الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تألب الأثريين ضده:
بقدر اتساع شهرته وفشوِّ فتاويه ازداد تألبُّ الحجازيين ضده، ورموه تارة بنبذ السنة وعدم الاعتراف بها، وتارة بقصور الباع فيها، وحاشاه منهما معًا، إمام من أئمة المسلمين الهداة، آخذ بالسنة، وروى منها كثيرًا كما سبق، وقد قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، فكل ما يوجد في مذهب أبي حنيفة من مخالفةالسنن، فإما أن يكون لم يطَّلع عليها لكونه أخذ بأحاديث العراقيين دون الحجازيين والشاميين إلّا ما قلّ، وفي هذه الصورة يتعين ترك مذهبه، والتمسُّك بالسنة، وفي مثل هذه الصورة يذم التقليد في جميع المذاهب، ويتعين الخروج من ربقته؛ لأن الإحاطة بالعلم إنما هي لله، والعصمة إنما هي لمقام النبوة.
وليس أبو حنيفة أو مالك برسل بعثوا، وإنما هم مجتهدون يخطئون ويصيبون، وإما أن يكون اطَّلع على قادح أو معارض فتركها، وهنا يحتدم الجدال بين أرباب المذاهب في القادح، هل هو مؤثِّرٌ أم لا، وفي المعارض هل هو مقدَّم أم لا.
انتقاد القياس والاستحسان وجوابه:
لقي مذهبه صدمتين عظيمتين من فئتين عظيمتين، هما جمهور علماء الإسلام في القرن الثاني، وهما المحدثون والمتكلمون من أهل السنة، شنّوا عليه غارة شعواء، فأهل الحديث يرون أن السنة أصل مكين في التشريع، مكمل للقرآن من غير أن ننظر إلى علل الأحكام، فنقيس عليها ولا إلى أصول عامة فنستحسن، ومن المحدِّثين نشأ أهل الظاهر الجامدون على نصوص الشرع بالحرف، غير ناظرين إلى مقاصدها وعللها، فإذا لم يجدوا نصًّا قالوا: لا ندري، وأحجموا عن الفتوى زاعمين أن مذهب الكوفيين فلسفة فارسية صيّرت الفقه الذي هو شرع وتعبُّد عمليًّا وضعيًّا من أوضاع البشر.
وقالوا: إننا إذا نظرنا إلى المعنى أو العلل صرنا مُشرِّعين بفكرنا، لا ممتثلين متعبدين، ولزم انحلال الشريعة وعدم الوقوف عند حدها، مع أنَّا نرى القوانين البشرية لا يتجاسر عليها، بل يوقف عند حد منطوقها ومفهومها، فكيف بما هو شرع إلهي.
ولولا الوقوف عند نصوص الشرائع ما انضبط حكم، بل كان ذريعة للحكم بالهوى، فكل من كان له غرض وكان له فضل بيان ونظر، أمكنه أن يدَّعي القياس والعلل، ويعجز من لم يكن ذا قدرة على البيان عن الحجة، ولذا قال عليه السلام:
"فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" 1، فاتباع النظر والقياس انخلاع عن قيد الشرع.
وكم لهم من عبارة قاسية ضد أهل الرأي، حتى إنهم إذا عابوا أحدًا قالوا: إنه عراقي أو من أهل الرأي، وانضاف إليهم المتكلمون من أهل السنة، فرأوا أن الشريعة تعبُّد محض لا نظر فيه ولا مجال للقياس والرأي، فكل ما ثبت عن الشرع لزم التعبد به؛ لأنا إذا قلنا: إن هناك عللًا ومصالح لزم تعليل أفعال الله، والله منزَّه عن الغرض وأن يصله نَفْعٌ من خلقه، ويلزم أيضًا التحسين والتقبيح العقليان، وهذا مدار الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، وإن خالف المتكلمون المحدثين في كون السنة أصلًا من أصول التشريع، ولهذا نجد بعض أتباع أبي حنيفة من رءوس المعتزلة؛ كبشر "156" بن غياث المريسي، الذي تنسب إليه المريسية، طائفة من المرجئة، المتوفى سنة "267" سبع وستين ومائتين2.
