الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة ثامنهم الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس
مدخل
…
ترجمة ثامنهم الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس ابن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب الشافعي:
المطلبي القرشي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وجدّه السائب صحابي1، كان مشركًا في غزوة بدر وأُسِرَ وفدى نفسه وأسلم، كان حامل راية بني هاشم، وولده شافع رأى النبي -صلى الله عليه وسلم2، وُلِدَ الشافعي بغزَّة من أرض الشام سنة "150" مائة وخمسين في وفاة أبي حنيفة على قول، ونشأ بمكة وربِّي في هذيل بالبادية، فهناك تعلَّم الفصاحة والشعر العربي، كان راحلًا برحيلهم نازنلًا بنزولهم، حتى إن الأصمعي3 على جلالته قرأ عليه أشعار الهذليين، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي.
ووى عنه أنه قال: لما رجعت إلى مكة من هذيل أنشد الأشعار والآداب وأيام العرب، مرَّ رجل من الزبيديين فقال لي: عزَّ علي أن لا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: ومن بقي يقصد؟ فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ، فوقع في قلبي فاستعرت الموطأ
1 ترجم له ابن حجر في الإصابة "3/ 23".
2 ترجم له ابن حجر في الإصابة "3/ 310".
3 عبد الله بن قريب، تهذيب التهذيب "6/ 451".
وحفظته في تسع ليالٍ، ورحلت إلى مالك فأخذت عنه الموطأ، فكان مالك يثني على فهمه وحفظه ووصله بهدية جزيلة لما رحل عنه، وأخذ عن مسلم بن خالد الزنجي، وأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، وعن ابن عيينة1 بمكة، والفضيل بن عياض، وإبراهيم بن سعد، وعمَّه محمد بن شافع، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي2، وأبو ثور3، والبويطي4، وطائفة، قال فيه شيخه ابن عيينة: أفضل فتيان زمانه، وكان إذا أتاه شيء من الفتيا أو التفسير أحال عليه، وقال فيه أحمد: كان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله، قليل الطلب للحديث.
وقال أحمد أيضًا: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. والثناء عليه كثير وفضله شهير، وقد تكلَّم فيه يحيى بن معين وأكثر القول فيه وأساءه، وكذلك ابن المديني، وقال فيه ابن عبد الحكم5: يروي عن الكذابيين والبدعيين، قال في المدراك: ولعله لذلك لم يدخل أهل الصحيح في كتبهم من حديث ولو حرفًا.
قلت: لكن في الخلاصة تهذيب التهذيب رمز إلى أن مسلمًا أخرج له في الصحيح وأصحاب السنن الأربعة، وكيفيما كان فلا خلاف في إمامته في الفقه، وإنما ضعَّف حديثه لروايته عن الضعفاء، وإلّا فهو في نفسه بريء من ذلك، وقد استطرد السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة أحمد بن صالح المصري ما ثلب به الشافعي ورده، وقال عن ابن عبد البر أن ثلب ابن معين للشافعي مما نُقِمَ عليه وعيب به، وذكر قول أحمد: من أين يعرف ابن معين الشافعي ولا ما يقوله الشافعي. وأطال في ذلك فانظره6.
قال في المدراك: أما جودة الفقه والإمامة فيه فمسلم له، لكن ليس له إمامة في الحديث ولا معرفته ولا استقلال به ولا يدعيه ولا يدعى له، وقد ضعَّفه فيه أهل
1 سفيان.
2 اسمه عبد الله بن الحميدي الأسدي. تهذيب التهذيب "5/ 215".
3 إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، تاريخ بغداد "6/ 65".
4 يوسف بن يحيى أبو يعقوب القرشي.
5 عبد الله.
6 طبقات الشافعية للسبكي "2/ 9-22".
الصنعة، وإن كان الشافعي متبعًا للحديث ومفتشًا عن السنة لكن بتقليد غيره والاعتماد على رأي سواه، ولا اعتراف بالعجز عن معرفته، فقد كان يقول لابن مهدي وأحمد: أنتما أعلم بالحديث مني، فما صحَّ عندكما فعرفَّاني به لآخد به، ثم قال: وله في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة ما لم يسبقه إليه أحد، وكل من جاء بعده عيال عليه مع التفنن في لسان العرب والقيام بالخبر والنسب1.
