الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد الثالث: منزلة الفقه في الإسلام
اعلم أن الفقه الإسلامي جامعة ورابطة للأمة الإسلامية، وهو حياتها تدوم ما دام، وتنعدم ما انعدم، وهو جزء لا يتجزء من تاريخ حياة الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها لم يكن مثله لأي أمة قبلها، إذ هو فقه عام مبين لحقوق المجتمع الإسلامي بل البشري، وبه كمل نظام العالم، فهو جامع للمصالح الاجتماعية بل والأخلاقية، وهو بهذه المثابة لم يكن لأي أمة من الأمم السالفة، ولا نزل مثله على نبي من الأنبياء، فإن فقهنا بيَّنَ الأحوال الشخصية التي بين العبد وربه؛ من صلاة وصوم وزكاة وحج ونظافة كغسل البدن كلًا من الجنابة أو للجمعة أو للعيدين، أو بعضًا وهو الوضوء عند أداء الفرائض الخمس في اليوم والليلة، وسن أمور الفطرة من ختان وقص شارب والسواك وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة.
ففي صحيح مسلم عن سلمان: قال لنا المشركون: إني1 أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحد بيمينه أو يستقبل القبلة، ونهانا عن الروث والعظام وقال:"لا يستنجي أحدكم بأقل من ثلاث أحجار"2.
وأرشدنا الفقه إلى تجميل الثياب في الجمعة والعيدين، ومسّ الطيب، وآداب الأكل والشرب، وما يؤكل ويشرب وما لا، كما أرشد إلى تحسين حال المجتمع
1 قال المؤلف رحمه الله: انظر إلى هذا الاعتراض من المشركين على الشيء الحسن الجميل، يريدون قلبه إلى ضده حسدًا وعنادًا، قال تعالى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} .
2 في مسلم بلفظ
…
وقال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار""ج1/ 154".
العام، فأرشد إلى ما يحفظ الصحة وتجنب ما يضرها، وهذَّب الأخلاق فأمر بالصدق في المعاملات والوفاء بالعقود والعهود، وأوجب ترك الذنوب من زنى وخمر وغيبة ونميمة وقذف وسعاية وشهادة زور وانحراف في الأحكام أو تحريف لحلال أو حرام وغير ذلك، فلو أن المسلمين عملوا بأحكام الفقه والدين كما كان آباؤهم لكانوا أرقى الأمم وأسعد الناس.
كما أنه جعل للفقراء حظًّا في مال الأغنياء بالزكوات والكفَّارات، وهذا أساس المبادئ الاشتراكية المعتدلة، والأعمال الخيرية التي تأسَّست لها الجمعيات الكبرى في أوربا1.
كما شرع الحج ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به؛ ليستفيد بعضهم من بعض علومهم وأحوالهم، فيتعاونوا ويتآزورا، وفي ذلك إعانة لأهل الحرمين الشريفين، ليكونا مركزين عظيمين للإسلام، كما شرع اجتماعات أخرى أصغر وأيسر في الجُمَعِ والأعياد.
وبيَّنَ كيفية تأسيس العائلات، فندب إلى الزواج وحثَّ عليه، وبيَّنَ العقود التي تعتبر زواجًا، وشروطها من وليٍّ وصداق وشهود، وما خالفها فهو زنى أو قريب منه في حق الأمة دون الرسول فله في ذلك خصوصيات، ورخَّص في الصلاق لما عسى أن يقع من تشاجر الزوجين. وما يتعلق بذلك من نحو إيلاء وظهار.
كما بيَّنَ آداب دخول البيوت من الاستئذان والسلام، وجعل احترامًا خاصًّا لكل إنسان، هو ما يعبَّر عنه بالحرية الشخصية، وسدل الحجاب بين الرجال والنساء الأجنبيات محافظة على النسل، وإبعادًا للمظنة، وإراحة لكل ضمير. وجعل ضوابط للنسب والقرابة والرحم، ومن يعد قريبًا من نسبك أو رحمك ومن لا، حتى الولائم جعل لها آدابًا.
