الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال في زمنه عليه السلام:
تقدَّمَ أن الاستدال هو ما ليس بنصٍّ أو إجماع ولا قياس، وله أنواع خمسة:
التلازم بين حكمين:
هو نوعة الأول، وهو راجع في الحقيقة إلى الاستدلال بالأقيسة المنطقية الاقترانية والاستثنائية، ولا شك أن هذه المصطلحات لم تكن موجودة في العصر النبوي بهذه الكيفية الموجودة عند المناطقة، وإنما حدثت عند المسلمين بعد ما ترجموا كتب اليونان، لكنها أمور عقلية، معانيها مرتكزة في العقول السليمة، وإن لم يعبر عنها بالعبارات المصطلح عليها، وقد اختلفوا: هل الأشكال الأربعة عند المناطقة موجودة في القرآن أم لا؟ ومن أثبتها استدل بقصة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} 1 الآية.
واستدل أيضًا بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2، وبقوله تعالى:{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} 3 الآية. إلى غير ذلك.
أما في الفقهيات فمدار احتجاج الصحابة وأهل الصدر الأول الذين لم تكن لديهم هذه المصطلحات على انبلاج الحجة وثلج الضمير، أو ظهور الأمارات على الحكم بوجود ما جعل علامة عليه، ولذلك لا يجد الباحث في استدلالهم تصريحًا بكونهم احتجوا بالشكل الأول أو الثاني مثلًا. نعم من شاء أن يستخرج ذلك بنوع تكلف فليس ببعيد الوجود، ويمكن أن يخرج على ذلك حديث الصحيح "ما أنهر الدم وذُكِرَ اسم لله عليه فكل ليس الظُّفر والسن، وسأحدثكم
1 الأنعام: 76.
2 الأنبياء: 22.
3 الأنعام: 91.
عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فسُدَي الحبشة" 1، قال البيضاوي2: هو قياس حذفت مقدمته الثانية لشهرتها عندهم، والتقدير: أما السن فعظم، وكل عظم لا يحل الذبح به، وطوى النتيجة لدلالة الاسثناء عليها، قال ابن الصلاح3: هذا يدل على أنه كان عليه السلام قرر لهم أن لا تحصل به ذكاة، فلذلك اقتصر على قوله: "فعظم"، قال: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل.
ويمكن أن يخرج على ذلك أيضًا حكم سعد بن معاذ، فيقال: بنو قريظة حاربوا، وكل من حارب تقتل مقاتلته، وتسبى نساؤه وذراريه، فتكون النتيجة: بنو قريظة تقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. دليل الصغرى نقضهم العهد وممالأتهم قريشًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحزاب، والكبرى ظاهرة، ويمكن أن يخرَّج على ذلك بعض القضايا السابقة أيضًا، وذلك غير خفي على من له معرفة بالمنطق، أما من ليس له به معرفة فلا فائدة في الإكثار عليه.
الاستصحاب:
هو النوع الثاني: وهو كما قال الزركشي4 أنواع:
الأول: استصحاب ما دلَّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العول المقتضى له، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، ودوام الحل في المنكوحات بعد تقرر النكاح، وهذا لا خلاف في وجوب العمل به.
الثاني: استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية، كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره؛ كنفي صلاة
1 رواه الجماعة: البخاري في الذبائح:"7/ 118"، ومسلم في الأضاحي "6/ 78"، والترمذي في الأحكام "4/ 81"، وأبو داود "3/ 102"، والنسائي "7/ 199"، وابن ماجه "2/ 1061".
2 أبو الخير: عبد الله بن عمر البيضاوي. ت: 698، ترجم له المؤلف في القسم الرابع.
3 أبو عمر عثمان بن الصلاح الموصلي. ت: 643، ترجم له المؤلف في القسم الرابع، وانظر طبقات الشافعية "8/ 326".
4 بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، ت ستة 794هـ. "الدرر الكامنة""4/ 17".
سادسة، وهو استصحاب البراءة الأصلية الآتية، قال القاضي أبو الطيب1: وهذه حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع.
