الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوع الاجتهاد في العصر النبوي
مدخل
…
وقوع الاجتهاد في العصر النبوي:
إن وقوع الاجتهاد من الصحابة في عصره عليه السلام، واستنباط الأحكام الفقهية من أصوالها، لا يمتري فيه مَنْ له معرفة بالسنة، وتقدمت أمثلة من ذلك ويأتي أيضًا كثير منها، ولنأت بعشرة أدلة، وقد يتضمَّن الواحد منها أدلة فنقول:
1-
قال عليه السلام فيما رواه الترمذي: "أفرضكم زيد بن ثابت وأقضاكم علي" 1، وقضايا مشهورة أقرَّ منها النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وسيأت بعضها.
2-
ومن ذلك فتواه في المرأة التي وقع عليها ثلاث رجال في طهر واحد بالقرعة كما تقدَّمَ، وقد أورد ابن القيم كثيرًا من قضاياه في كتابه "الطرق الحكمية" فلينظر2.
3-
ومن ذلك اجتهاد بعض الصحابة لما قال عليه السلام: "لا يصلين أحدٌ العصر إلّا في بني قريظة" فصلَّى البعض في الطريق محافظة على الوقت، وبعضهم وقف مع الأمر فلم يصل حتى وصل، والحديث في الصحيح3، فعذر الجميع ولم يعنّف على واحد منهم، وعن الاجتهاد تفرَّع مذهبا القياسيين وأهل الظاهر4.
1 ليس هذا لفظ حديث الترمذي، بل الذي فيه عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبَيّ، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" ورواه من طريق آخر عن أنس بنحوه، وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه. الترمذي "5/ 664"، وفي صحيح البخاري في تفسير البقرة "6/ 23"، عن عمر بن الخطاب أنه قال:"أقرؤنا أُبَيّ وأقضانا علي". وانظر "المقاصد الحسنة 723".
2 الطرق الحكمية ص "31، 46، 48، 49، 50، 51، 52، 55، 60، 61" وقد ذكر ابن القيم الفتوى المذكورة في أعلام الموقعين أيضًا "2/ 62".
3 أخرجه البخاري في المغازي "5/ 143".
4 وذلك أن الصحابة في هذه الواقعة اتجهوا اتجاهين في الفهم: فمنهم من فهم الأمر على ظاهره فتمسك به حتى خرج وقت العصر، ومنهم من فهم أن المبادرة إلى الخروج إلى بني قريظة والاستعجال في ذلك هو المقصود، دون أن يؤدي ذلك إلى تأخير الصلاة عن وقتها، فلم يقفوا عند الظاهر.
4-
وروى سعيد بن منصور1 في سننه عن أبي عوانة وأبي الأحوص، عن سمك بن حرب، عن حنش الصنعاني، عن عليٍّ -كرم الله وجهه- قال:"لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا، حفر قوم زبية للأسد فوقع الأسد فيها، وازدحم الناس عليها فوقع فيها رجل، وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فحرجهم2 الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال، فأتيتهم فقلت لهم: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة، تعالوا أقض بينكم؛ فللأول ربع الدية، وللثاني ثلثها، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، وجعلت الديتان نصف سدس الدية على من1 حفر الزبية لقبائل الأربعة الموتى فسخط بعضهم، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاء كما قضاه علي" 3.
قال ابن العربي في الأحكام: وتحقيقها أن الأربعة مقتولون خطئًا بالتدافع
1 تأتي ترجمته في أوائل القسم الثالث من الكتاب.
2 لفظ أحمد "فجرحهم"، والحرج المكان الضيق، ويقال: أحرجت فلانًا إلى كذا: أي ألجأته إليه.
3 قال المصنِّف رحمه الله: قوله على مَنْ حفر الزبية كذا في أحكام ابن العربي وفي أعلام الموقعين على من حضر رأس البير، فلا أدري هل الضاد تصحَّفَت إلى الفاء أو العكس، أو هو اختلاف الرواية، والذي يظهر من ابن القيم أن الضاد هي الرواية.
