الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموطأ:
فصنَّف مالك الموطأ، وتوخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوَّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وتبويبه، فكان كتابًا حديثيًّا فقهيًّا، جمع بين الأصل والفرع.
فهو أول تدوين يعتبر في الحديث والفقه؛ إذ أقبل الخلق عليه وانتفعوا منه لتحريه في النقل، وانتقاء أحاديثه ورجاله، وفصاحة عبارته، وحسن أسلوبه الذي استحسنه كل من بعده إلى الآن، وهو أول من تكلم في أصول الفقه، وفي الغريب من الحديث، وفسَّر كثيرًا منه في موطأه هذا1.
ووصل كتابه تواترًا إلى الآفاق في حياة مؤلفه، قال في كشف الظنون: قيل: إنه هو أول كتاب أُلِّفَ في الإسلام، وقد أقام في تأليفه وتهذيبه نحو أربعين سنة، ولذلك تلقاه علماء الأمصار بالقبول، وهوأول من وضع اسمًا لكتابه فسماه الموطأ؛ لأنه وطأه ومهده، أو واطأه عليه علماء وقته، فقد قال: إنه وافقه عليه سبعون عالمًا من علماء المدينة، وكان أكبر مما هو عليه الآن بكثير، قيل: كانت أحاديثه عشرة آلاف فصار يهذّبه وينقص منه كل ما فيه طعن من الأحاديث والرجال، وما لم يقع به عمل الأئمة، إلى أن صارت أحاديث المسندة المتصلة نيفًا وخمسمائة.
قال مالك: لقيني أبو جعفر المنصور -يعني في الحج- فقال لي: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك، أما أنا فقد اشتغلت في السياسة، فأما أنت فضع للناس كتابًا في السنة والفقه تجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمرو وشواذ ابن مسعود ووطئه توطئًا، قال مالك: فعلمني كيفية التأليف، يعني: دله على طريق الاعتدال التي هي أقوم طريق في التأليف والفتوى، وقد أقبلت الأمة وعلماؤها عليه في حياة مالك وأعجبوا به، ورحلوا إليه لأخذه عنه من جميع أقطار الإسلام، وانظر أول شرح الزرقاني على الموطأ تعلم أسماء من رحلوا إليه وأخذوا عنه من أعيان علماء الأفاق، ومن أسباب إقبالهم عليه أن أبا جعفر أو الرشيد قال له
1 قال المؤلف رحمه الله: فلذلك اعتبره بعض الناس واضع التفسير، وتقدَّم في ترجمة ابن عباس رده.
يومًا: أردت أن أعلق كتابك هذا في الكعبة وأفرقه في الآفاق وأحمل الناس على العمل به حسمًا لمادة الخلاف، فقال له مالك ما معناه: لا تفعل، فإن الصحابة تفرقوا في الآفاق، ورووا أحاديث غير أحاديث أهل الحجاز التي اعتمدتها، وأخذ الناس بذلك، فاتركهم على ما هم عليه. فقال له: جزاك الله خيرًا يا أبا عبد الله.
فانظر اتساع مالك، ترك للناس حريتهم، ولم يجعل للسياسة دخلًا في كتابه، فأقبلوا عليه باختيارهم.
قال ابن العربي: الكتاب الأول واللباب: الموطأ، والثاني: صحيح البخاري، ولقد كان مالك أوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل ابنه، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأصحابه من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية، قال ابن رشد في المقدمات، وابن العربي وغيرهما: الموطأ مقدّمة في الفقه على المدونة1.
ومناقب الموطأ كثيرة، ودليلها في نفسها، فليقرأها من أراد اليقين، وكفى أنها المادة العظمى للكتب الستة وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، حتى قيل: إن الكتب الستة مستخرجات عليها، ولذلك يعتبر مالك حائزًا قصب السبق في تأليف الفقه وأصله الحديث، ومخرجهما إلى عالم التدوين، وقد خطَّ خطًّا في التأليف لعلماء الإسلام استحسنوه فتبعوه واهتدوا بنور مصباحه، وموطأه تواترات في حياته واتصلت إلينا أسانيدها، والتفت وجوه العالم الإسلامي نحو أسانيدها، ودام النفع بها نحو اثني عشر قرنًا إلى زماننا هذا، لم تخلق على طول المدى، وكل المذهب تحتاج إليها وتعتمدها، ولم يكتسب تقادم العصر صنيعها، إلا طلاوة وقبولًا، وبظهور أفكار الإمام فيها زاد الأئمة تبصرًا واهتداءً، وكانت سببًا في انتشار مذهبه في الدنيا، وقد اعتدل الحنفية لما رحلوا إليها وأخذوها.
1 قال المؤلف رحمه الله: هذا رأي هذين الإمامين، ولكن هما أنفسهما مع بقية المالكية خالفوها في مسائل، واعتمدوا رواية أبي القاسم في المدونة في مسائل معدودة عند المالكية، أفردت بالتأليف تقليدًا منهم لعمل أهل الأندلس.