، والجارود العبدي، وليلى بنت فانف، وأبا محذورة، وأبا شريح الكعبي، وأبا برزة الأسلمي، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، والحولاء بنت تويت، وأسيد بن الحضير، والضحاك بن قيس، وحبيب بن مسلمة، وعبد الله بن أنيس، وحذيفة بن اليمان، وثمامة بن أثال، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبا الغادية الجهني، وأم الدرداء الكبرى، والضحاك بن خليفة المازني، والحكم بن عمرو الغفاري، ووابصة بن معبد الأسدي، وعبد الله بن جعفر الهاشمي، وعوف بن مالك، وعدي بن حاتم، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن سلام، وعمرو بن عبسة، وعتاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن سرجس، وعبد الله بن رواحة، وعقيل بن أبي طالب، وعائذ بن عمرو، وأبا قتادة، وعبد الله بن معمر العدوي، وعمي بن سعلة، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن أخوه، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وعبد الله بن عوني الزهري، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأبا منيب، وقيس بن سعد، وعبد الرحمن ابن سهل، وسمرة بن جندب، وسهل بن سعد الساعدي، وعمرو بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعاوية بن الحكم، وسهلة بنت سهيل، وأبا حذيفة بن عتبة، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبد الله البجلي، وجابر بن سمرة، وجويرية أم المؤمنين، وحسان بن ثابت، وحبيب بن عدي، وقدامة بن مظعون، وعثمان بن مظعون، وميمونة أم المؤمنين، ومالك بن الحويرث، وأبا أمامة الباهلي، ومحمد بن مسلمة، وخباب بن
الأرت، وخالد بن الوليد، وضمرة بن الفيض، وطارق بن شهاب، وظهير بن رافع، ورافع بن خديج، وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت قيس، وهشام بن حكيم بن حزام، وأبا حكيمًا، وشرحبيل1 بن السمط، وأم سليم، ودحية بن خليفة الكلبي، وثابت بن قبيس بن الشماس، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغير بن شعبة، وبريدة بن الخصيب الأسلمي، ورويفع بن ثابت، وأبا حميد الساعدي، وأبا أسيد، وفضالة بن عبيد، ومسعود بن أوس -روينا عنه وجوب الوتر، وزينب بنت أم سلمة، وعتبة بن مسعود، وبلالًا المؤذن، وعروة بن الحارث، وسياه بن رواح أو روح بن سياه، والعباس بن عبد المطلب، وبشر بن أرطاة، وصهيب بن سنان، وأم أيمن، وأم يوسف، والغامدية، وماعزًا، وأبا عبد الله البصري، فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بن القيم: وما أدري بأي طريق عدَّ ابن حزم معهم الغامدية وماعزًا، ولعله تخيَّل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزني من غير استئذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو فتوى منهما لأنفسهما بجواز الإقرار، وقد أقرا عليها، فإن كان تخيل هذا فما أبعده من خيال، أو لعله ظفر عنهما بفتيا في شيء من الأحكام.
قلت: وقد عدَّ سعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وجعفر بن أبي طالب وغيرهم ممّن توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بناء على ما قدمناه من اجتهادهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كاجتهاد سعد في حكمه على بني قريظة بإذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على الإصابة على عبد الله بن معمر العدوي، والتحقيق أنه أنقلب للناسخ، وأنه معمر بن عبد الله بن نضلة العدوين، ففي مسلم عن سعيد بن المسيب عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحتكر إلا خاطيء" فقيل لسعيد: إنك تحتكر، فقال: إن معمر الذي كان يحدث بهذا الحديث كان يحتكر2، وهذا من اجتهاد معمر فلا إشكال، وكذلك عمي بن سعلة لم يذكره في الإصابة.
1 قال المؤلف رحمه الله: شراحيل بوزن مفاتيح.
2 مسلم في المساقاة "5/ 75".