4 حديث "زبية الأسد" رواه حنش بن المعتمر الكناني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه أحمد في المسند من رواية إسرائيل، ثنا سماك عن حنش، وفيها أنه رضي الله عنه قال: أجمعوا من قبائل الذين حفرو البئر ربع الدية -بالفاء- المسند "2/ رقم 573" ط.
دار المعارف، وأشار الشيخ أحمد شاكر إلى أنه في نسخة -حضروا- بالضاد، وزعم رحمه الله أنه خطأ، ولذا اختار ما في النسخة الأخرى -أي بالفاء، وأما الشوكاني رحمه الله فيبدو أنه وجد في نسخته من المسند "حضروا" بالضاد، فاعتمدها في نيل الأوطار "7/ 74"، ويؤيده ما في المسند نفسه في موضع آخر "2/ رقم 1309" ط. دار المعارف. وهو رواية حمَّاد عن سماك وفيه: وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا، كما يؤيدها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه من رواية أبي عوانة وأبي الأحوص عن حنش، وفيها: اجعل الدية على من حضر رأس البئر -بالضاد، وهي التي نقلها ابن القيم في أعلام الموقعين "2/ 58".
في الحفرة لهم الديات على من حفر، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة، قاتل الثلاثة بالمجاذبة، فله ربع الدية لمقتوليه، وعليه ثلاثة أرباع الدية لمن قتلهم، وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان للاثنين الذين قتلهما، وللثالث نصف الدية وعليه النصف للواحد الذي جذبه، فوقعت المحاصصة وغرمت العواقل، وهذا من بديع الاستنباط1، الذي لا يدركه الشادي، ولا يلحقه بعد التمرن إلّا العاكف المتمادي، وبقي عليه توجيه استحقاق الرابع للدية كاملة وهو ظاهر؛ لأنه لم يجذب أحدًا، فبقيت ديته كاملة لعاقلته، وإنما كانت الديتان ونصف سدسها على من حضر أو حفر، مع أن الأسد هو الذي عدا على الأربعة وقتلهم، والعجماء جبار، كما إذا تجاذبوا وغرقوا في البحر؛ لأن الحاضرين قد تسبَّبوا بالتزاحم، ولولا ما وصلت أذية الأسد إلى الساقطين كما أن الذين حفروا قد تسببوا أيضًا.
5-
ومن ذلك ما قال الشعبي2: اجتمع ثلاث جوار فركبت إحداهن على عنق الأخرى، فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت، أي: كسرت عنقها، فماتت، فرقع ذلك إلى علي -كرم الله وجهه، فقضي بالدية أثلاثًا على عواقلهن، وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها3، ولطائف أحكام علي كثيرة كأخبار شجاعته وكرم حاتم.
6-
ومما يدل لذلك تولية الأحكام والجيوش لمن كان حديث عهد بالإسلام كعتاب بن أسيد4 الذي أمَّره صلى الله عليه وسلم على مكة بعد الفتح على صغر سنه وحدوث عهده بالإسلام، ثم حج بالناس سنة ثمان، وأمَّر عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل بفور إسلامه، فصلى بهم جنبًا بالتيمم كما في الموطأ، ولم يؤمروا بالإعادة5، وولَّى خالد بن الوليد وغيرهم، ولم يكونوا يحفظون إلا اليسير من السنة، ولكن كانت فيهم قابلية الاجتهاد لمعرفتهم باللسان، وكان معهم من يحفظ السنة وربما أخطأوا في الاجتهاد فأرشدهم، كخالد حين قتل من قالوا
1 أحكام القرآن: "4/ 1627".
2 عامر بن شراحيل: ترجم له المؤلف في أوائل القسم الثاني، وانظر "تاريخ بغداد""12/ 227"، و"تهذيب التهذيب""5/ 65".
3 أعلام الموقعين "2/ 58".
4 قال المؤلف رحمه الله: عتاب كنفاع، صيغة مبالغة، وأسيد بوزن عتيد.