الثالث: استصحاب الحكم العقلي إلى أن يَرِدَ الدليل الشرعي، وهذا مذهب اعتزالي؛ إذ العقل يحكم عندهم في بعض الأشياء إلى أن يرد دليل الشرع، ولا خلاف بين أهل السنة في إلغائه في الشرعيات.
الرابع: استصحاب الدليل الشرعي مع احتمال المعارض؛ إما تخصيصًا إن كان الدليل ظاهري أي: عامًّا، وإمَّا نسخًا إن كان الدليل نصًّا، وهذا معمول به إجماعًا، لكن لا يمسي استحصابًا عند المحققين كإمام الحرمين، لأن ثبوت الدليل من حيث اللفظ لا من حيث الاستصحاب.
الخامس: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع، وهو راجع إلى الحكم الشرعي، بأن يتفق على حكم في حالة، ثم تتغير صفة المجمع عليه فيختلفون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال. مثاله: إذا استدلّ من يقول: إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدل على أن رؤية الماء مبطلة، وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد، وهذا النوع هو محل الخلاف، فذهب القاضي والشيرازي2 وغيرهما إلى أنه ليس بحجة، قال أبو منصور3: وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف، واختار الآمدي وابن الحاجب4 قول داود وغيره بالاحتجاج به، قال الشوكاني: وهو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باقٍ على الأصل، قائم قي مقام المنع، فلا يجب عليه
1 طاهر بن عبد الله الطبري: ت سنة 450، ترجم له المؤلف في القسم الرابع.
2 إذا أطلق القاشي عند الأصوليين فهو أبو بكر الباقلاني، ت: سنة 304هـ. والشيرازي هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي، صاحب "المهذب" في فقه الشافعية، ت ستة 472هـ، وقد ترجم لهما المؤلف في أواخر القسم الرابع.
3 عبد القاهر بن طاهر التميمي أبو منصور البغدادي، ت سنة 429هـ. "طبقات الشافعية للسبكي""5/ 136".
4 الآمدي: هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد، ت سنة "464هـ"، وقد ترجم له المؤلف في القسم الرابع.
الانتقال عنه إلّا بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به.
ولا يخفى أن النوع الأول والثاني من الاستصحاب لا يخلو منهما الزمن النبويّ، إذ هما ضروريان، بخلاف الثالث؛ لأن الصحابة ما كانوا يرون أن للعقل حكمًا في الشرعيات، أما الرابع فمهمًّا لا يخلو منه الزمن النبوي أيضًا، بخلاف الخامس؛ لأن الإجماع غير متصور في زمنه عليه السلام.
شرع من قبلنا شرع لنا:
وهو النوع الثالث من الاستدلال، قال الحنفية: إنه من الأدلة الشرعية التي هو أصل الفقه ومادته، وقال القاضي عبد الوهاب1: إنه الذي تقتضيه أصول مالك، واستدلوا له بقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} 2 وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 3 وبحديث الصحيح: "أنه عليه السلام كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"4.
ولكنَّ هذا كله فيما بلغنا أنه شرع مَنْ قبلنا على لسان نبينا، أو ممَّن كان ثقة مأمونًا كعبد الله بن سلام، ولم يثبت نسخه ولا تخصيصه، وإلا فالقرآن رفع الثقة بكتبهم حيث قال:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} 5 الآية. وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 6، وتقدَّمَت الإشارة إلى هذا في أول القسم.
ومن وقوعه في الزمن النبوي ما ثبت في الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء، فسأل عن ذلك فقالوا: يومًا نجى الله فيه موسى، فقال: "نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه" 7. وللمانع أن يدعيَ أن الصيام كان بوحي، ولكنه خلاف ظاهر القصة، ومنه قضية ابن عباس: أنه سجد
1 عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي، ت سنة 422هـ، ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع.
2 الأنعام: 90.
3 النحل: 123.
4 متفق عليه: البخاري في مناقب الأنصار "5/ 90"، ومسلم في الفضائل "7/ 83".
5 البقرة: 79.
6 المائدة: 48.