لكن قوله: إنه ضعَّفه فيه أهل الصنعة، قد علمت ما فيه ولا يلزم من كون أحمد وابن مهدي أعلم منه أنه ضعيف فيه، وحاشاه من الضعف مع إمامته، وغاية الأمر أنه لم يكن في رتبة أحمد ومالك فيه، ثم هو عالم قريش، ففي حديث أبي هريرة عنه عليه السلام:"اللهم اهد قريشًا، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علمًا" كذا في المدراك2، وذكره في الطبقات السبكية بألفاظ أخر فانظرها3، والحديث متكلم فيه ولا نسلم تفسيره بالشافعي، مع وجود ابن عباس قبله كما تقدَّم لنا في ترجمته4.
وقد رحل الشافعي إلى العراق لما تولَّى ولاية في اليمن، فاتُّهِمَ بالتشيع لشيعة العلويين زمن الرشيد، فأشخص إلى العراق ثم عفا عنه الرشيد لبراءته، وقد قال للرشيد: أنترك من يقول إني ابن عمه يعني الرشيد، وأصير إلى من يقول: إني عبده، يعني إمام الشيعة، فأثر ذلك في الرشيد وأطلقه، ووصله فاختلط بمحمد بن الحسين الشيباني صاحب أبي حنيفة، واطَّلع على كتب الحنفية وفقههم، بعد ما كان منه من الاطلاع على فقه مالك وحفظه لموطئه، فوقعت مناظرات بينه وبين محمد بن الحسين، مذكورة في كتب الشافعي، وقد رفعت إلى الرشيد وسر منها.
من ذلك أنه دخل يومًا على محمد بن الحسن وهو يقرر عند جوازه الزيادة على القرآن ويطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد واليمين بأنها زائدة على
1 ترتيب المدراك "1/ 92"
2 كذا في ترتيب المدراك "1/ 390"، وذكره في طبقات الشافعية بألفاظ أخرى "1/ 198"، وقد رواه الخطيب في تاريخ بغداد "2/ 60"، وذكر الأقوال في تأويله، وأبو نعيم في الحلية "9/ 65"، وذكره السخاوي في القواعد الحسنة وتكلَّم عليه "281".
3 "1/ 198".
4 تقدَّم.
كتاب الله الذي بيَّن أن القضاء بعدلين أو رجل وامرأتين، فقال له الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد؟ قال: نعم، قال له: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز له صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"، وقد قال الله:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1، الآية، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل فانقطع.
ثم إن الشافعي عاد إلى مكة واختلط بعلمائها، ومن يفد إليها من علماء الأقطار للحج، وفي سنة "195" خمس وتسعين ومائة عاد للعراق زمن الأمين، فأخذ عنه فيها ابن حنبل وغيره من علمائها، وهناك أملى كتبه التي عبَّر عنها بالقول القديم؛ لأنها كانت على مذهبه القديم، وأقام هناك سنتين.
ثم رجع إلى الحجاز، ثم في سنة "198" عاد إلى العراق، وبقي بعض أشهر، ومنه توجَّه إلى مصر، فنزل على عبد الله بن الحكم، وكان مذهب مالك منتشرًا هناك بين علماء مصر التي زهت بأصحاب مالك، مثل ابن وهب2، وابن القاسم3، وأشهب4، وابن عبد الحكم5، ونظرائهم.
فنشر مذهبه وأملى كتبه الجديدة التي يعبِّر عنها بالقول الجديد، وهو المذهب الذي تغيَّر إليه اجتهاده بمصر، وترك الشافعي عدة كتب تنسب إليه كالأم، والرسالة، وغيرهما.
1 البقرة: 180.
2 عبد الله.
3 عبد الرحمن بن القاسم العتقي، الديباج المذهب "1/ 465".
4 ابن عبد العزيز أبو عمر القيسي، الديباج "1/ 307".
5 عبد الله.