الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتراق الفقهاء إلى عراقيين وحجازيين:
إن ابن مسعود استوطن الكوفة، ونشر فيها علمه، وأفتى بما شهده من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعه من حديثه، فأصبح أهل العراق تابعين لرأيه وروايته، معتمد عليها، في حال أن هناك أقضية وأحاديث لم يشهدها، لكن أهل العراق يزعمون أن السنة هي ما عندهم.
فإن الكوفة والبصرة تمصَّرتا لأول خلافة عمر، وأول ما عظم جيش الإسلام بهما، وبهما كثر جمعهم، قال في إعلام الموقعين "آخر المجلد الثاني": انتفل أليهما نحو ثلاثمائة من الصحابة ونيف، وإلى مصر والشام قال: وأكثر علماء الصحابة صار إليهما وإلى الشام، فمنهما فتحت سائر الأمصار من خراسان وما وراءها.
وأول ما انتفلت الخلافة إلى العراق زمن علي بن أبي طالب، وكان فيها قبله ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وحذيفة، وعمران بن حصين، وكثير من الصحابة الذين كانوا من حزب علي ومعه كابن عباس، ولهذا لم يزاحم أهل الحجاز علي زعامة الفقه إلّا علماء العراق دون الشام ولا مصر ولا أفريقية أو غيرها.
إذ لم يقع لغير العراق من تلك الأمصار، فخالفوا أهل المدينة في كثير من الفقه زعمًا منهم أن السنة انتقلت إليهم، لكن الذي صار إلى العراق قل من جل، فالصحابة الذين بقوا في المدينة جمهورهم وأعلمهم كعمر بن الخطاب، وأبي بكر، وعلي في أول أمره، وعثمان، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وبقية الأزواج، وابن عمر، وأُبَيّ، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم، كما كان بحمص سبعون بدريًّا، وبمصر الزبير بن العوام، وأبو ذر، وعمرو بن العاص، وابنه، وفي الشام معاذ، وأبو الدرداء ومعاوية وكثير غيرهم، وفي أفريقية عقبة بن عامر
الجهني، ومعاوية بن حديج1 السكوني، وأبو لبابة، ورويفع بن ثابت الأنصاري، وغيرهم، هكذا أصحاب رسول الله تفرَّقوا في عواصم الإسلام المستجدة، معلمين مهذبين ناشرين للسنة والدين والفقه، وتقدَّم أن عثمان هو الذي رخَّص لهم في الانتشار في الآفاق، فأخذ أهل كل بلد برواية معلمهم من الصحابة وبرأيه، فكان ذلك أول تشعُّب الفقه، واختلاف البلدان والأقطار فيه، وتعصُّب كل قطر إلى فقههم، وما جرى به علمهم وحكم به قضاتهم، وأفتى به مفتوهم، وإن كانت المناظرة العظمى والمعركة الكبرى إنما حميت في هذا العصر بين العراقيين والحجازيين، أو قل الكوفيين، والمدنيين، وعلى كل حالٍ فالمدينة المنورة محل الجمهور من الصحابة وكبار التابعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعة من حنين ترك بها اثني عشر ألفًا من الصحابة، مات بها عشرة آلاف، وتفرَّق ألفان في سائر أقطار الإسلام، هكذا قال مالك وغيره، وروى عنه ابن عبد الحكم1: إذا جاوز الحديث الحرتين2 ضعفت شجاعته.
وروى عنه ابن وهب2 قال: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عمَّا مضى وأن يعلموه بما عندهم، كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ويكتب بها إليه، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبًا ولم يبعث بها إليه بعد، وكان أبو بكر هذا قاضيًا بالمدينة، ثم كان واليًا بها.
وقال: إذا رأيت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا شك أنه الحق، فكان أهل الحجاز يرون أن حديثهم مقدَّم على غيرهم، بل يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين فليس بحجة، حتى قال قائلهم: نزِّلُوا حديث العراقيين منزلة حديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.
وقيل لحجازي حديث سفين3 عن منصور4 عن إبراهيم5 عن علقمة6 عن
1 قال المؤلف رحمه الله: حديج بالحاء المهملة مصغر، والسكوني بفتح السين المهملة وتخفيف الكاف.
2 عبد الله.