7 متفق عليه: البخاري في مناقب الأنصار "5/ 89"، ومسلم في الصوم "3/ 149".
في صلاة وقرأ قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 1، فاستنبط التشريع من هذه الآية2.
ومن ملحقات هذه المسألة: هل كان عليه السلام متعبدًا قبل البعثة بشريعة إبراهيم، لما عرف في كتب السيرة من كونه عليه السلام كان كثير البحث عنها، عاملًا بما بلغ إليه منها، وأمر باتباعها بعد البعثة {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 3 أو بشريعة آدم أو نوح أو غيره.
أقول: قال إمام الحرمين4: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة، بل هي مسألة تاريخية تحتاج إلى أن تؤيد بنقل صريح وأين هو؟ ونحوه للمازري5.
الاستحسان:
وهو النوع الرابع من الاستدلال، وقد اختلفوا في الاستحسان ما هو؟ كما اختلفوا في كونه حجة أم لا، فقال به الحنفية والحنابلة والمالكية، وأنكره الشافعي، حتى روي عنه أنه قال: من استحسن فقد شرَّع. مثاله: رشد اليتيم، قال الله فيه:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 6 استحسن الحنفية أنه بلغ خمسًا وعشرين سنة فقد رشدن؛ لأنه مظنَّة الرشد، فيمكَّن من ماله، وخالف الشافعية والمالكية فقالوا: لا بُدَّ من ثبوته بالبينة كما هو مقتضى القياس، ومن ذلك أخذ ضامن درك العيب والاستحقاق بعد، والاستحسان يوجبه في حاضرة. القياس لا يوجبه لعدم وقوع استحقاق بعد، والاستحسان يوجبه عند مالك وغيره لضرورة تصوين أموال الناس وتسهيل معاملة البدوي، وقال جماعة من المحققين: الحق أنه لا يتحقق الاستحسان المختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورًا لا تصلح للخلاف، لأن بعضها مقبول اتفاقًا وبعضها متردد بين
1 الأنعام: 90.
2 البخاري في التفسير "6/ 155".
3 النحل: 123.
4 عبد الملك بن أبي محمد بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي، ت سنة 478هـ، ترجم له المؤلف في القسم الربع.
5 محمد بن علي بن عمر التميمي المالكي، ت سنة 536هـ، ترجم له المؤلف في القسم الرابع.
6 النساء: 6.
ما هو مقبول اتفاقًا وبين ما هو مردد اتفاقًا، فأما من عرَّفَه بأنه: دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه، فإمَّا أن يكون انقداحه في نفس المجتهد بمعنى تحقق ثبوته، فعمله به واجب، وهو مقبول اتفاقًا، وإمَّا أن يكون بمعنى أنه شاكٌّ فيه، فهو مردود اتفاقًا، ولا تثبت الأحكام بالاحتمال والشك، وقال الغزالي1 في المستصفى: إنه هوس؛ لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال، أو تحقيق، ولا بُدَّ من ظهوره ليعتبر بأدلة الشرع لتصحيحه أو تزيفه2.
وأما من عرَّفَه كاللخمي3 في التبصرة بأنه: كون الحادثة مترددة بين أصلين أحدهما أقوى بها شبهًا أو أقرب إليها، والآخر أبعد، فيعدل عن القياس، على الأصل القريب إلى القياس على الأصل البعيد لجريان عرفه، أو ضرب من4 المصلحة، أو خوف مفسدة، أو ضرب من الضرر، كما نقله التسولي5 في الرهن، وكذلك من عرَّفه بأنه: العدول عن قياس إلى قياس أقوى، أو تخصيص قياس بأقوى منه؛ كتخصيص العرايا من منع بيع الرطب بالتمر، وهو معنى قول ابن العربي6 في الأحكام: اتفق المالكية والحنفية على أن الاستحسان الأخذ بأقوى7 الدليلين،..............................................
1 أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ت سنة 505هـ، انظر ترجمته في القسم الرابع.
2 المستصفى "1/ 281".
3 علي بين محمد الربعي، فقيه مالكي. ت سنة 478هـ "الديباج المذَّهب""2/ 104"، قد ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع.
