الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين تخريج المناط وتحقيق المناط وتنقيح المناط
…
الفرق بين تخريج المناط وتحيق المناط وتنقيح المناط:
إذا تأمت هذه الأقيسة التي تلونا عليك وجدت محلَّ الاجتهاد فيها تخريج مناط الحكم، وهو استنباط الوصف المناسب من النصِّ ليجعل مدارًا للحكم.
وهذا هو الذي منعته الشيعة ومعتزلة بغداد والظاهرية، كاستنباط أن الإسكار هو علم تحريم شرب الخمر الوادر في النص، فنحن نستنبط المناط بالرأي فنقول: حرَّمه لكونه مسكرًا وهو العلة، فنقيس عليه النبيذ، أما تحقيق مناط الحكم وتنقيح مناطه فلا خلاف بين الأمة في جوازهما ووقوعهما:
الأول: أن يقع الاتفاق على عليية وصف بنص أو إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أنت النَّبَّاش سارق بأنه وجد منه أخذ المال خفية وهو السرقة فيقطع، وهذا لاشك أنه من الاجتهاد، قال الغزالي: وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف بين الأمة فيه، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسًا.
ومن هذا الاجتهاد في تقدير المقدرات كمثلية جزاء الصيد، فإن مناط الحكم وهو إيجاب المثل معلوم من النص، قال تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1، وتحقيقه هو الحكم بأن البقرة مماثلة لحمار الوحش فينتظم الاجتهاد من أصلين، لا بُدَّ من المثل -وهذا معلم بالنص، وكون البقرة مثلًا، وهذا منظون، وهكذا قيم المتلفات، وقدر الكفاية في النفقات، وكون هذه الجهة في هذا المسجد هي القبلة، ولا خلاف بين الأمة أن هذا النوع من الاجتهاد موكول لأربابه في كل زمان وكل مكان. لا قائل بتحجيره، ولا يتصور خلو الزمان النبوي عن مثله، فقد كانت الصحابة تذهب للبعوث والولايات في الآفاق، فغير ممكن عدم
1 المائدة: 95.
عملهم بمثل ما ذكر، أو توقفهم في كل جزئية على النصِّ الخاص بها.
الثاني: هو تنقيح المناط أن يدل دليل على التعليل بوصف، فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد، ويناط الحكم بالأعم، أو تكون أوصاف فيحذف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد، ويناط الحكم بالباقي، وحاصله أنه الاجتهاد في الحذف لبعض الأوصاف، وتعيين البعض للعلِّيَّة، بأن تكون الأوصاف المحذوفة لا دخل لها في العلِّيَّة فيتعيِّن حذفها عن درجة الاعتبار ليتسع الحكم، مثاله:
إيجاب العتق على الأعرابي الذي وقع على أهله في رمضان، فإنَّا ننظر في هذا الحكم فنجده متعلقًا بمن وقع منه الجماع وهو الأعرابي، ومن وقع عليه وهو الزوجة، ونفس الجماع، وزمان الوقاع، وهو ذلك الرمضان، فنحلق بالأعرابي أعرابيًا آخر بقوله عليه السلام:"حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة"1، أو بالإجماع على أن التكليف يعم الأشخاص، بل نلحق التركي والعجمي به أيضًا، لأنا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي، ونلحق به مَنْ أفطر في رمضان آخر، لأنا نعلم أن المراد هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان، بل نلحق به يومًا آخر من ذلك الرمضان، ولو وطأ أمته لأوجبنا عليه الكفارة؛ لأنا نعلم أن كون الموطوءة زوجة لا دخل له في الحكم، بل يلحق به الزاني لأنه أشد في هتك الحرمة، بل والاستمناء باليد؛ لأن المقصود هتك حرمة الشهر، فهذا تنقيح المناط بحذف ما عُلِمَ أنه لا دخل له في التأثير، وليس هذا من السبر والتقسيم الذي تحصر فيها الأوصاف، ثم يبطل منها ما لا يصلح للعلِّيَّة بطرقه فتتيعن العلة، بل في هذا تعيين الفارق وإبطاله. قال الغزالي: ولا نعرف بين الأمة فيه خلافًا. ونازعه العبدري بأن من ينكر القياس ينكره لرجوعه إليه، وهذا النوع مما لا شك في وقوعه في الزمن النبوي أيضًا بكثرة. نعم، قد يتردد بعض الأوصاف بين كونه طرديًّا أو مؤثرًا كالأكل والشرب في نهار رمضان؛ إذ يمكن أن يقال: مدار الكفارة إفساد صوم الفرض، وذلك كما يحصل بالجماع يحصل بالأكل والشرب، ويمكن أن يقال: إن النفس لا تنزجر عند هيجان الشهوة للجماع
1 ليس له أصل، وروى الترمذي بمعناه حديث أميمة بنت رقيقة في باب بيعة النساء من السير، ولفظه:"إنما قولي لمائة أمرأة كقولي لامرأة واحدة""ج4/ 151"، ورواه أيضًا النسائي في البيعة "ج7/ 134"، ويأتي كلام المصنف على الحديث الذي ذكره في القسم الثاني من الكتاب.