3 قال المؤلف رحمه الله: الحرتين: تشبه حره بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء، حجارة سود متراكمة خارج المدينة المنورة على ساكنها -أفضل الصلاة والسلام.
4 عبد الله بن وهب.
5 ابن سعيد الثوري.
6 ابن المعتمر أبو عتاب الكوفي.
7 ابن يزيد النخعي.
8 ابن قيس النخعي.
ابن مسعود -وهذا من أصح إسناد يوجد في العراق، فقال: إن لم يكن له أصل في الحجاز فلا.
ذلك لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين فيها اضطراب أوجب التوقف فيها.
وكان أبو العباس السفاح استعمل بالعراق ربيعة بين أبي عبد الرحمن وزيرًا ومشيرًا، غير أنه تأفَّفَ من ذلك واستعفاه كراهية لأهل العراق، فاعفاه وانصرف للمدينة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قومًا حلالنا حرامهم وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفًا يكيدون هذا الدين، وقال: كأن النبي الذي بُعِثَ إلينا غير الذي بعث إليهم، وقال لأبي العباس: إن بلغك أني أفتيت بفتيا أو حدثت بحديث ما كنت بالعراق فاعلم أني مجنون.
وقال وكيع1: والله لكأنَّ النبي الذي بُعِثَ بالحجاز ليس بالنبي الذي بُعِثَ إلى أهل العراق. وقال في الكوفة: إنها دار الضرب، وقال عمر بن عبد العزيز لإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لما استأذنه في الخروج للعراق: أقرهم ولا تستقرهم، وعلمهم ولا تتعلم منهم، وحدثهم ولا تسمع حديثهم، وقال ابن شهاب2: يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا.
ومثل هذا من المدنيين في ذم العراقيين كثير، لكنه محمول عندي على أهل الأهواء؛ لأنها دار الخوارج ومنبع الشيعة ومستقر البدع، أما أهل السنة ففيهم علم وفضل وسنة، ولذلك اتفق الجمهور على ترك التضعيف بهذا، فمتى كان الإسناد جيدًا كان الحديث حجة حجازيًّا أو عراقيًّا أو شاميًّا أو غيرها، وكم من حديث في الصحيحين المجمع على قبول ما فيهما كل رواته عراقيون، لكن أحاديث المدنيين أقوى.
قال في أعلام الموقعين: هي أم السنة، وهي أشرف أحاديث الأمصار، ولذلك تجد البخاري أول ما يبتدئ في الباب به ما وجدها كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة، هذا، وإن أهل كل بلد أعلم بعوائد بلدهم، وأحوال سلفهم، وسنن آبائهم، وقضايا حكامهم، دون من
1 ابن الجراح.
2 محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري.
سواهم من غير أهل بلدهم، وممن يأتي بعدهم هذا مما لا ينازع فيه منصف ولا تقوم بغيره حجة لمتكلف، فلذلك تمسك أهل كل بلد بما عندهم من سنة أو رأي أو قضاء، وأعرضوا عمَّا سواه، وكان الأمر بلغ شدة في آخر أيام بني أمية في الاختلاف، وتمسك كل بلد بما عندهم، وإصرار أهل العراق على الرأي وما روي عندهم من السنن، واشتد الخلاف بينهم وبين أهل الحجاز، فكان أهل الحجاز يطعنون فيهم بظهور المبتدعة في العراق، ووضع الزنادقة الأحاديث، ومنه ظهرت فتنة عثمان، وإن اشترك معهم فيها أهل مصر، وبه وقعت الملاحم العظام بين المسلمين في وقعة الجمل ثم صفين1، ومنه خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة والجهمية، وبها كان المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، والحجاج بن يوسف مبيد العلماء والفضلاء، ومقتل الحسين، وتشيع الشيعة.
وبها كان مبدأ دين القرامطة مجوس هذه الأمة، وهذا كله بسبب الجمعيات السرية التي تألَّفت من أعداء الإسلام المغلوبين لأهله من فرس ويهود، وابتدأ ذلك في زمن عمر بن الخطاب، ففيه كان ظهور شهادة الزور حتى قال: والله لا يؤمر رجل من المسلمين بغير عدول.
