الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختراع الشافعي لعلم أصول الفقه الذي هو كفلسفة الفقه:
لما وجد الشافعي أن الذين رحلوا من المحدثين واستقصوا السنة وجمعوها من الأقطار كإسحاق1، وأحمد، وابن وهب2، ونظائرهم، اجتمع لديهم منها شيء كثير يعدُّ بمئات الآلاف، بعد أن كانت طبقة مالك وابن عيينة ونظرائهم لا يجتمع لها منها إلّا الألف والأربعة الآلاف إلى عشرة أو عشرات الألوف لاقتصارهم على سنن بلدهم، فوقع التضارب والتعارض بين ظواهر تلك السنة الكثيرة.
فاخترع الشافعي طريقة للجمع والتوفيق وتبيين كيفية استعمال المجتهد له، وقوانين الاستنباط منها ومن الكتاب العزيز ليمكِّنه تخليص مذهبه وتأسيسه على أساس متين، وفي القواعد التي سميت علم الأصول، وأوجب عليه القيام بهذا العمل دخول الدخيل في لسان العرب، وامتزاج اللغة بلغة الأعاجم، وضعف المدراك عن فهم مقاصد الشريعة بسبب ذلك، وسهل له ذلك ما كان وقع قبله من تدوين علوم اللسان وتمهيدها كالنحو والصرف.
فبذلك تمكَّن من وضع قواعد تجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وكان الشافعي نفسه على جانب من المهارة في علوم اللسان، ومعرفته ببلاغة القرآن، يعرف له ذلك الخاص والعام، مع ما أوتيه من فضل بلاغة التعبير عمَّا يختلج في الضمير، كما يشهد لذلك شعره البليغ وكتبه، ومن شعره قوله:
إن الولاية لا تدوم لواحد
…
إن كنت تنكر ذا فأين الأول
1 ابن إبراهيم "ابن راهويه".
2 عبد الله.
فاجعل من الذكر الجميل صنائعًا
…
فإذا عُزِلْت فإنها لا تعزل
وقوله:
الجد يدني كل أمر شاسع
…
والجد يفتح كل باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدودًا حوى
…
عودي فأثمر في يديه فحقق
وإذا سمعت بأن محرومًا أتى
…
ماء ليشربه فغاض فصدق
وأحق خلق الله بالهمِّ امرؤ
…
ذو همة يبلى بعيش ضيق1
وقوله وقد صدق:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
…
لكنت اليوم أشعر من لبيد
كان الشافعي يجتلب ألباب الكبار بفصاحته ومهارته، وناهيك برجل اجتذب الإمام أحمد، وعبد الرحمن بن مهدي، أن يكون من تلاميذه، ويأخذا عنه في حال أنه محتاج إليهما في فنهما، مستعينًا بهما على ما يعانيه من الفتيا والفقه.
قال السيوطي: الإجماع على أنه أول واضع لعلم الأصول؛ إذ هو أوَّل من تكلَّم فيه وأفرده بالتأليف، وكان مالك في الموطأ أشار إلى بعض قواعده، وكذلك غيره من أهل عصره كأبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ إذ هو من العلوم المركوزة في طباع العرب، مأخوذ من استعمالاتهم في محاورتهم، وقد دوَّن الشافعي فيه رسالته المشهورة.
قال ابن خلدون في المقدمة: تكلَّم فيها على الأوامر والنواهي، والبيان والخبر والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس، وهي رسالة من أبدع ما ألف وأحسن ما صنف، وله غيرها. وبهذا خدم الشافعي الفقه خدمة تذكر له فتشكر، وقرَّب بقواعده طريق الاجتهاد لمن يريده، وجعل قواعد الأصول منارًا يهتدى بها في بحر الكتاب والسنة، يؤمَن معها من الزلل، والخروج على الجادَّة، والله يجازيه
1 الأبيات في طبقات الشافعية للسبكي "1/ 304".