الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القياس عند أبي حنيفة:
مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحًا على وجه الإجمال وأيسرها للمتجهد الماهر استنباطًا لانبنائه على الفلسفة والنظر لحكم الأحكام والعلل، لا سيما في المعاملات التي القصد منها مصالح العباد وعمارة الكون، فالحنفي أحوج إلى النظر من النقل والأثر؛ إذ من قواعد مذهبه الأخذ بالقياس والتوسع فيه في غير الحدود والكفَّارات والتقديرات الشرعية، وتقدَّم لنا في مبحث القياس من القسم الأول من الكتاب أن القياس المخصوص بأهل الاجتهاد والذي هو ميدان المعترك هو تخريج المناط، أما تحقيق المناط وتنقيحه فهما مبذولان للمجتهد وغيره، ويقول بهما جلّ من لا يقول بالقياس على التحقيق.
وتقدَّم لنا هناك استدلال بعض أهل الأصول بحديث: "حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة"1، وفاتنا هناك التنبيه عليه، فقد نصَّ الكمال ابن أبي شريف2 على أنه لا يعرف له أصل بهذ اللفظ، والمعروف حديث الترمذي، وقال حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه وابن حبان، وهو قوله عليه السلام في مبايعة النساء:"إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة" انظره عند قول جمع الجوامع، والأصح أن خطاب الواحد لا يتعداه، في مبحث النهي.
ثم القياس عند أبي حنيفة مقدَّم على الخبر الصحيح المعارض له من كل وجه، الذي فيه قادح من القوادح السابقة عنده، وقد فعل ذلك في حديث المصراة، وحديث العواري، وحديث الشاهد واليمن، وغيرها، قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه. ويعضد أبا حنيفة ما جاء في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي، من أن عمر استشار الصحابة في حدِّ الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعله كأخفِّ الحدود، يعني: ثمانين3.
وفي الموطأ أن عليًّا بن أبي طالب رأى ذلك قائلًا: إن من سكر هذى، ومن هذى افترى4.
1 تقدَّم.
2 هو محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف أبو المعالي، الأعلام للزركلي "7/ 281".
3 مسلم "5/ 125"، وأبو داود "4/ 163"، والترمذي "4/ 48".
4 الموطأ "2/ 842".
وروى الطبراني وغيره أن الزبير وطلحة رأيا ذلك أيضًا1 فأمضاه عمر بمحضر جمهور، فكأنه إجماع سكوتي حيث أخذوا به، وبه كانوا يحكمون بقية أيامه وصدر أيام عثمان، ففي هذه القصة الأخذ بقياس حد الخمر على أخف الحدود، الذي هو القذف وصيرورته ثمانين، وتقديمه على السنة التي كانت في زمنه عليه السلام المقدَّرة في زمن أبي بكر بأربعين، الثابتة في الصحيح أيضًا.
لكن يرد على أبي حنيفة أنه لا يقول بالقياس في الحدود، ويعضده أيضًا حكم عثمان في ضوالّ الإبل أنها لقطة كغيرها، وقدَّم ذلك على نصِّ الحديث، وتقدَّم بيان ذلك في اجتهاد عثمان في القسم الأول من هذا الكتاب2.
ويرد على أبي حنيفة حديث مسلم: عن عبد الله بن عمر في قضية استخلاف عمر، وقد تقدَّم في اجتهاد أبي بكر3، فابن عمر استدلّ بالقياس على رعاة المواشي، وعمر ردَّ عليه بتقديم السنة بناءً على أن الترك سنة كالفعل، فتأمل ذلك.
وأمثاله كثير كثير في تقديم السنة، بل الرجوع عن الرأي إليها، وتقدمت أمثلة من ذلك، غير أن الإنصاف أنه لا يخلو مذهب من ترك العمل ببعض السنن الثابتة لأعذار يبديها الأتباع، قبلها من قبلها وردَّها مَنْ ردها.
كترك مالك العمل بحديث الصحيحين، وهو رجمه عليه السلام ليهودي ويهودية زنيا4، المتضمِّن لحكمنا بينهم إذا ترافعوا إلينا، واعتبار إحصان الكتابيّ، ومالك لا يرى الأمرين معًا، واعتذر أصحابه بأعذار لا تقبل عند غيرهم، على أن أبا حنيفة قد يأخذ بظاهر النصِّ ويترك القياس على نسق أهل الظاهر، ولكن ذلك قليل، من ذلك قوله في الحمارية والمشتركة: إن الإخوة الأشقاء لا يقاسمون الإخوة للأم تمسُّكًا بظاهر حديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها" 5، ولم ينظر
1 لم أجده، ولكن في مسلم أن عمر رضي الله عنه لما استشار الناس في حد الخمر، قال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين، في آخر خلافته، ثم جلد عثمان أربعين، ثم جلد معاوية ثمانين "6/ 279".
2 تقدَّم.
3 تقدم.
4 متفق عليه: البخاري "8/ 214"، ومسلم "5/ 121".
5 متفق عليه: البخاري "8/ 187"، ومسلم "5/ 59".