الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنة مستقلة في التشريع:
اعلم أن الحق عند أهل الحق أن السنة مستقلة في التشريع، فقد يرد فيها ما لم يذكر إجماله ولا تفصيله في القرآن كزكاة الفطر، قال خليل: يجب بالسنة صاع.
وكصلاة الوتر، وكحد الزاني المحصن؛ لأن آية:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" حكمها حكم السنة؛ لأنها نسخ لفظها ولم ترو إلينا تواترًا، وإن وقع الإجماع على الحكم بها، فالسنة كالقرآن يثبت بها تحليل الحلال وتحريم الحرام، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وتحريم لحوم الحمر الإنسية1، وكوجوب الكفارة على منتهك حرمة رمضان، وما لا يحصى كثرة، خلافًا للخوارج.
قال في أعلام الموقعين: أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر مما فيه لم تنقص عنه، وما يروى من طريق ثوبان من الأمر بعرض الأحاديث على القرآن، فقال يحيى بن معين: إنه من وضع الزنادقة، وقال الشافعي: ما رواه أحمد عمن يثبت حدثيه في شيء صغير ولا كبير2.
وقال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم: عن عبد الرحمن بن مهدي، إن الزنادقة وضعوا حديث:"ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فأنا قلته، وإن خالف فلم أقله"، ونحن عرضنا هذا الحديث نفسه على قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وغيرها من الآيات الدالة على الأخذ بالسنة، فتبيَّنَ لنا أن الحديث موضوع كرّ على نفسها بالإبطال3.
1 لكن مالك وأبو حنيفة أخذ تحريم الخمر والبغال والخيل من قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} ولم يقل لتأكلوها، فلذلك قال بتحريم الخيل أيضًا، مع ثبوت حليتها بالسنة في الصحيح. المؤلف.
2 انظر "ج2/ 309".
3 جامع بيان العلم وفضله "ج2/ 191".
قلت: ومن الأدلة على وضعه أن في القرآن آيات لو عُرِضَ على عمومها بعض السنن لردته، ومع ذلك أجمعوا على العمل بالسنة، والإجماع معصوم.
كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1، فعمومها يقتضي جواز الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. والسنة تمنع ذلك، والإجماع على العمل بالسنة، وقال تعالى:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، وجاءت السنة بأن الدية على العاقلة، والإجماع على ذلك إلّا عثمان البنيّ -من التابعين- يراها على القاتل.
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 3 الآية، وأن السنة حرمت الحُمُر الإنسية وأمثال هذا.
قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، قال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه وتبين المراد منه، ومقالة الأوزاعي أنكرها الإمام أحمد بنت حنبل قائلًا: بل السنة تبيّن القرآن وتفسره. نقل ذلك ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية، قال ابن القيم: وقد أنكر أحمد والشافعي على من ردَّ أحاديث رسول الله لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن، وللإمام أحمد في ذلك كتاب سماه طاعة الرسول، والذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف الكتاب، بل السنن مع القرآن ثلاث منازل:
المنزلة: الأولى: سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهدت به الكتب المنزلة، وتوارد هذه من باب توارد الأدلة كالتأكيد.
المنزلة الثانية: سنة تفسير الكتاب وتبين المراد منه وتقيد مطلقه وتخصيص عامه، كالحديث الصحيح المبين أن الظلم في قوله تعالى:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 4 وهو الشرك، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل، وأن قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} 5 هو في
1 النساء: 24.
2 الأنعام: 124.
3 الأنعام: 145.
4 الأنعام: 82.
5 إبراهيم: 27.
القبر حين يسأل إلى غير ذلك.
المنزلة الثالثة: سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانًا مبتدءًا كالحكم بالشاهد واليمين، وتحريم الرضاع وما يحرم من النسب، والرهن في الحضر، وميراث الجدة وغيره مما رفع البراءة الأصلية، وأمثال هذا كثير، وليس هذا من النَّسخ في شيء؛ لأنه إنما رفع البراءة الأصلية، ولا يجوز رد واحدة من هذه الثلاث، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة:"بتصرف وزيادة"1.
قلت فيه: إن هناك منزلة رابعة: وهي السنة الناسخة للكتاب المتواترة على رأي الجمهور، أو الآحاد على القول بها كحديث:"لا وصية لوراث" 2، وحديث:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 3، الناسخ لقوله تعالى:{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 4، فإن الحاكم لو اقتصر على الجلد لوافق القرآن وخالف السنة، وهذا محل النزاع بين الحنفية وبقية المذاهب، وقد استدرك هذا القسم في أعلام الموقعين، وأطال فيه، فانظره عدد "382"من المجلد الثاني5.
ثم قال في الطرق الحكمية: لو ساغ ردَّ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية، فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلّا ويمكن أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها، ويقول: هذه السنة مخالفة لهذا العموم أو هذا الإطلاق فلا تقبل، وهؤلاء الروافض ردوا حديث:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث" 6 بعموم آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 7، وردت الجهمية
1 الطرق الحكمية ص72، ط. العلمية بالمدينة المنورة.
2 أبو داود "ج3/ 114"، والترمذي "ج4/ 433 "، وابن ماجة "ج2/ 905"، وغيرهم.
3 أخرجه مسلم "ج5/ 115"، وأبو داود "ج47/ 144"، والترمذي "ج4/ 41"، وابن ماجة "ج2/ 853".
4 النور: 2.
5 أعلام الموقعين "ج2/ 309".
6 متفق عليه: البخاري "ج8/ 185"، ومسلم "ج5/ 153"، بلفظ: $"لا نورث ما تركناه صدقة".
