الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النزاع بين أهل الحديث والرأي
…
النزاع بين أهل لحديث والرأي:
وفي هذا العصر بدأ النزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي، وافترق الفقهاء حزبين؛ حزب السنة والأثر، وحزب الرأي الذي صار فيما بعد يسمَّى بالقياس، فأهل السنة والأثر هم أهل الحجاز، ورئيسهم سعيد بن المسيب السابق الذكر، ثم تفرعوا فيما بعد إلى مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وغيرهم، كل هؤلاء يزعم التمسُّك بالأثر، ولا ينتمون للرأي.
أما أهل العراق فكانوا يميلون للرأي، ورئيسهم حامل لوائه هو إبراهيم النخعي، ولهذا يقال لأصحاب الرأي عراقيون، وبعد زمن أبي حنيفة صار يقال لهم الحنفية، على أنه يوجد فيهم من لا يقول به كالإمام الشعبي عامر بن شراحيل، وابن سيرين1، وسبق ذلك، كما يوجد في المدنيين من يقول بالرأي كربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، حتى لقبوه بربيعة الرأي، ولعله اكتسب ذلك من إقامته بالعراق وزيرًا لأبي العباس السفَّاح، ويأتي ذلك في ترجمته.
ففي النصف الثاني من القرن الأوَّل اشتد النزاع بين الفقهاء في هذا المبدأ، وهو من أمهات المسائل، وإذا شئت أن ترى عجبًا وتتصور صورة هذا النزاع بصورة مكبرة فانظر. أعلام الموقعين أثناء شرحه لكتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري عند قوله: واعرف الأشباه والنظائر، فإنه أورد لمناظرة بين القياسيين وبين أهل الأثر، وأورد حجة كل فريق مما يقتضي منه العجب، وأورد أمثلة كثيرة من الأقيسة الفاسدة المناهضة للنصوص الشرعية فانظره. ولا بُدَّ2 على التحقيق الذي لا شك فيه أنه ما من إمام منهم إلّا وقد قال بالرأي، وما من إمام منهم إلّا وقد تبع الأثر، إلّا أن الخلاف وإن كان ظاهره في المبدأ، لكن في التحقيق إنما هو في بعض الجزئيات، يثبت فيها الأثر عند الحجازيين دون العراقيين، فيأخذ به الأولون ويتركه الآخرون لعدم اطلاعهم عليه، أو وجود قادح عندهم.
1 محمد بن سيرين.
2 أعلام الموقعين "1/ 227-337".
ومن جملة ما اعتبروه قادحًا أن لا يعمل به علماء بلدهم، فيقولون: لولا أن هناك قادحًا لعملوا به واشتهر، وهو قادح ضعيف كما لا يخفى، فيصير الأولون يذمون الآخرين بنبذ السنة واتباع الرأي، والأخيرون يذمّون الأولين بالجمود وضعف الفكر.
وفي زمن ابن المسيب وإبراهيم النخعي كثرت الفروع في جميع أبواب الفقه؛ إذ كان كلٌّ منهما ممن جمعها حفظًا لا خطًّا، ووقوعًا لا تقديرًا، بمعنى أنهم في هذا العصر ما كانوا يفرضون المسائل التي لم تقع ويستنبطون لها حكمًا، وإنما كانوا يحفظون أحكام ما وقع في زمنهم وزمن من قبلهم، فابن المسيب وأصحابه كانوا يرون أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه، ولذلك جمع فتاوي أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأحكامهم، وفتاوي علي قبل الخلافة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة.
وقد اعتمد ابن المسيب مسند أبي هريرة كثيرًا، وقضايا قضاة المدينة، وحفظ من ذلك شيئًا كثيرًا، ونظر فيه نظر اعتبار وتفتيش وتحقيق وتطبيق، فما كان مجمعًا عليه من علماء المدينة عضَّ عليه بالنواجذ هو وأصحابه لا يتجاوزنه، وهو الذي يقول فيه مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيه عندنا، أو يقول: وهو الأمر المجتمع عليه عندنا. وما اختفلوا فيه أخذ بالأقوى دليلًا وشهرة، وهو الذي يقول فيه: هذا أحسن ما سمعت، ومن هنا نشأ عمل أهل المدينة الذي جعله مالك أصلًا أصيلًا لمذهبه، وهو الذي يقول في الموطأ: وعليه الأمر عندنا.
ولم يقل له الحنفية ولا بقية المذاهب وزنًا، متعللين بأن أهل المدينة ليسوا محل العصمة، وإذا لم يجد المدنيون لمن قبلهم النص على حكم مسألة بعينها، خرجوا وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، فأخذوا بالرأي أيضًا، ولكن عند الضرورة وهو عدم وجود الأثر، فكان ذلك قولًا لهم واجتهادًا، وكان إبراهيم النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود أثبت الناس في الفقه لقوله عليه السلام:"تمسكوا بعهد ابن أم عبد" 1، وهو سادس ستة في الإسلام كما سبق.
وقال علقمة2 يومًا لمسروق3: لا أجد أثبت من عبد الله، على أن ابن
1 الترمذي وابن ماجه، وقد سبق.
2 ابن قيس النخعي.
3 ابن الأجدع الهمداني الكوفي.