وكثر الطعن منهم على الولاة الأخيار، فقد اشتكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص بأنه لا يحسن الصلاة، والحال أنه الذي علَّمها لهم، وهو من هو علمًا ودينًا، فعزله وأوصى به، وجعله من أهل الشوى المرشَّحين للخلافة بعده لما يعلم من براءته، ثم ولي عمَّار بن ياسر، وناهيك به، فشكوه وقالوا: إنه غير عالم بالسياسة، ولا كافٍ، ولا يدري على ما استعملته، فعزله وولّى أبا موسى الأشعري بعدما طلبوه منه، فما أقام إلا سنة وشكوه طالبين عزله وقالوا: إن غلامه تجر في حبسنا1، فعزله وأعياه أمرهم حتى قال: ممن عذيري من مائة ألف لا يرضون بوالٍ، ولا يرضى عنهم والٍ.
فولّى عليهم المغيرة بن شعبة وأوصاه بقوله: ليأمنك الأبرار وليخفك الأشرار، ثم كان من شأنهم ما هو معلوم معه حتى رموه بفعل الفاحشة، ثم كان منهم مع عثمان وولاية الوليد، ورميهم له أيضًا بشرب الخمر، إلى أن عزله ثم
1 قال المؤلف رحمه الله: صفين -بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء المكسورة: اسم موضع بين العراق والشام، وقعت فيه ملاحم عظيمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
2 في تاريخ الطبري.... في حشرنا "4/ 165".
حدَّه، ثم كان منهم ما كان من الثورة وقتل عثمان.
ثم لما خرج إليهم عليٌّ لقي من اختلافهم الشدائد، وافترقوا عليه إلى خوراج، وأنكروا عليه التحكيم بعد أن أجبروه عليه باختلافهم، وتخاذلوا عن نصرته، واستهانوا بخلافته، وضاق ذرعه بهم حتى كان يقول: اللهم أبدلني خيرًا منهم، وأبدلهم شرًّا مني، فأجاب الله دعاءه ونقله للرفيق الأعلى.
ثم قاموا ببيعة الحسن وعاهدوه، لكنهم لأول صيحة من الجيش نهبوا خباءه من غير وقوع قتال، حتَّى ألجأوه للتخلي لمعاوية عن الأمر، وصار أهل العراق تبعًا لأعدائهم أهل الشام.
ثم لما مات معاوية طلبوا سيدنا الحسين وبايعوه، وهم نحو عشرين ألفًا، ثم خذلوه وأسلموه وأهل بيته، فلما قُتِلَ وفات الأمر في نصرته أظهرو الندم والتحسُّر، فعادوا في طلب دمه، مع أنهم أولى من يطالب به، فقاموا مع المختار الكذاب، وفتحوا للبغي كل باب، إلى أن سلط الله عليهم الحجاج، فأقام فيهم عشرين سنة لا يراقب فيهم إلًّا ولا ذمَّة، يأخذهم بالظنة ويعاقب البريء بجريرة المذنب ولا يقبل من محسن، ولا يتجاوز عن مسيء، قتل الأخيار والعلماء والأبرار، وبقي على ذلك إلى أن أهلكه الله.
فهذه الفتن وأشباهها لا شك أنها توجب انحطاط العلم بذهاب العلماء، وإياها عني صلى الله عليه وسلم بقوله:"الفتنة ها هنا حيث يطلع قرن الشيطان" كما في الصحيحين1 مشيرًا إلى جهة العراق، وذلك من أعلام نبوته، ثم في آخر زمن بني أمية ظهرت الشيعة من مكامنها أيضًا وكثرت الفتن، ومن تلك النواحي بدأت، حتى أقبل جيش خراسان الذي كان شيعة لبني العباس، وتغلَّب على الأمر في أول المائة الثانية، ولما أراد بنو العباس نقل عاصمة الملك إلى بغداد بالعراق لم يجدوا في العراق ما يكفي لنشر السنة إلّا بأن أتوا من المدينة بعلماء مهَّدوا السبيل، كربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وارتحل إليهم هشام بن عروة، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي.
ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك على ما سنذكره في محله، هذا ما أوجب تغيُّر الفقه في هذا العصر عن الحال التي كان عليها في عصر الخلفاء الراشدين.
1 متفق عليه عن ابن عمر: البخاري في الفترة "9/ 67"، ومسلم "8/ 180".