قلت: وفي ذكر أُبَيّ كعب، وأبي الدرداء، وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فيمات لا تروى عنهم إلا المسألة والمسألتان نظر، وقد تقدَّم لنا أن بعضهم من أهل الطبقة التي قبل هذه، وبقي عليه كثير مثل: عقبة بن عامل الجهني، والفضل بن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن مغفل، والسائب بن يزيد، وعبد الرحمن بن سهل، وسهل بن حنيف، وأبي أمامة الأوسي، وإن كان هذا لم يدرك من الحياة النبوية إلا سنتين، ولم يصح له سماع، ولكنه من علماء وفقهاء كبار التابعين صحابي بالمولد، وأمثالهم ممن رويت عنه المسألة والمسألتان، أكثر ولم تكن رتبتهم في كثرة الفتوى على قدر رتبتهم في الرواية، فإن أبا هريرة له أحاديث "5374"، وهو أقل فتوى من ابن عباس الذي ليس له من المرويات مباشرة إلا "25" حديثًا على ما قيل، حتى إن الحنفية لا يعدون أبا هريرة فقيهًا، وإنه لعجيب، ثم هؤلاء الصحابة تفرقوا في الأقطار التي فتحها الإسلام معلمين وولاة، فأفتوا وحكموا في النوازل التي تجددت، كل واحد على حسب ما سمع وحفظ من السنة، أو شاهد من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء بعده، ومن لم يجد فيما حفظ نصًّا اجتهد برأيه في العلة التي أدار النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عليها في منصوصاته، فطرد الحكم حيث وجدها، لا يألون جهدًا في موافقة غرض الشرع الشريف، مراعين في ذلك أحوال وقتهم ومكانهم وأعراف بلدانهم، فوقع الاختلاف بينهم على أنواع.
صور من الخلاف الواقع في هذا العصر:
منها: اختلافهم في تعارض عامَّين ما الذي يُقَدَّم منهما، ومثاله:
عدة الحامل إذا وضعت، هل تنتهي بالوضع أو لا بُدَّ من أقصى الأجلين، بحيث إذا وضعت ولم تتم أربعة أشهر وعشرًا فلا بُدَّ من إتمامها؟ لعموم آية:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1، وإذا مضت الأربعة وعشر وهي حامل بقيت معتدة حتى تضع. أفتى بهذا ابن عباس فخصَّص عموم آية سورة الطلاق بعموم آية البقرة، فبلغ ابن مسعود فقال: من شاء لاعنته ما أنزلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2 إلّا بعد آية المتوفى عنها التي في البقرة، كأنه ذهب إلى النسخ فنسخ بعموم هذه الآية عموم البقرة لتأخرها، وأيضًا إن عموم:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ}
بالذات فيقدَّم، وعموم:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْن} بالعرض، وأيضًا الحكم في ذوات الأحمال معلل بخلافه في الأخرى فإنه تعبدي، والتحقيق أن لا نسخ وإنما هو تخصيص العموم الثاني بالأول لقوته، على أن حكمه عليه السلام في قضية سبيعة الأسلمية بأن العدة وضع الحمل أزال الخلاف، وبيَّن المخصَّص منهما، وهي في الصحيح وفي النسائي مبسوطة3.
ومنها: أن لا يصل الحديث الصحابي أصلًا:
أخرج مسلم أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فسمعت عائشة بذلك، فقالت: عجبًا لابن عمر، كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات4، وقد ردَّت عليه أيضًا لما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب5، وقدموا نفيها على إثباته مع
1 البقرة: 234.
2 الطلاق: 4.
3 البخاري في الطلاق "7/ 73"، ومسلم "4/ 201"، والنسائي "6/ 156".
4 مسلم "1/ 179".
5 متفق عليه: البخاري "3/ "، ومسلم "3/ 60".
أن المثبت مقدَّم لكونه سمع إنكارها، وسكت بعد ذلك رجوعًا منه، كما أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة، وغيره يثبت ذلك وهو الصحيح1، ومع كون ابن عمر أشهر الصحابة معرفة بالمناسك خطّؤوه فيهما.
ومن ذلك ما ذكره الزهري من أن هندًا لم تبلغها رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة، فكانت تبكي لأنها كانت لا تصلي2.
ومنها اختلافهم في التمسك بظواهر النصوص أو بالمعني المقصود من تشريع الحكم:
فقد أخذ ابن عباس بالأول حيث قال: إذا هلكت هالكة عن زوج وأبوين، فللزوج نصف التركة، وللأم ثلثها، وللأب ما بقي، تمسكًا بظاهر قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} 3. وقال زيد وبقية أعلام الصحابة: لها ثلث ما بقي عن الزوج نظرًا للمعني؛ لأنها هي والأب ذكر وأنثى ورثا بجهة واحدة، فللذكر مثل حظ الأنثيين كالأولاد والإخوة، ولابن عباس أن يقول: إن جهة الأمومة غير الأبوة، بدليل الفروق الكثيرة بين الجدة والجدد، وبين الإخوة لأم والأشقاء، وبأن الأخوة لأم ليس للذكر منهم حظ أنثيين وقوفًا مع لفظ شركاء في القرآن، فكيف لا تقفون مع لفظ أصرح وهو فلأمه الثلث، ومع هذا فمذهب الجمهور خلافه، وقال ابن عباس أيضًا: إن الأم لا يحجبها من الثلث للسدس أخوان أو أختان، وإنما يحجبها ثلاثة لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس} 4، وقال غيره: بل الأخوان والأختان في معنى الثلاثة، بدليل قوله تعالى في آيتي الكلالة: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 5، وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} 6، والكل في الإخوة فلا
1 عمرته صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، رواها أبو داود "2/ 206"، والترمذي "3/ 265" كلاهما عن محرش الكعبي، قال الترمذي: هذا حديث غريب ولا نعرف لمحرش الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث. قلت: وفي ابن ماجه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات، وذكر منها العمرة من الجعرانة، ابن ماجه "2/ 999"، وأما إنكار ابن عمر لها ففي الصحيحين: البخاري "3/ 3"، ومسلم "3/ 60".
