الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمله في القضاء:
كان عمر من أنفذ الصحابة بصيرة في الفقه والاجتهاد في القضاء، موفقًا مسددًا، أو هو أمهر مجتهدي الأمة وأكثرهم توفيقًا وتسديدًا، ومن فقهه العظيم كتابه إلى أبي موسى الأشعري وهو قاضٍ من قِبَلِه في البصرة ونصه:
"أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، آس بين1، 2 الناس في وجهك وعدلك ومجلسك3، 4، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادَّعى5، 6، واليمن على من أمكر.
والصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا7، 8، ولا يمنعك قضاء قضيت9، 10 بالأمس فراجعت فيه عقلك وهُدِيت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل11، 12.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أشبهها بالحق.
1، 2 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين بإسقاط لفظ: بين.
3، 4 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين: في مجلسك ووجهك وقضائك.
5، 6 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين: على المدعي.
7، 8 قال المؤلف رحمه الله: في إعلام الموقعين بعد قوله: حلالًا: ومن ادعى حقًّا.
غائبًا أو بينة، فاضرب له أبلغ في العذر وأجلى للعلماء، ولا يمنعك.. إلخ.
9، 10 قال المؤلف رحمه الله: لفظ الإعلام. قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه، فإن الحق قديم لا يبلطه شيء ومراجعة الحق
…
إلخ.
11، 12 قال المؤلف رحمه الله: لفظ الإعلام بعد قوله في الباطل: والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربًا عيله شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنينًا في ولاء أو قربة، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلّا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والنكر عند الخصومة أو الخصوم "شك أبو عبيد يعني روايه" فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شأنه الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلّا ما كان خالصًا، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله. قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر. قال: لا.
واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلّا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعماء.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حدٍّ، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالأيمان والبينات.
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحَّت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله، فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام. بنقل القاضي الباقلاني في إعجاز القرآن1.
وهذا الكتاب كافٍ في معرفة سعة مدارك عمر في الفقه والتشريع وأحكام الضوابط، وفيه التنصيص على أصول مهمة كقياس الشبه، وتقديم الكتاب على السنة، ثم هي على الرأي، ولذلك خصّ بالشرح، وشرحه في أعلام الموقعين بنحو ثلاثة أسفار فانظره تر ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استنبطت كيفية القضاء وأحكامه، قال في أعلام الموقعين: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه عليه.
وتقدَّم نصّ ما كتب به إلى قاضيه بالكوفة شريح، كما تقدَّم لنا زيادته في حد الخمر، مما يدل على أنه لم يكن يرى أن كل شيء تعبدي، ولا يستحسن الجمود في الأحكام، بل يتبع المصالح وينظر للمعاني التي هي مناط التشريع رضي الله عنه، وقد أسلفنا في ترجمته تنظيمات وأعمالًا أخرى لهذا الخليفة العظيم، وبالجملة فعمر سيد أهل الفقه والاجتهاد والتقوى في هذه الأمة، ولم يلحقه في ذلك أحد.
قال ابن خلكان في ترجمة الثوري: يقال كان عمر في زمانة رأس الناس، وبعده عبد الله بن عباس في زمانه، وبعده الشعبي، وبعده سفيان الثوري. ومع هذا
1 أخرجه الدراقطني من طريقين في سننه "4/ 206".
كله فقد كان أكثر الناس إنصافًا لمن هو دونه، وأكثر المفتين والأمراء انقيادًا للحق علي أي لسان ظهر، لا يستنكف من إظهار الإنصاف واعتراف بالقصور، وهو في الحقيقة كمال وفضل، وانصياع للحق، فقد خفي عليه توريث الزوجة من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن سفين الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يورِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها1.
وخفي عليه أن المجوس تكون لهم ذمة، وتؤخذ منهم الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر2.
وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض، فكان يردّهن حتي يطهرن ثم يطفن، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع3، وكان يفاضل بين الأصابع في الدية حتى بلغته السنة بالتسوية فرجع إليها4، وكان ينهى عن متعة الحج ثم رجع لما بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها5.
وأعجب من هذا أنه نهى عن التسمّي بأسماء الأنبياء، مع أن محمد بن مسلمة من أشهر الصحابة، وأبا أيوب وأبا موسى، حتى أخبره طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فرجع6.
ومثل ذلك ما وقع فيه في الوفاة النبوية في قوله: من قال إن محمدًا قد مات ضربت عنقه، ولما سمع من أبي بكر تلاوة قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} الآية قال: والله كأني ما سمعتها7.
1 أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح "4/ 426".
2 سبق تخريجه.
3 في فتح الباري "3/ 380" ما يفيد أنه رضي الله عنه لم يرجع عن رأيه في هذه المسألة، إنما الذي ثبت رجوعه ابنه عبد الله.
4 انظر نيل الأوطار "7/ 75".
5 ادّعاء المؤلف أن عمر رضي الله عنه رجع عن نهيه من متعة الحج غير محرر، انظر التعليق.
6 لم أجد هذا الأثر، لكن في مجمع الزوائد "8/ 48" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن محمد بن طلحة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه محمدًا.
"7 حديث عائشة في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه في المغازي "6/ 17"، وليس فيه ذكر مقالة عمر هذه، وأخرجه ابن ماجه "1/ 520"، وأحمد "6/ 220"، وفي روايتهما أنه رضي الله عنه قال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم.
ومنع من زيادة المهور على خمسمائة درهم صدقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، حتى احتجّت عليه امرأة بقوله تعالى:{وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية. قال: كل أحد أفقه منك يا عمر حتى النساء1، فهذا عمر الذي وافق ربه في بضعة عشر موضعًا، وهو سيد الفقهاء والمجتهدين، وهو من المحدثين الملهمين، وقع له مثل هذا ولا غضاضة عليه في ذلك.
ومع إنصافه مَنْ دونه لا يعظم امرؤ أمامه في الحق، فإنه يواجهه به ولا يبالي، ففي الصحيح أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فجلس، فقال له: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: ما هو إلّا أن سمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال له: والوضوء أيضًا، ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل يوم الجمعة2، فلم تمنعه جلالة عثمان الذي هو أجلّ الناس بعده إذ ذاك من الإنكار عليه على رءوس الأشهاد.
ومع علمه الواسع خرج من الدنيا وهو يشكو جهل ثلاثة أحكام، ويتمنى أن لو عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ميراث الجد، والكلالة، وأبواب من الربا، والحديث في الصحيح وقد خطب بذلك على الملأ قبيل وفاته رحمه الله3.
1 أما نهي عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور فروه أبو داود "2/ 235"، والترمذي "3/ 413"، والنسائي "6/ 96"، وابن ماجة "1/ 706" وأحمد "1/ 40، 48"، كلهم عن أبي العجفاء السلمي قيل اسمه هرم بن نسيب، وثقه ابن حبان والدراقطني، وقال البخاري: في حديثه نظر، قلت: ورواه أيضًا الحاكم عن سعيد بين المسيب. المستدرك "3/ 175"، أما زيادة إنكار المرأة على عمرو احتجاجها بآية النساء فرواها الخطيب البغدادي بإسناده عن مسروق بن الأجدع. الفقه والمتفقه "1/ 141، 142 " ط. دار إحياء النبوية "1395هـ" وذكرها القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} "5/ 99".
2 متفق عليه: البخاري "2/ 2"، ومسلم "3/ 2".
3 مسلم في الفرائض "5/ 61".