الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القياس
مدخل
…
القياس:
هو إلحاق فرع بأصل لمساواته له في علة حكمه؛ كإلحاق النبيذ بالخمر في الحرمة، ووجوب حد شاربه لمساوته له في الإسكار، ولا يكفي وجود الجامع بين الأصل والفرع، بل لا بُدَّ في اعتباره من دليل يدل عليه من نصٍّ أو إجماع أو استنباط، ولذلك احتاجوا في مسالك التعليل العشرة المقررة في الأصول.
وقد أنكره ابن مسعود من الصحابة، وعامر الشعبي من تابعي الكوفة، وابن سيرين من تابعي البصرة، نقله ابن عبد البر والدارمي عنهم وعن غيرهم، خلافًا لقول ابن بطال1: أول من أنكره النَّظَّام، وتبعه بعض المعتزلة وداود الظاهري، على أن داود لا ينكر الجلي منه ولا منصوص العلة، وإنما الذي أنكره هو ابن حزم من أصحابه، وادَّعى الشيعة وقوم من المعتزلة استحالة التعبد به عقلًا، وكل ذلك مردود، فإن الصحيح ومذهب الجماهير من علماء الإسلام على العمل والتعبد به شرعًا، فقد قاس الصحابة والتابعون ومن بعدهم علماء الأمصار، وقد جاء العمل به في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد القرآن إليه، قال تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} 2، والاعتبار قياس الشيء بالشي.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} 3. فهذه الآية وقع فيها الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث بالقياس على النشأة الأولى، وهو قياس في الأصول المعتقدة التي يطلب فيه القطع، ففي الفقه الذي يكتفي فيه بالظن من باب أولى، وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 4، أمرهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى الرسول، فإن لم
1 لعله سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، ت سنة 404هـ.
2 الحشر: 2.
3 الواقعة: 58-62.
4 النساء: 83.
يكن موجودًا، فإلى أولي الأمر منهم؛ العلماء وخص المجتهدين وهم أهل الاستنباط، وأول باب في الاستنباط وأعلاه هو القياس، وتقدَّم في ذلك في كلام ابن رشد في مادة الفقه، ومن الآيات الدالة على مشروعية القياس قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1. حمل جمهو رالأمة الميزان على القياس، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، وقد استوعب ابن القيم في أعلام الموقعين كثيرًا منها، فانظره أثناء شرحه لكتاب سيدنا عمر، وأنشد ابن عبد البر لأبي محمد اليزيدي2 من أبيات طويله في إثبات القياس:
لا تكن كالحمار يحمل أسفا
…
رًا كما قد قرأت في القرآن
إن هذا القياس في كل أمر
…
عند أهل العقل كالميزان
لا يجوز القياس في الدين إلا
…
لفيه دين صوّان
ليس يغني عن جاهل قول راوٍ
…
عن فلا وقوله عن فلان
إن أتاه مسترشد أفتاه
…
بحديثين فهما معنيان
إن من يحمل الحديث ولا يعرف
…
فيه المراد كالصيدلاني
حكَّم الله في الجزاء ذوي عد
…
ل لذي الصيد بالذي يريان
لم يوقِّت ولم يسمّ ولكن
…
قال فيه فليحكم العدلان
إسوة في مقالة لمعاذ
…
إقض بالرأي إن أتى الخصمان
ولذا في النبي صلى عليه الله
…
والصالحون في كل أوان
قس إذا أشكلت عليك أمور
…
ثم قل بالصواب والعرفان
وقوله: لا يجوز القياس في الدين "إلخ"، يشير إلى ما قاله الشافعي: لا يجوز لأحدٍ أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب3.
1 الحديد: 25.
2 يحيى بن المبارك العدوي اليزيدي: ت سنة 202 هـ.
3 الرسالة ص510.
وحقيق بمن أقيم في هذا المنصب الخطير أن يُعِدَّ له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم أنه مبلغ عن الله بمنزلة الوزراء الموقعين عن الملوك، وله المثل الأعلى، ولذا ورد في الحديث:"أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار"1.
وقد تولى الله الإفتاء بنفسه في غير ما آية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} 2، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآية3.
ويأتي لنا في الخاتمة ما يُشْتَرط في المفتي والمجتهد، وما هي الصفة التي يتحقق به وجوده، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى القياس، ففي الصحيح أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وُلِدَ لي غلام أسود، وإني أنكرته، فقال:"هل لك من إبل"، قال: نعم، قال:"ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال:"هل فيه من أورق؟ " قال: نعم، قال:"فأنى ذلك؟ " قال: لعله نزعة عرق. قال: "فلعل ابنك هذا نزعة عرق"4. ففي الحديث إرشاد له أن يقيس مخالفة لون ولده له على مخالفة لون ولد الجمل لوالده، وهو قياس الشبه، قال في المستصفى: ما من مفتٍ إلّا وقد قال بالرأي، ومن لم يقل به فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، ولم يعترض عليهم في الرأي، فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي5.
وهو إجماع مبحوث فيه بالخلاف السابق، وقال في المستصفى أيضًا: لا يظن بالظاهري المنكر للقياس إنكار المعلوم والمقطوع به، ولعله ينكر المظنون منه.
1 الدارمي عن عبد لله بن أبي جعفر مرسلًا "ج1/ 53"، قال في كشف الخفاء: رواه ابن عدي عن عبد الله بن جعفر مرسلًا "ج1/ 51".
2 النساء: 176.
3 النساء: 127.
4 البخاري في المحاربين "ج8/ 215"، ومسلم في اللعان "ج4/ 211"، وأبو داود في الطلاق "ج2/ 278"، والنسائي في الطلاق "ج6/ 164".
5 المستصفى "ج2/ 245".