لمجرد الوازع الديني، فيحتاج إلى كفارة بخلاف الأكل والشراب.
ومن ذلك أيضًا حديث الصحيح: سئل عليه السلام عن فأرة سقطت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه" 1، فالفأرة وصف خاصٌّ، لكن لا عبرة بخصوصه، بل المعنى الذي أوجب ضياع المال وقوع نجس فيه، ولا خصوصية للسمن بل كل مائع، وضابطه أن يترادَّ بسرعة إذا أخذ منه شيء، وكونه مائعًا ورد التقييد به في بعض طرق الحديث عند أبي داود والنسائي، وكون راويه وهو الزهري لم يقل بالتقييد لا يضرنا؛ إذ حجتنا فيما روى لا فيما رأى، على أن الرواية المطلقة فيها ما يدل على التقييد وهو قوله:"ألقوها وما حولها" فلا يكون لها حول إلا إذا كان جامدًا، ولو كان مائعًا لم يكن له حول؛ لأنه لو نقل من أي جانب لخلفه غيره في الحال، فيصير الكل حولًا لها فيلقى جميعه، وفي رواية الدارقطني فيقوَّر ما حولها2، وجاء ابن حزم فخصَّ الحكم بالفأة، فلو وقع خنزير عنده لم ينجس إلّا بالتغير3، وقال أحمد: إن المائع إذا حلَّت فيه نجاسة لا ينجس إلا بالتغير، واختاره البخاري وابن نافع المالكي4، أما السمن فلم يفرق أحمد بينه وبين العسل مثلًا، مما هو مثله في الجمود، أما إذا وقعت الفأرة ولم تمت وخرجت حية، فاتفقوا على أنها لا تضر ما لم تنجس، ووقعت رواية لمالك بعدم التقييد بالموت، فالتزم ابن حزم الذي يقول بعدم حمل المطلق على المقيد، بأن الفارة توثر ولو خرجت حية.
فهذان مثالان من تنقيح المناط، وههنا يحتاج الفقيه إلى مزيد فكر، ويمكن أن يخرج على ذلك ما قدح به عليه السلام في قياس معاذ في التمزغ بالتراب، وقضية عمرو بن العاص، فتأمل ذلك والله أعلم لا رب غيره.
1 أخرجه البخاري في الوضوء "ج1/ 65"، وأبو داود في الأطعمة "ج3/ 364"، والترمذي "ج4/ 291"، والنسائي "ج7/ 157".
2 سنن الدراقطني "ج4/ 291".
3 المحلى "ج1/ 175" المسألة رقم "136".
4 ابن نافع عند المالكية اثنان: الصائغ: وهو عبد الله بن نافع أبو محمد، وهو أثبت في مالك، ويروي عنه سحنون، والزبيري وهو عبد الله بن نافع الأصغر أبو بكر. الديباج المذهَّب "1/ 409، 411".