الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتدين، في باب المعاملات.
وقد سألني الصدر الأعظم بتونس -حفظه الله- عن هذه المسألة قائلًا: إن اليهود ثم الأوروبيين استحوذوا على تجارة العالم لعدم تعرض شريعتهم لهم في معاملاتهم، فهل من رخصة للمسلمين كي يخرجوا مما هم فيه من الضيق المؤدي للفقر والهلاك؟ فأجبته: إن اليهود نبذوا شريعتهم وإلّا فهي تنهاهم عن الربا، أما نحن ففتح الباب على مصراعيه نبذ للشريعة. لكن كل مسألة ينظر لها رخصة، فإن وجدت في مذهب فيترخّص للضرورة1 وإلا فلا. هذا ملخص جوابي له فاقتنع به.
1 ولكن هذا الباب ألّا يفتح أبدًا، حتى لا تتلاعب "الصدرو العظمى" وسائر الولاة والحكام بشرع الله، وإلا فإنهم لن يعوزهم العثور على علماء السوء الذين يستخرجون لهم شذوذات المذاهب وغرائبها ما يبيحون لهم بها كل شيء، والضرورة لا مقياس لها على وجه الدقة في زمان الفتنة، والترخص كذلك، فالأَوْلَى أن يكون الميزان هو "الحجة والبرهان" من أصول الشريعة المعروفة "الكتاب والسنة والإجماع والقياس"، والحق أحق أن يتبع.
وغريب أن يعد المصنف القياس والاستحسان من أسباب التضييق، مع أن الفقهاء إنما لجأوا إليهما للتوسعة على الأمة فيما لم ترد به النصوص وهي قليلة، أو عندما تقع المصالح في الحرج، وأكثر من استخدام هذين الأصلين الحنفية؛ لذلك كان فقههم غنيًّا بالتفريعات وبالاستنباط، كما اعتنى المالكية بقاعدة المصالح المرسلة، وكل ذلك من أسباب التوسعة والتيسير.
الذكاة والصيد:
غير خفي أن للذكاة عندنا حكمًا وسطًا بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، فالأول لا يذبح لهم إلّا رئيس ديني بسكين بالغة الحد في التحديد، وفي مرة واحدة يمرها. ولا يخفى ما في ذلك من التضيق، والآخرون فرَّطوا حتى قتلوا عنق الدجاجة من غير إسالة دم، أما عندنا "فما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر" كما في الصحيح1، فكل مميز يناكح يذكى، ولو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولو امرأة، حضريًّا أو بدويًّا، وكل محدد يفري الودجين تصح به الذكاة ولو حجرًا أو قصبًا إلّا السن والظفر، أما الصيد فإصابته بمحدد في أي موضوع، أو بناب كل معلَّم بنية في الكل، والمحرم عندنا هو المذكور في المائدة التي نزلت في السنة العاشرة، وهي آخر ما نزل من السور. قال تعالى: {حُرِّمَتْ
1 سَبَقَ تخريجه.
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} 1، قال ابن العربي في الأحكام لدى قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2 الآية: إنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3، وذلك يوم عرفة -يعني في حجة الوداع- على قول الأكثر، وهذا يعكر على ما تقدَّم لنا في صدر القسم الأول من الكتاب أن الأنعام مكية باتفاق على ما في الإتقان4.
وتقدَّم لنا أن وجوب ذكر اسم الله أو سنيته، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، شرِّعَ في أول بعثة قبل الهجرة بأية النحل وهي:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وهي مكية، ونحوها في البقرة أيضًا وهي مدنية، فالذي تجدد في السنة العاشرة هو تحريم المنخنقة وما معها، وهي في معنى الميتة، فيحتمل أن آية المائدة بيان لآيات الأنعام والنحل والبقرة وهو الظاهر، ويحتمل أنها زيادة عليهما.
وعلى كل حال الذي يظهر من القرآن والسنة أن العرب كانوا يذكون قبل الإسلام بدليل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} 6 والنسيكة الذبيحة، وبدليل قصة الذبيح، وبدليل أنهم كانوا يذبحون لأصناهم، وكان لهم مذبح في البيت الحرام وبمنى، كما هو مقرر في الآثار، لم يجئ الشرع بجديد في أمر الذكاة على ما كان عندهم، نعم أتى بيانها وبيان آلتها وكيفيتها، ومنع مما كانوا يأكلونه من المنخنقة وما بعدها، وأمر بالتسمية، وأن ما ذكر عليه اسم صنم أو أي مخلوق فميتة، كما نهى عَمَّا كانوا يأكلون من الميتة، فإن القرآن مصرح بأنهم كانوا
1 المائدة: 3.
2 الأنعام: 145.
3 المائدة: 3.
4 عبارة ابن العربي في أحكام القرآن "2/ 764" تفيد أن الآية نزلت مرتين إن صح النقل، مع أن كون سورة الأنعام مكية لا يعكر عليه استثناء آيات منها كما ذكر في الإتقان "1/ 57"، إنما يعكر ذلك على ما ورد من نزولها جملة واحدة، فيحتاج إلى الجمع.
5 النحل: 115.
6 الحج: 67.