ومحمد "175" بن شجاع الثلجي، المتوفى سنة "267" سبع وستين ومائتين3 وغيرهما.
وكل هذه العواصف تلقَّاها الحنفية بصدر رحيب ولم يؤثر عليهم، فإنهم رأوا أن الشريعة ليست شريعة جمود وآصار، بل وضعت عنا الآصار التي كانت على مَنْ قلنا كما بينه القرآن، وهي شريعة عامَّة دائمة، ولا تدوم ولا تعم الأمم إلّا إذا كانت معقولة المعنى، ويتطور كثير من أحكماها بتطور الأحوال والأزمان والأمم، وقد عاينَّا في آيات وأحاديث الإرشاد إلى العلل والقياس كما سبق لنا ذلك.
وعلى كل حالٍ لا ينكِرُ القياس في الدين إلّا جامد جاهل به، والقرآن مملوء من الاستدال به على الكفار في العقائد، فأحرى الفروع.
1 رواه الجماعة: البخاري في الأحكام "9/ 89"، ومسلم في الأقضية "5/ 129"، وأبو داود "3/ 301"، والترمذي "3/ 615"، والنسائي "8/ 205"، وابن ماجه "2/ 777".
2 انظر ترجمته: في تاريخ بغداد "4/ 56"، وميزان الاعتدال "1/ 322"، ولسان الميزان "2/ 29"، والنجوم الزاهرة "2/ 228".
3 ترجمة الثلجي في: تاريخ بغداد "5/ 305"، والجواهر المضية "2/ 60"، وتذكرة الحفاظ "2/ 184"، وميزان الاعتدال "3/ 577"، وتهذيب التهذيب "9/ 22".
قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة} 1 الآية، وقد فطر الله عباده على أن حكم النظير حكم نظيره، وحكم الشيء حكم مثيله، وعلى إنكار التفرقة بين المتماثلين والجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله شرعًا يأبى ذلك، وقد جعل الجزاء من جنس العمل، فمن أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة، لا توكي فيوكي الله عليك، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، إلى غير ذلك، وشريعتنا الحكمية منزَّهة عن أن تكون أوامرها ونواهيها مجرَّدة عن دفع المضارِّ وجلب المصالح، وكيف تأمر بشيء لمصلحة أو تنهى عن شيء لمفسدة، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة، وكيف لا تأمر بشيء توجد فيه تلك المصلحة، أو ما هو أكثر منها. هذا لا يعقل، لذلك فالقول بالقياس ليس مخصوصًا بالحنفية، بل هو عند سائر الأئمة إلّا قليلًا.
وإنما الحنفية لهم نوع توسع عيب عليهم الإغراق فيه فقط، قال المزني2: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا، وهلمَّ جرَّا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس، وذلك كله لا ينافي كون السنة أصلًا أصيلًا إذا وجدت وتوفرت فيها الشروط، أما عند فقدها فالقياس أصل يرجع إليه إذا وجد له أصل معين يُقَاسُ عليه، وإلّا فنرجع للأصول العامة وهو الاستحسان.
أما ما اعتبرناه عللًا فليس هو ما يقصدون من تعليل أفعال الله حتى يكون فاعلًا بالعلة والاضطرار، لجعلكم العلل عقلية، فحاشاه من ذلك -جلَّ وعلا، وإنما هي علل شرعية، علَّلَ الشارع الحكم بها وأداره عليها وجودًا وعدمًا، ونصبها أمارات عليه، فلا غرض ولا علة لأفعال الله، ثم هناك مصالح وحكم راجعة إلينا لا إليه تعالى.
كذلك مسألة التحسين والتقبيح لا مساس لها بمسألتنا، وإنما ذلك خيال ومغالطة؛ لأن التحسين والتقبيح الذي ينكره الجميع هو استقلال العقل بالتحليل والتحريم، والثواب والعقاب، قبل الشرع وحكمه بالإيجاب عليه تعالى، وهذا
1 البقرة: 259.
2 إسماعيل بن يحيى. الانتقاء "111".