5 الإصابة "4/ 429".
6 سبق تخريجه ص 71.
صبأنا، فقال عليه السلام:"اللهم إني أبرؤ إليك مما صنع خالد" ووداهم من مال المسلمين لا من مال خالد لعذره بالاجتهاد، ولم يعزله بل أبقاه على ولايته1.
ويأتي لنا قريبًا ترجمتا القضاة والمفتين على العهد النبوي، فكل ذلك دلائل على ثبوت الاجتهاد، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمّر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2 الآية.
7-
وجوَّز للحاكم أن يجتهد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فلا وزر عليه بل له أجر واحد كما في صحيح مسلم3.
8-
وهكذا أولى ماذ بن جبل مخلافًا من اليمن، وقال له:"بم تحكم يا معاذ"؟ فقال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد"، قال: بسنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد"، قال: أجتهد ولا آلوا. فقال: "الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله" رواه أبو داود وغيره4، وتكلَّم فيه الجوزقاني5، لكن له شاهد عند البيهقي في سننه، وقد استدلَّ به ابن العربي في الأحكام، وقواه السيوطي في كتاب القضاء من حاشية أبي داود، وكذلك ابن القيم في أعلام الموقعين، فقد قال: رواه شعبة قال: حدثني أبو عون عن الحرث عن عمرو بن أناس من أصحاب
1 أخرجه البخاري "5/ 203".
2 التوبة: 19، والحديث أخرجه مسلم في الإمارة "6/ 36"، وراجع تفسير القرطبي "8/ 92".
3 سبق تخريجه "ص78".
4 أبو داود "3/ 203"، والترمذي "3/ 607".
5 أو الجوزقاني: -بالراء- الحسين بن إبراهيم أبو عبد الله، من كتبه "الموضوعات"، وكتاب الأباطيل" ت سنة 543هـ "اللباب في تهذيب الأنساب" "1/ 250".
معاذ عن معاذ. الحديث. قال: وعدم تسمية أصحاب معاذ لا تضره إذ شهرة أصحابه بالدين والعلم والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذّاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، بل يدل على شهرة الحديث وأنهم جماعة لا واحد، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يرويه عن واحد مسمَّى، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال فيه بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة1 في إسناد حديث فاشدد يدك عليه، قال أبو بكر الخطيب: وقد قيل: إن2 عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث"، وقوله في البحر:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقوله:"إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا ورد البيع"، وقوله:"الدية على العاقلة" ، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد. أ. هـ كلام الخطيب3.
قلت: والحديث كما هو في أبي داود كذلك في الترمذي بإسنادين عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحرث بن عمرو، عن رجال من أصحاب معاذ. قال أبو عيسى: لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل4، لكن قال الشهرستاني في الملل والنحل: قد استفاض بهذا الحديث الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم4.
9-
وقال عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين بعدي"6.
وقال كما في صحيح مسلم: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا" 7، فلو لم يكونوا مجتهدين واجتهادهم صائب ما أمر بالاقتداء بهم، والأدلة على ذلك كثيرة.
1 شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، ت سنة 160هـ، ترجم له المؤلف بإيجاز في أواخر القسم الثاني، وانظر:"تاريخ بغداد""9/ 255"، "تهذيب التهذيب""4/383".
2 قال المؤلف رحمه الله: عبادة بضم العين بن نسي -بضم النون وفتح المهملة وتشديد الباء- هو الكندي قاضي طبرية، أخرج له أصحاب السنن الأربعة، موثق.
3 أعلام الموقعين "1/ 202".
4 الترمذي "3/ 607".
5 الملل والنحل "2/ 39"، على هامش الفصل لابن حزم. ط. الأدبية بمصر سنة 1317هـ.
6 من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، أخرجه: أبو داود "4/ 201"، والترمذي "5/ 44"، وابن ماجه "1/ 16".
7 أخرجه مسلم عن أبي قتادة. المساجد "2/ 139".