4 قال المؤلف رحمه الله: مثاله: الطلاق بلفظ الثلاث، متردد بين أن يقاس على أمثاله من العقود كالبيع والنكاح، فيشترط في وقوعه توفر الشروط الشرعية، فلا يلزم منه الآن إلا ما ألزمه الشرع، فلا يقع إلا واحدة، وبين أن يقاس على الأيْمَان والنذور التي ما التزمه المكلف منها لزمه على أي صفة كان، فألحقه عمر بن الخطاب بالثاني، وإن كان الأول أقرب شبهًا لضربٍ من المصلحة.
5 عليّ بن عبد السلام التسولي، له كتاب البهجة شرح التحفة، في أحكام القضاء والوثائق، ت سنة 1258هـ، انظر ترجمته في القسم الرابع من الكتاب.
6 أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري المالكي، ت سنة 543هـ. انظر ترجمته في أوائل القسم الرابع من الكتاب.
7 قال المصنف رحمه الله: يمثل له بالجد في الميراث تعارض فيه دليلان: الأول قيامه مقام الأب في عدم الاقتصاص منه لحفيده، وعتقه عليه وعدم شهادته له بإجماع، وهذه الأحكام تقتضي أن يكون أبًا يحجب الإخوة مطلقًا، وبه قال الصديق والحنابلة وأبو حنفية، =
ونحوه للباجي1، فهذا مقبول اتفاقًا ممن يقول بالقياس، قال ابن السمعاني2: إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليل، فهو بطل ولا أحد يقول به، وإن كان هو العدول عن دليل إلى دليل أقوى منه، فهو مما لم ينكره أحد، ثم ذكر أن الخلاف لفظي.
وقال الشيخ بناني3 في حواشي الزرقاني، أول باب الاستحقاق عن المراق ما نصه: روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم.
وقال ابن رشد في سماع أصبع من كتاب الاستبراء: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أغلب من القياس، هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلوٍّ في الحكم ومبالغة فيه، 4 فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنًى يؤثر في الحكم، فيختص به ذلك الموضع، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام.
= والثاني: أن ابن الأخ الذي يدلي بالأخ مقدَّم على العمِّ الذي يدلي بالجد بإجماع، وهذا يقتضي تقديم الإخوة عليه، إلّا الإخوة لأم، لكن عارضه أن الجد أب ما، وهو تعدد النسب، والأخ ليس بأصل ولا فرع، لذلك أعطيناه رتبة أعلى من الأخ، وأدنى من الأب، فيحجب الإخوة لأم إذ هم ذوو رحم من أصل، ويقاسم الأشقاء أو لأب إذا كانت المقاسمة خيرًا له، وإلّا تحافظنا له على الثلث مع عدم ذي الفرض، وعلى السدس أو ثلث الباقي إذا كان معهم ذو فرض يضيق عليه وعليهم، فهذا استحسان من زيد بن ثابت، وبه قال الشافعي ومالك على ضعف هذه الحجة وقوة الأولى نظرًا. فتأمله.
1 سليمان بن خلف الباجي الأندلسي، أخذ عن أبي الأصبغ وأبي محمد مكي وغيرهم، وروى عن الحافط أبي بكر الخطيب، وأخذ عنه ابن عبد البر، وبينه وبين ابن حزم مناظرات، قال القاضي عياض: حاز الرئاسة بالأندلس، فسمع منه خلق كثير، وتفقَّه عليه خلق، وممَّن تفقه عليه أبو بكر الطرطوشي، ت سنة 474هـ، الديباج المذهب" "1/ 37". وقد ترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع.
2 أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار، ت سنة 489هـ. "طبقات الشافعية للسبكي""5/ 335"، وانظر ترجمته في القسم الرابع من الكتاب.
3 محمد بن الحسن البناني الفاسي، ت سنة 1194هـ، ترجم له المؤلف في أواخر أصحاب مالك في القسم الرابع من الكتاب.
