الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما تمّيز به فقه عصر الخلفاء الراشدين:
أولًا: بنزول نوازل لم تنزل في العهد النبوي، فأظهروا أحكامًا بالاستنباط، وذلك تابع لاتساع دائرة الإسلام، ودخول كثير من الأمم فيه، وابتداء عصر التمدُّن العربي، فكان الفقه تابعًا لذلك، فبذلك ابتدء التوسع في التفريع والاستباط.
ثانيًا: فروعهم التي فرَّعوها كانت أقل من فروع مَنْ بعدهم لزيادة توسع دائرة الأمة بعدهم، ثم لعدم فرضهم الصور العقلية كي يجتهدوا في استنباط أحكامها، وإ نما استنبطوا حكم ما ينزل من النوازل بالفعل، كما كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يرون أن فرض الصور واستنباط أحكامها من التمحل في الدين وضياع الوقت النفيس.
ثالثًا: أن السياسة كانت تابعة للفقه، ولم يكن الفقه تابعًا للسياسة، كما وقع في الأزمان المتأخرة؛ لأن الأمة كانت شورية دستورية، فمهما نزلت نازلة فزعوا إلى الشورى، فلم تصدر الفتوى والحكم إلّا عن تبصر وحكمة، ولذلك قلَّّما يبقى الخلاف.
بخلاف الزمن النبوي الذي كان الخلاف فيه معدومًا، وبخلاف عصر مَنْ بعدهم الذي كثر فيه الخلاف لانعدام الشورى في غالبه، فمجلس أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ كان مجلس تشريع وفقه واستنباط ومشاورة، وخصوصًا الأولان منهم.
رابعًا: كان الفقه في زمن الخلفاء هو دستور الأمة، وللأمة نهاية ما يكون من السيطرة على مراقبة أتباعه وتنفيذ نصوصه، فكان للفقه والفقهاء من السيطرة ما ليس للحقوقيين الآن عند الأمم الراقية كما سبق.
خامسًا: وقوع الإجماع واتفاق الآراء في عصرهم غالبًا للأسباب التي
قدمنا وأهمها الشورى.
ولهذا قال أحمد وغيره من العلماء بتعذّر الإجماع بعدهم، لافتراق الأهواء بالشيعة والخارجية وفرقهما، ثم بتفرق العلماء والصحابة في الأقطار الشاسعة، فصار الخلاف إذا وقع بعدهم استحكم ولا يزول، لانبنائه غالبًا على سياسة قطر أو عادته، أو مبدأ من مبادئ الفرق وأحوال السياسة، فكل فريق يتعصب لنظريته، وقلَّما يتنازل عنها، فلا تجتمع الكلمة ولا يزول الخلاف؛ إذ ليس المقصود تبين الحق وإظهار حكم الله في مسألة، ولكن هي السياسة، يريدون تطبيق الفقه والدين عليها، وتحوير الفقه لأجلها لا تطبيقها وتحويرها على الفقه.
وذلك لم يكن منه شيء زمن الخلفاء الراشدين، بل كان الفقه أصلًا وحكمًا، والسياسة فرع ومحكومة له.
ومما زاد الدين صيانةً والفقه صراحةً زمن عمر، أنه كان منع المهاجرين وكبار الصحابة الخروج والانتشار في الأقطار التي فتحت، كما رواه الطبري عن الشعبي1، فما كان يسمع لهم في مفارقتهم المدينة إلّا برخصة منه مؤقتة لضرورة، فكانوا أهل شوراه، وبسبب ذلك قلَّ الخلاف وتيسَّر الإجماع في كثير من المسائل، أما عثمان فرخَّص لهم في الانتشار، وبه بدأ الخلاف والنزاع في الدين والسياسة معًا.
ولا ندَّعي أنه لم يقع خلاف زمن الخلافة، وإنما كان قليلًا:
فقد خالف عمر أبا بكر في أشياء، كاسترقاق أهل الردة، فإن أبا بكر استرقَّهم، أما عمر فإنه رأى خلاف ذلك، وبلغ خلافه إلى أن ردَّهن حرائر إلى أهلهن إلّا ما ولدت لسيدها منهن نقض حكم أبي بكر في ذلك، ومن جملتهن خولة الحنفية، أم محمد بن علي، الذي يقال له محمد بن الحنفية.
وخالفه في أرض العنوة؛ إذ قسمها أبو بكر ووقفها عمر، وفي العطاء كان أبو بكر يقسمه سوية، وفاضل فيه عمر على حسب السابقية.
وقد استخلف أبو بكر عمر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وفي الأمر سعة،
1 تاريخ الطبري "4/ 397".
لكن عمر توسَّط فتركها شورى بين ستة، بمعنى أنه أوصى بها لواحد منهم، يسميه خمسة منهم بأغلبية الأصوات.
كما أن عثمان خالف عمر في مسائل، وعليًّا خالفهما في مسائل يطول جلبها، وربما بعضها جملًا اعتراضية إن شاء الله تعالى.