2 مسلم: "1/ 181".
3 النساء: 11.
4 النساء: 11.
5 النساء: 12.
6 النساء: 176.
ومنها: اختلافهم في النسخ وعدمه.
كنكاح المتعة حيث رخَّص فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر، ثم نهى عنه في فتح مكة، ورخَّص فيه في أوطاس بعدها ثلاثة أيام، ثم نهى عنه، فاختلفوا في الجمع بين هذا الاختلاف، فقال ابن عباس: كانت الرخصة لضرورة، والنهي لانقضائها، والحكم باقٍ، فإذا تحقَّقَت الضرورة جاز.
وحمل الجمهور وذلكعلى النسخ وانمحاء حكم الرخصة بالكلية، كما محي حكم الربا وشرب الخمر وأكل الخنزير، تمسك المبتدعة القائلون بحليتها مطلقًا لضرورة وغيرها بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، وبقراءة ابن مسعود الذي زاد بعد قوله منهم:{إِلَى أَجَل} لكنها شاذة ولا يحتج بها إذ لم تثبت عنه، ويعارضها ما سيرد عليك مما هو أصح منها رواية، وإذا لم تصح فلا دلالة في الآية للمنع ولا للجواز.
ففي صحيح مسلم عن الربيع بين سبرة أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، قال: فأقمنا خمس عشرة فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال، وهو قريب من الدمامة2، مع كل واحد منا برد فبردي خلق، أما براد ابن عمي فبرد جديد غض، حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها فتلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة3 فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا، قالت: وماذا تبذلان، فنشر كل واحد منا برده، فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إلى عطفها، فقال: إن يرد هذا خلق وبردي جديد غض، فتقول: برد هذا لا بأس به، ثلاث مرار أو مرتين، ثم استمتعت منها فلم أخرج حتى حرَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسلم عن سبرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إيها الناس، إني قد كنت
1 النساء: 24.
2 قال المؤلف رحمه الله: الدمامة بالمهملة أوله: الحقارة وقبح المنظر.
3 قال المؤلف رحمه الله: البكرة: الفتية الشابة، والعطنطة: طويلة العنق وهي بفتح العين والطاء المهلمة بعدها نون فطاء، وفي رواية عيطاء بمعناها.
أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" 1.
وفي مسلم أيضًأ: أن ابن الزبير قام بمكة فقال: إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرِّض برجل2، فناداه فقال: إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين -يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك باحجارك3.
وفي مسلم عن جابر: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: لما ولي عمر بن الخطاب خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في المتعة ثلاثًا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلَّها بعد إذ حرمها4، 5.
وفي مسلم عن علي بن أبي طالب أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء، فقال: مهلًا يا ابن عباس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحمم الحمر الإنسية6.
قيل: إن ابن عباس رجع لما قال له على ذلك، وعلى هذا مشى الترمذي، والتحقيق أنه رجع عن إباحتها مطلقًا، إلى إباحتها في حال الضرورة فقط، مستدلًّا بما وقع في عام الفتح الذي هو بعد خييبر بلا شك، ويدل على ثبات ابن عباس على
1 مسلم في النكاح "4/ 131".
2 قال المؤلف رحمه الله: هو ابن عباس وحاشاه، إنما هو اجتهاده منه لحجة ظهرت له، ولا نقص يلحقه في ذلك، ومقامه أجل من أن يقال فيه هذا، كما أن ابن الزبير كذلك، وإنما الواقع منهما جميعًا الغيرة على الدين.
3 مسلم "4/ 133".
5 ابن ماجه في النكاح "1/ 631"، وفي سنده أبو بكر بن حفض واسمه إسماعيل الإبائي.
