الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل كان ابن القاسم مجتهدًا مستقلًّا:
قد اختلف فيه شيوخ تلمسان أهل المائة الثامنة، فزعم أبو زيد بن الإمام1 أن ابن القاسم مقلد لمالك، ونازعه أبو موسى عمران المشذالي البجائي2، وادَّعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتجَّ بمخالفته مالكًا في كثير، قال: فلو قلَّده لم يخالفه، واحتجَّ أبو زيد بأن نصرًا الشرف التلمساني مثَّل لمجتهد المذهب بابن القاسم في مذهبنا، والمزني في مذهب الشافعي، ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنفية، فأجاب أبو عمران بأنه مثال، والمثال لا يحتج به ولا يلزم صحته، واستدلَّ ابن عبد السلام الهواري3 أيضًا على اجتهاده الطلق بنحو ما قال أبو عمران، وبحث فيه ابن عرفة4 بأن ابن القسَّام مزجي البضاعة في الحديث، وقال أبو عبد الله ابن الغازي5 بقوله: كيف يثبت الاجتهاد لشيوخه كابن عبد السلام، وينفيه عن ابن القاسم بعبارة فظيعة، مع أنه شيخ هداية المالكية.
قلت: بل المالكية في الحقيقة قاسميون، وابن عرفة نفسه قاسمي مقلد له، ومع ذلك ينفي عنه الاجتهاد، قال أحمد بابا السوداني6: والعجب من ابن عرفة يثبت الاجتهاد لابن دقيق العيد7، ونظرائه، ويقول: وفي المازري8 نظر، هل لحقه أم لا، ومعلوم أن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد لا يبلغان درجة المازري،
1عبد الرحمن بن الإمام، الديباج "1/ 486".
2 انظر نيل الابتهاج "215".
3 محمد بن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس، الديباج "2/ 329".
4 محمد بن محمد بن عرفة الورغمي، نيل الابتهاج "274".
5 محمد بن أحمد بن محمد، نيل الابتهاج "333".
6 مؤلف نيل الابتهاج، ت سنة 1036هـ.
7 محمد بن علي بن وهب أبو الفتح.
8 محمد بن عي بن عمر.
قال: والذي يظهر أن الاجتهاد المذهبي درجة واسعة تتفاوت بقوة التمكّن وضعفه، فبالاتصاف بأدنى درجاتها يدعيها، ومع اتساع الحفظ ومعرفة الأحاديث ربما يخيّل لصاحبها درجة الاجتهاد المطلق.
مع كون من فوقه في تمكن النظر وقوة التفقّه ومعرفة المذهب ومدراكه لا يدعي تلك الرتبة لعدم اتساعه في لحفظ ومعرفة الأحاديث، فهذا قاسم العقباني1، والمسناوي، والبجائي2، من أهل المائة التاسعة، يصرحون ببلوغ درجة الاجتهاد، والإمام الشاطبي3، والحفيد ابن مرزوق4، ينفون ذلك عن أنفسهما، ومعلوم أنهم أقوى علمًا وأوسع باعًا من الذين ادعوها، فتأمَّل ذلك، هذا ما قاله في ترجمة أبي عمران المشذالي.
وقال في ترجمة عيسى بن الإمام عنه، إن ابن القاسم مجتهد المذهب فقط مقلد لمالك، وأما اجتهاده في بعض المسائل فإمَّا من باب تجزء الاجتهاد، كما أن المجتهد المطلق قد يقلد غيره في بعض المسائل، وأطال في ذلك بأدلة لاتفيد ظنًّا فضلًا عن اليقين، وبعضها ينقض بعضًا، والإنصاف أن ابن القاسم خالف مالكًا في مسائل كثيرة قبلها منه من بعده، ولم ينكرو عليه، بل أخذوا بقوله، وتركوا قول الإمام وأصحابه في كثير من المسائل، وذلك دليل الاجتهاد المطلق المنتسب لا المستقبل، إما يقينًا أو ظنًّا، ولولا توفر شروط الاجتهاد فيه ما قبلوا منه مخالفة الإمام.
نعم إن ابن القاسم كان منتسبًا لمالك متبعًا له في كثير من قواعد مذهبه، مفتيًا على مقتضاها، إما وافق نظره نظر الإمام، وإما قلده بناء على تجزء الاجتهاد، وهو الأصح.
وشروط الاجتهاد ليست بمتعذرة في مثل الإمام ابن القاسم، بل ادعاها مَنْ هو دونه بمراحل، ووجدت في تلاميذ تلاميذه، ومن لازم مالكًا سنين "20" كيف لا يدرك رتبة الاجتهاد، وقد صرَّح الحنفية بأن محمد بن الحسن، وأبا يوسف،
1 قاسم بن سعيد العقباني التلمساني، نيل الابتهاج "223".
2 أبو موسى عرمان المشذالي البجائي، نيل الابتهاج "215".
3 إبراهيم بن موسى، صاحب الموافقات والاعتصام.
4 محمد بن أحمد بن محمد، نيل الابتهاج "293".
كانا مجتهدين اجتهادًا مطلقًا كما عند الدهلوي1 في رسالته في الاجتهاد والتقليد وغيره، وإنما مذهبهما دُوِّنَا ممتزجين بمذهب أبي حنفية فنسب الكل إليه، والله أعلم. ويأتي في خاتمة الكتاب كلام في الاجتهاد وأقسامه، وعساك إن راجعت تلك الشروط وطبَّقتها على ابن القاسم يتبين لك صحة ما قلناه، والله أعلم.
وفي حاشية البغدادي على المحلي2 ما يقتضي أن مثل ابن القاسم لا يُعَدّ من أهل الاجتهاد المطلق، يعني: المستقل، وأن المجتهد المطلق يعني المستقل هو من يستقل بتأسيس أصوله وقواعده من الكتاب والسنة.
وقد عقد الشاطبي في موافقاته مبحثًا في أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق بالاجتهاد على الجملة، وقال فيه: إن ابن القاسم، وأشهب، ومحمد بن الحسن، وأبا يوسف، والمزني، والبويطي، اتُّبِعَت أقوالهم وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وهم مقلدون لهم في أصول مذهبهم، واجتهادهم مبني على مقدمات مقلد فيها، فإذًا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيه. فكلامه آيل إلى ما قلناه من أنه مجتهد اجتهادًا مطلقًا منتسبًا لا مستقلًا.
1 شاه ولي الله الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم، البدر الطالع للشوكاني "1/ 72".
2 المحلي هو جلال الدين محمد بن أحمد، له شرح على جمع الجوامع للسبكي في الأصول، وشرح على ورقات الجويني، والعبادي هو ابن قاسم، وحاشية على شرح المحلي على الورقات.