4 قال المؤلف رحمه الله: مثاله الأخ الشقيق مع الأخوة لأم في الحمارية والمشتركة، فإن طرد القياس يؤدي إلى غلوٍّ في الحكم، هو حرمان الأشقاء مع أن الأم التي استحقَّ بها الأخوة للأم شاركوها فيها، وكونهم أبناء أبي الميت لا يزيدهم إلا قربًا، لذلك ألغينا هذا القياس لمعنى يؤثر في الحكم، وشاركوهم في الثلث، والشافعي يقول بهذا كمالك، فلزمه القول بالاستحسان، ولو سماه بغير اسمه.
ومن الاستحسان مراعاة الخلاف وهوأصل في المذهب، ومن ذلك قولهم في النكاح المختلف في فساده أنه يفسخ بطلاق، وفيه الميراث، وهذا المعنى أكثر من أن يحضر.
وأما العدول عن مقتضى القياس في موضوع من المواضع استحسانًا لمعنًى لا تأثير له في الحكم، فهو مما لا يجوز بالإجماع؛ لأنه من الحكم بالهوى المحرم بنصِّ التنزيل، قال تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} 1 الآية "بخ"2.
وقال ابن العربي في أحكام سورة الأنعام ما نصه، وبهذه الآية أعني قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} 3 الآية. أنكر جمهور من الناس على أبي حنيفة القول بالاستحسان، فقالوا: إنه يحرّم ويحلل بالهوى من غير دليل، وما كان ليفعل ذلك أحد من أتباع المسلمين، فكيف أبو حنيفة وعلماؤنا من المالكية كثيرًا ما يقولون القياس كذا في مسألة، والاستحسان كذا. والاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين، وقد بينَّا ذلك في مسائل الخلاف، نكتته أن العموم إذا استمرَّ والقياس إذا اطَّرَد، فإن مالكًا وأبا حنفية يريان تخصيص العموم بأيّ دليل كان من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويرى مالك وأبو حبيفة تخصيص القياس ببعض العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصًا، ولم يفهما الشريعة من لم يحكم بالمصلحة، ولا رأى تخصيص العلة، وقد رام الجويني رد ذلك في كتبه المتأخرة التي هي نخبة عقيدته ونخيلة فكرته، فلم يستطع، وفاوضت الطوسي الأكبر 4 في ذلك وراجعته حتى وقف، وقد بينت ذلك في المحصول والاستيفاء بما في تحصيله شفاء، فإن قال أصحاب الشافعي: فقد تاخمتم هذه المهواة، وأشرفتم على التردي في المغواة، فإنكم زعمتم أن اليمين يحرم الحلال، ويقلب الأوصاف الشرعية، ونحن براء من
1 ص: الآية 26.
2 اصطلاح يعني: باختصار.
3 الأنعام: 136.
4 لعله عبد الرزاق بن عبد الله بن علي بن إسحاق أبو المحاسن شهاب الدين الطوسي، كان قد تفقه على إمام الحرمين الجويني، ت بنيسابور سنة 515 هـ، "النجوم الزاهرة""5/ 222"، "طبقات الشافعية للسبكي""7/ 168". "عبد العزيز القارئ".
ذلك. قلنا: هيهات ما حرمنا إلا ما حرم الله، ولا قلنا إلا ما قال الله، ألم تسمعوا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1.