6 قال المؤلف رحمه الله: لم يأخذ المالكية بالرجم في المشهور عنهم لمكان الشبهة، وحملوا كلام عمر وابن الزبير على التغليظ.
7 مسلم في النكاح "4/ 134".
فكره، وأنه لم يرجع لقولٍ على ما وقع بينه وبين ابن الزبير، وكان ذلك بعد وفاة علي بكثير، وغير خفي أن محل المنع عند المالكية إذا صرَّح بالأجل في العقد، أما إذا لم يصرح به وإن نواه فالعقد ماض على ما صرّح به الزرقاني في شرح المختصر وسُلِّمَ له1.
ومنها: اختلافهم في الحكم، هل هو خصوصية أم لا:
مثل: النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، فقد ورد فيه حديث عام تشريعًا لعموم الأمة في الصحيح:"لا تستقبلوا القبلة ببول وغائط ولا تستدبروها"2.
وروى جابر أنه رآه عليه السلام يبول قبل الوفاة النبوية بسنة مستقبل القبلة3.
فقال: إنه ناسخ لتأخره، وكذلك حديث ابن عمر الذي رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام، عليه ظهر بيت حفصة4، وذهب قوم إلى أن النهي مختص بالصحراء، بخلاف المراحيض التي رئي صلى الله عليه وسلم فيها مستقبلًا، وذهب قوم إلى أن فعله عليه الصلاة والسلام خصوصية له ليس ناسخًا، ولا مخصصًا، تقديمًا للتشريع العام على القضايا العينية، والتحقيق التخصيص جمعًا بين الأحاديث والنسخ والخصوصية لا بُدَّ لهما من دليل.
فعن هذه المسائل وأمثالها نشأ تشعب الفقه واختلاف الفقهاء، وتمسك أهل كل قطر بأصل يعتمدون عليه ومذهبٍ يتدينون به.
1 عبد الباقي بن يوسف له ترجمة في خلافة الأثر للمحبي "2/ 287".
2 رواه أبو أيوب، متفق عليه البخاري "1/ 47"، ومسلم "1/ 154".
3 الترمذي "1/ 15".
4 متفق عليه: البخاري "1/ 48"، ومسلم "1/ 155".
صور من الخلاف الواقع في هذا العصر
…
فرق، ومن مثل هذا نشأ مذهبا الظاهرية، وأصحاب الرأي.
ومنها: ما رواه أصحاب الأصول من نزوله عليه السلام بالأبطح عند النّفر من الحج، فذهب أبو هريرة وابن عمر إلى أنه من النسك، فجعلاه من سنن الحج، وذهب ابن عباس وعائشة إلى أن كان اتفاقيًّا وليس من السنن، وهكذا الرمل في الطواف، كان ابن عباس يراه اتفاقيًّا لقول المشركين: حطمتهم حمى يثرب.
وليس من النسك، فذهب حكمه لزوال سببه، وذهب غيره إلى السنية.
ومنها: اختلاف الوهم:
مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج، فاختلفوا هل أفرد أو قرن أو تمتع، وفي هذا اختلاف عظيم بين الرواة الأثبات، ومعظم ذلك في الصحاح، حتى طعن بعض الملاحدة في السنة، لكن الذي مال لترجيحه الحافظ1، وابن القيم ما رواه بضعة عشر صحابيًّا، وهو أنه عليه السلام كان قارنًا، ورجَّح مالك أنه كان مفردًا حيث روته عائشة، ورحَّج ابن حنبل أنه متمتع، والمسألة فيها اختلاف عظيم كتب فيها الطحاوي2 ألف ورقة.
ثم اختلفوا: هل أهلّ من مسجد ذي الحُلَيْفَة أو حين استقلت به راحلته، أو على شرف البيداء، فقال ابن عباس: أهلَّ في تلك المواضع كلها، وكان الناس يتلاحقون، فمن سمعه أهلَّ في موضع ظنَّ أنه ابتدأ منه، وايم الله لقد أوجب في مصلاه بذي الحليفة، وإني لأعلم الناس بذلك. رواه أبو داود3.
ومنها: اختلافهم في علة الحكم، مثاله:
القيام للجنازة هل لتعظيم الملائكة فيخص بالمسلم، أو لهول الموت فيقام للمؤمن والكافر، أو لكونهم مروا بجنازة يهودي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن تعلو فوق رأسه فيكون القيام لها خاصًّا بالكافر.
1 ابن حجر في الفتح.
2 أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر. الجواهر المضية "1/ 102".
3 أبو داود في المناسك "2/ 150".