الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقه زمن الخلفاء الراشدين:
الخلفاء كان أمرهم شورى بينهم كما أمر الله في القرآن، وكان نظامهم دستوريًّا، ودستورهم الأساسي هو الفقه، فكان الفقه مدار سياستهم وروح حياتهم وبه تدبير ملكهم، وبصيانة الحقوق والوقوف عند حد الشريعة كانت حركة الإسلام سريعة حتى عمَّ لمشارق والمغارب كما سبق.
فكان الفقه زمن الخلافة أعظم مكانة مما هو عليه الحقوق عند الأمم المتمدنة الآن، كان الفقهاء هم أصحاب الشورى، وبيدهم التدبير وزمام كل أمر، ولا يصدر أمر قليل أو جليل إلّا بوفق الشريعة وعلى مقتضى الحق الذي لا مرية فيه، وللأمة منتهى ما يتصور من السيطرة والرقابة على متابعة الخلفاء لنصوص الشريعة وإشارة الفقهاء، وتحري اتباع الحق والواضح، والمحجبة البيضاء، ولم يثبت في تاريخ عربي ولا أجنبي انتفاد منتقد لهم بظلم أو سوء تصرف، بل اعترف الكل بأن عدلهم وحسن سلوكهم وصراحة طريقتهم هي التي أقادت لهم نواصي الأمم حتى ثُلَّت عروش ملوكها وخُرِّبَت دور دولها، لتبنى بها عظمة الإسلام، المتعشقين لعدله ونزاهة حكامه وخلفائه وعفتهم ورفقهم وتمشيهم خلف أوامر شرعهم لا يعدونه، وكانت نصوص الشريعة غضَّة طرية لم يدخلها كثرة التأويلات وتمحلات الفهوم المتكلفة.
كما أن حالة الإسلام الاجتماعية زمن الخلفاء لم يدخلها رفه كبير ولا ميل إلى الشمم والبذخ والملاذ والسفاسف التي ينشأ عنها تشغيب الأحكام وكثرة النوازل التي هي منشوء التأويلات، ولا سيما في زمن الخلفاء الأربعة، وبالخصوص زمن الاثنين الأولين، فإن عمر لما استقضاه أبو بكر مكث سنة لم يحضره خصمان متداعيان.
ولما وفد ذو الكلاع أحد ملوك اليمن على أبي بكر بثياب فخرة وتاج وبرود
وحلي وألف وصيف، ورأى زي أبي بكر ورثاثة ثيابه مع الهيبة التي آتاه الله، نبذ ذلك كله وتشبه بالخليفة، وقضية الهرمزان لما أوفدوه أسيرًا على عمر، فوجده نائمًا في المسجد دون حارس ولا شرطي، وقال له: عدلت فأمنت فنمت. معلومة، ولهذا لم يتغيّر الفقه عن سذاجته كثيرًا إلّا بعد ذلك1.
كان أبو بكر إذا نزلت به نازلة ولم يجدها في صريح كتاب الله أو سنة رسول الله جمع الفقهاء واستشارهم، روى أبو عبيد2، في كتاب "القضاء" عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه شيئًا قضى بها وإلا، فإن علم شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علم نبينا. فإن أعياه جمع رءوس الناس وخيارهم واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة يسأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.
وعن شريح3 أن عمر كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاء ما ليس كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر، ولا أرى التأخير إلّا خيرًا لك4.
وعن عبد لله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإن الله قد قدَّر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض فيه بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاء ما ليس في كتابه الله ولم يقض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقض بما قضى به الصالحون، ولا يقل لي إني خائف وإني أرى، فإن الحرام بيِّنٌ والحلال بيِّنٌ، وبين ذلك أمور متشبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك5. خرج هذه الآثار الدرامي.
وانظر تاريخ الخلفاء تجده مملوءًا بالقضايا الدالة على ما سبق.
1 الساذج معرب: ساده، وهو يقصد بعده عن التكلف، لكن اللفظة غير لائقة.
2 القاسم بن سلام الهروي.
3 ابن الحارث أبو أمية القاضي الكوفي في المشهور.
4 الدرامي "1/ 55".
5 الدارمي: "1/ 54".