قلت: إن الشافعي أيضًا لم يخل من الاستحسان، فقد ثبت عنه: أن أمد الحمل أربع سنين، مع أن القياس يقتضي أن يكون تسعة أشهر؛ لأنه غالب ما يقع، والشريعة جاءت بالحكم بالغالب، فقد حكمت بأن ثلاثة قروء جريًا على الغالب في استبراء الرحم بالحيض، مع اتفاقهم على أن الحامل قد تحيض نادرًا، وقال أبو حنفية: سنتان، وعن أحمد روايتان كالقولين، وروي عن مالك: خمس سنين، وبه الفتوى، وعنه أربع، وهما قولان مشهوران في المذهب، وروي عنه سبع سنين، وروى أشهب إلى أن تضع ولو طال ما طال، وصحَّحَه ابن العربي. وقيل: ست سنين، وقيل: ما يراه النساء، وقال الظاهرية ومحمد بن الحكم: تسعة أشهر تمسكًا بالغالب الذي هو القياس، ومستند الأقوال السبعة قبله هو الاستحسان محافظةً على النسب، وسدًّا للذرائع، وسترًا على النساء اللاتي يقعن في ذلك؛ لأن إثبات الزنا عليهن صعب كما أشار له القرافي في الفرق "175"2، فلهذا ترك الغالب، واعتبرت الصورة النادرة وإن لم يكن في المسألة نص من الشرع قاطع، وقول بعض الناس: إن نساء أوربا وأطباءها مجمعون على أن الجنين لا يمكن أن يمكث في البطن أكثر من تسعة أشهر وشيء يسير فغير مسلّم، فإن بعض أطبائهم قال بمثل ما يقول فقهاؤنا، فلا إجماع عندهم، سلمنا، فليس بحجة ولا من نوع الإجماع، بل هو استقراء ناقص لعدم تتبع نصف أفراد النساء، بل لا يتصور تتبع عشر العشر، وما لم يستقرأ فيه الأفراد فلا حجة فيه، على أن حجة الفقهاء في العمل بالنادرة قياسها على أقل الحمل، حيث اعتبر القرآن فيه النادرة احتياطًا، ولنا رسالة في المسألة.
ثم إن وقوع الشافعي في الاسحسان لعله هو الذي حمل ابن عربي في الفتوحات على تأويل مقالته السابقة على المدح فقال: مراده إن من حسن فقد
1 التحريم: 1.
2 أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، أحد الأعلام من المالكية، له تصانيف كثيرة منها "الذخيرة" في فقه المالكية، "والأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام". ت. سنة 684هـ، ودفن بالقرافة بمصر "الديباج المذهب""1/ 236"، وترجم له المؤلف في أوائل القسم الرابع.
صار كنبيٍّ ذي شريعة، وأن أتباعه لم يفهموا كلامه على وجه، على أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي عندي محمولة على الاستحسان المحرَّم بإجماعهم، وسبق بيانه في كلام ابن رشد.
ومنه عندي استحسان المتنطعين أن يقطع المتسحِّر الأكل قبل الفجر بنصف ساعة فأكثر، لمخالفت لحديث:"إن بلالًا يؤذن بليل، فلكوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، رواه مسلم1، وقد ورد تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية2.
ومقتضى الحديث الأول أن الفصل بخمسين آية ليس بمطلوب، قال النووي: في الحديث الثاني الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر، ومقدار قراءة خمسين آية أقل من خمس دقائق، ومنه أيضًا القيام عند ذكر الولادة النبوية مع ورود النصِّ، بل النصوص الصحيحة الصريحة بالنهي عنه، انظر رسالتنا "صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد"، ورسالتنا:"الحق المبين في الرد على من ردَّ عليها وهو صاحب حجة المنذرين"3.
الاستحسان في العصر النبوي:
يمكن أن يخرّج عليه حكم سيدنا عليّ لما كان في اليمن بين ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد بأن يقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة لحق به الولد، وأدى
1 متفق عليه: البخاري "3/ 37"، ومسلم "3/ 128".
2 متفق عليه: البخاري "3/ 37"، ومسلم "3/ 131".
3 أخرج الترمذي "5/ 9"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قلت: وكيف لا يكرهه صلى الله عليه وسلم وقد نهى عنه وقال: "من أحب أن يتمثَّل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الترمذي "5/ 9" وأبو داود "4/ 358"، إلّا أنه:"يمثل" بدل: "يتمثل" فقيام المبتدعة عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفلات الموالد مخالفة صريحة للسنة النبوية، وإصرار على ما كان يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم.
للآخرين ثلثي الدية، وصوَّب النبي صلى الله عليه وسلم حكمه، روى القصة الإمام أحمد في مسنده من طريق زيد بن أرقم وأبو داود والنسائي1، وقد ورد في أعلام الموقعين.
1 أخرجه أبو داود "2/ 281"، والنسائي 6/ 150"، وأحمد "4/ 374".
2 "2/ 62".