7 النساء: 13.
أحاديث الصفات بظاهر: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، وردت الخوارج أحاديث الشفاعة، وخروج أهل الكبائر الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن في آيات الوعيد، والجهمية أحاديث الرؤية بظاهر آية:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 2، والقدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن، وردت كل طائفة ما ردته، فإمَّا أن يطرد الباب في قبولها، ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن، وإما أن يطرد الباب في رد لكل، وما من أحدٍ ردَّ سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلّا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك، وقد أنكر أحمد والشافعي على مَنْ ردَّ أحاديث تحريم كل ذي3 ناب من السباع بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 4.
وروى أحمد وابو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الدلائل عن أبي
1 الشورى: 11.
2 الأنعام: 103.
3 قال المؤلف رحمه الله: حديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كلِّ ذي ناب من السباع رواه الستة جميعًا كما في شرح المشكاة، وهو في البخاري والموطأ بلفظ: وحديث نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير. رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة كما في المشكاة، وقد حكى ابن رشد الإجماع على إباحة كل طير ولو جلّالة وذا مخلب، وبحث معه في الإجماع، وعلى كل حالٍ فهو مشهور المذهب الذي في المختصر وغيره، أخذًا بظاهر القرآن وتقديمًا له على السنة كما هو أصل المذهب، أما ذو الناب من السباع: فمشهور مذهب مالك الكراهة في السبع والضبع والثعلب والذيب والهر وإن وحشيًّا، ولم يردّ المالكية الحديث بل حملوه على الكراهة، قالوا: لعدم صراحة لفظ:"نهى" في الحرمة جمعًا بينه وبين القرآن المصرح بقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ..} الآية. ومذهب الموطأ: تحريم كل ذي ناب من السباع لحديث عبيدة بن سفيان الحضرميّ مرفوعًا: "كل ذي ناب من السباع فهو حرام" ونحوه في البخاري، ولعمل أهل المدينة أيضًا، ففي الموطأ قال مالك: وهو الأمر عندنا. وإن كان ظهر المدونة الكراهة، واعتمده ابن العربي وغيره، واعتمد ابن عبد البر صريح الموطأ، ثم إن مالكًا من أصول مذهبه تقديم ظاهر القرآن على صريح السنة، كما يأتي في ترجمته، فلذلك قال بحرمة الخيل على ما في المختصر، لكن خالف هذا الأصل فحرم ذا الناب من السباع، من أن ظاهر القرآن الإباحة، المسألة فيها نزاع كبير، انظر الزرقاني على الموطأ فقد حررها، والمشهور في المذهب هو كراهة الفرس والسباع فقط، لتعارض الأدلة على ماحرره الرهوني.
3 الطرق الحكمية ص"73" ط. العلمية بالمدينة المنورة سنة 1391هـ.
رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم جالسًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به ونهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه"1.
وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبوع، ولا لقطة من عهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" رواه أبو داود ورواه الدارمي2 بمعناه أيضًا إلى قوله: "كما حرم الله"، ويؤيد مضمون الحديثين قوله تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم:{يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية3، وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 4.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 5، إلى غير ذلك.
وقال الشافعي في الأم نقلًا عن أبي يوسف في كتابه نقد سير الأوزاعي ما نصه: عليك من الحديث بما تعرف العامة، وإياك والشاذ منه، فإنه حدثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا على عيسى، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال:"إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني".
1 أبو داود "ج4، ص200"، والترمذي "ج5/ 37"، وابن ماجه "ج1/ 6، 7" وأحمد في مسنده، انظر الفتح الرباني للساعاتي "1/ 92.
2 أبو داود "ج4/ 200، والدارمي "ج1/ ص117"، واللفظ المذكور مجموع من اللفظين.
3 الأعراف: 157.
4 النساء: 65.
5 آل عمران: 32.
مسعر بن كدام والحسن بن عمارة بن عمرو بن مرة، عن البختري، عن علي بن أبي طالب قال:"إذا أتاكم الحديث عن رسول الله فظنوا أنه الذي أهدى، والذي أنقى، والذي هو أحيا، إلى أن قال: فإياك وشاذّ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث، وما يعرفه الفقهاء، فقس الأشياء على ذلك، فما خالف القرآن فليس عن رسول الله، وإن جاءت به الرواية". حدثنا الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "إني لأحرم ماحرم القرآن، والله لا يمسكون على بشيء" فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إمامًا وقائدًا، واتبع ذلك وقس عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك في القرآن والسنة"1.
هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف، ورده عليه بأن التقيد بما يعرف الفقهاء ليس بصواب أيضًا، وكذلك ردّ الحديث الغريب أيضًا ليس بصواب، وإنما الصواب هو أن الشاذ وهو ما خالف ما هو أقوى منه من قبيل الضعيف، وما سوى ذلك فمقبول ولو غريبًا، فإن الغرابة لا تنافي الصحة. وجل ما يرده الحنفية من السنة ويقدمون القياس عليها، فحجتهم هو ما ذكره أبو يوسف، وذلك كله لا يقبله المالكية ولا الشافعية ولا الحنابلة ولا أئمة الحديث والله الموفق.
1 الأم "ج7/ 338"، وإذا أردت فيهم هذه المسألة فأرجع إلى كتاب الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف من ص23، إلى ص32، وعليك بالتعليقات فإنها قيمة، ثم ارجع إلى شرح أصول البزودي لعبد العزيز البخاري "ج3/ من ص10".