وبيَّنَ أحكام المعاملات من بيع وإجارة ورهن وقرض وقراض وشركة وإبضاع، وغيرها من المعاملات المالية التي تقتضيها القاعدة التي عليها منبيٌّ علم الاجتماع، وهي أن الإنسان مدني الطبع محتاج إلى أبناء جنسه، فهو
1 يبدو أنه لم يكن اتضح بعد حقيقة هذه الجمعيات المشبوهة واضطلاع دور اليهود في إدارتها لخدمة أغراضهم الدنيئة.
مرشد إلى تأليف الجمعيات للتعاون في هذه الدار على الاقتصاد مانع من الربا الذي به خراب الجمهور من الأمة، كما أنه مبيِّنٌ لفصل الخصومات سواء في المال أو الدماء أو الأعراض.
وبيَّنَ ما يلزم لحفظ المجتمع العام من نصب الإمام وشروط استحقاقه للإمامة، وما يجب له من الطاعة، وعليه من المشهورة والعمل بالشريعة وإقامة العدل بين أصناف الرعية مسلمين أو غير مسلمين.
ثم قسم السلطة فجعلها خططًا1، وهي الإدرات المدنية، ومنها القضاء، فحدَّد للقاضي خطته وبيَّنَ للشاهد كيفية توثيق الحقوق، وأمر بكتبها وتبيانها وعدم كتمانها. وهكذا خطة المحتسب، ثم بقية الخطط، وحكم على من خرج من طاعة الإمام أن يقاتل، وإذا وقع حرب من أمة أجنبية فبيَّن القواعد الحربية، ثم السلمية، وأمر بحسن الجوار، وإقامة الحدود على من أخاف السايلة، أو خالف نصوص الشريعة، وبيَّنَ التأديبات والزواجر والقصاص ورفع الأضرار.
وبالجملة قد استقصى الشئون الاجتماعية وبيَّنَها، حتى دخل مع الرجل لبيته وحكم بينه وبين زوجته، فبيَّنَ ما له وما عليه، وفصَّل ما عسى أن يقع بينهما من الخصومة، حتى حكم بين الرجل وولده، وبينه وبين نفسه، حتى بعد مماته بيَّنَ قسم ميراثه ودفنه وقبره، ثم أوصى بأيتامه خيرًا، وبيَّنَ كيف يوصي على أولاده، وبيَّنَ قدر ما يوصي به، وكيفية الحجر على السفية والترشيد.
كل ذلك لينتظم أمر الحياة، ويعيش المسلم عيشة منتظمة يتفرغ معها لإعداد الزاد ليوم المعاد.
فالفقه الإسلامي نظام عام للمجتمع البشري لا الإسلامي فقط، تام الأحكام لم يدع شاذة ولا فاذة، وهو القانون الأساسي لدول الإسلام والأمة الإسلامية جمعاء، وإن انتظام أمر دول الإسلام في الصدر الأول وبلوغها غاية لم تدرك بعدها في العدل والنظام لدليل واضح على ما كان عليه الفقه من الانتظام وصراحة النصوص وصيانة الحقوق ونزاهة القائمين بتنفيذ أوامره مما لا يوجد الآن، ودليل عى ما كان لهاتيك الدول من التمسك بحبله المتين، وما
1 قال المؤلف رحمه الله: قد أنهى الشيخ علي الخزاعي الخطط والعمالات والحرف الشرعية إلى نيف وخمسين ومائة خطة في كتابه "تخريج الدلالات السمعية" فانظره.
دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجًا، واتسعت دائرة الإسلام، فانتشرت الأمة الإسلامية مادَّةً جناحيها من نهر الفانج في الهند شرقًا، إلى أفريقيا، ثم إلى أواسط أوروبا في زمن قليل إلّا باحترام الحقوق، والعلم بقواعد الفقه الإسلامي، والتسوية بين جميع أجناس البشر التي كانت تحضنها في العدل، وجمع شتات مكارم الأخلاق ومحاسن المعتقدات، وهذه التواريخ العربية وغيرها لم ينتقد واحد منها نظام العرب الذي كانوا عليه، بل مدحوه بما لم يمدحوا به غيره، واقتبسوا منه، واختارته الأمم على ما كان من الأنظمة، فانصرفت عنها إليه، وثلث عروش ملوكها من أجله.
فالأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه، ولا رابطة ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقائد الإسلام، ولا تتعصَّب لأي جنسيبة، فهي دائمة بدوام الفقه، مضمحلة باضمحلاله، فمهما وجد أهل الفقه واتبعوا كانت الأمة الإسلامية، ومهما انعدم الفقه والفقهاء لم يبق للأمة اسم الإسلام.
ويجب على كل أمة إسلامية أرادت سنَّ قانون أو دستور أن تراعي هذا المبدأ حفظًا للجامعة الإسلامية.
ثم لما نهضت أوربا نهضتها المعروفة للرقي العصري، فأول حجر وضعته في أساس مدنيتها الزاهرة هو العدل وسن القوانين بالتسوية في الحقوق؛ إذ لا يعقل أن تترقَّى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها مظلومة، والكل يعلم أن بعض قوانينها مقتبسة من الفقه الإسلامي؛ كقانون نابليون الأول وغيره من ملوك أوروبا، فالفقه الإسلامي أصل التمدن العصري الحديث، والفضل كل الفضل في احترام الحقوق وصيانتها وتشييد منارها للإسلام والفقه الإسلامي. ومن مكارم الفقه الإسلامي، بل من معجزاته، أنه تمَّ نظامه وجمعه في مدة نحو عشر سنين كما يأتي في الطور الأول، فلم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدار الآخرة حتى تركه تامّ الأصول، ولم يمض على الأمة قرن ونصف حتى ألفت تآليف مهمة في فروعه، وبسط أحكامه وتطبيق أصوله على فروعه، وهذا لم يكن للأمم قبلنا، فهذه أمة الرومان التي يتبجح أهل التاريخ بقوانيها، ويعدونها أصل التمدن الحديث، لم ينضج فقهها ولا جمع نظامها إلا على عهد القيصر جوستينيان سنة 565 قبل الهحرة بسنتنين "57" سبع وخمسين، بعد مضي ثلاثة عشر قرنًا من حياة الرومان، ذلك ما يدلك على مكانة
الفقه الإسلامي وأنه بوحي سماوي ودين متين.
ثم نقول والحق أحق ما يقال: لم يوجد شرع مزج بين المصالح الدينية والدنيوية، وصيَّر هذه عين هذه، وبيَّن قانون الاجتماع البشري والعدالة التامَّة بوجه يعم جميع المصالح الاجتماعية كالشرع الإسلامي، ولذلك كان الخليفة الأعظم عندنا رئيسًا دينيًّا ودنيويًّا معًا، فهو جامع وظيفتين عظيمتين، ولذا عرفوا الإمامة العظمى بأنها: رياسة عامة في الدين والدنيا تجب للمتصف بها أن يطاع فيما يستطاع.
أما القوانين الوضعية فلا تعلق لها بأمر العبادة والآداب النفسية، وإنما هي ضبط لمعاملة الأفراد والأمم بتبادل المصالح، وأيضًا الفقه الإسلامي هو بأمر إلهي، فالعمل به طاعة الرب، والعامل به له أمل الثواب في الآخرة، وعدم العمل به معصية متوعد عليه بالعقاب الأخروي، زيادة عمَّا تقرر فيه من العقوبات الدنيوية، فهو أمس بالنظام من بقية الشرائع والقوانين التي هي من وضع البشر.
فالفقه الإسلامي من مفاخر الأمة الإسلامية، كيف لا وهو مؤسَّسٌ على روح العدل والمساواة واحترام الحقوق الخاصة والعامة والنظام الأتم، وتقرير الملك1 لذويه، واحترام النواميس الطبيعية، وقد اعتبر درء المفاسد فقدَّمَه على جلب المصالح، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، ولا ضرر ولا ضرار، وتقديم الأهم على المهم، وبنيت أحكامه على الاعتدال لا إفراط وتفريط، واعتبر الأعراف والعوائد، فأحكامه يتغير الكثير منها بتغير الأحوال، كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وكما قال زياد بن أبيه لأهل البصرة في خطبته الشهيرة: قد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثت لكل ذنب عقوبه. فهو صالح لكل أمة وكل مكان وكل زمان، ولهذا كان لا ينسخ، وكانت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الأمم إلى يوم القيامة.
1 قال المؤلف رحمه الله: المِلك بكسر الميم.